19 - 06 - 2024

حرب غزة 2023.. إسرائيل تواجه خيارات صعبة بخصوص مستقبل غزة

حرب غزة 2023.. إسرائيل تواجه خيارات صعبة بخصوص مستقبل غزة

يُصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وأركان حكومته على مواصلة العدوان على غزة، ويرفضون تحديد أفق زمني لإنهاء العملية العسكرية التي أطلقها هجوم "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي، ذلك أن استمرار الحرب هو الطريقة الوحيدة للحفاظ على بقاء الحكومة اليمينية الحالية في السلطة. 

وبينما يستمر الجدل بين نتنياهو وبين مسؤولين أمريكيين كبار حول ضرورة تغيير نمط العدوان على أمل أن يُسهم ذلك في نجاح الجهود الرامية إلى الحيلولة دون توسع الحرب مع حزب الله ولبنان، حدث تطوران داخل إسرائيل لهما دلالة كبيرة فيما يخص مستقبل حكومة نتنياهو، وأيضاً بخصوص مستقبل الوضع في غزة. وسيكون للأمرين معاً، تأثير بعيد المدى بالنسبة لمستقبل القضية الفلسطينية، التي تستعصى على كل محاولات التصفية. 

وإذا أضفنا إلى ذلك إلى الدعوى التي أقامتها دولة جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية بخصوص جريمة الإبادة واحتمال نظر قضايا أخرى تتناول جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبتها إسرائيل، فإن هذه التطورات جميعا سيكون لها تأثير حاسم على مستقبل مشروع الصهيونية المتجددة في المنطقة. 

وكي لا يأخذنا الطموح بعيداً، تجدر الإشارة إلى أن تحولات المشروع الصهيوني لا تعني، بأي حال، زوال إسرائيل ككيان قائم في المنطقة، في المدى المنظور على الأقل، وإنما يعني وضع حدود لجموح هذا المشروع، ليس استناداً إلى القواعد والمعايير الدولية وحدها، نظراً لغض القوى المؤثرة في المجتمع الدولي الطرف عما ترتكبه إسرائيل من انتهاكات، وإنما بسبب قدرة الشعب الفلسطيني على المقاومة وصموده الذي يضع حدودا لما يمكن أن تحققه القوة المفرطة التي تمارسها إسرائيل من نتائج على الأرض، وبالتالي وضع حدود لتصورات قوى اليمين الصهيوني المتجدد.

قد لا يروق هذا التوقع لكثير ممن يحلمون أو يؤمنون بحتمية زوال إسرائيل، مثلما لا يروق الحديث عن بقاء حماس كلاعب رئيسي في المعادلة الفلسطينية، للإسرائيليين عموماً، ولكثير ممن يعارضون نهج حماس وأيديولوجيتها في منطقتنا العربية. 

ولهؤلاء وأولئك أقول إنه بدون الاعتراف بالحقائق القائمة على الأرض، والإقرار بحدود ما تستطيع القوة والعنف تحقيقه، لا يمكن الحديث عن أي تسوية أو هدنة مستقرة، وإذا استمر تحكم التصورات الإيديولوجية في الصراع مع إسرائيل، فإن الوضع مرشح لاستمرار الجولة الراهنة من المواجهة العسكرية لفترة زمنية أطول، بما ينطوي عليه ذلك من مخاطر بالنسبة للاستقرار الإقليمي والأمن والسلم العالميين، أو لتكرار المواجهات العسكرية سواء في غزة أو في الضفة الغربية، أو ربما على جبهات أخرى قد تُفتح في المستقبل. 

كذلك، من المهم التنويه إلى أن التوصل إلى تسوية سياسية ما للقضية الفلسطينية تحقق الحد الأدنى من شروط التسوية المقبولة فلسطينيا وعربياً، وتتماشى مع قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، وهو أمر قد يكون من المستبعد أن تقبله النخبة الحاكمة الآن في إسرائيل، لا يعني بالضرورة طي صفحة الصراع، فهذا أمر مخالف للمنطق والواقع في ضوء الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل والتي أدت إلى تداعيات خطيرة بالنسبة لأوضاع اليهود في العالم، التي سيكون لها تأثير مباشر على الأوضاع الداخلية.

وقد بدأت النخبة الإسرائيلية الأوسع تدرك، على ما يبدو، خطورة سياسات الحكومة اليمينية الراهنة، وخطورة تأثير اليمين الاستيطاني المتطرف، وبدأت أجنحة في التحالف الحاكم تتخذ إجراءات لاحتواء الموقف، لكن هذه الإجراءات ليست كافية، وستظل هناك حاجة للإقدام على خطوات أكثر جذرية.

ثمة مؤشرات تدل على تحول في موقف نتنياهو وحكومته وفي الموقف الإسرائيلي بشكل عام، من الحرب في غزة، لكن ليس واضحا بعد، إلى أي مدى ستتقبل الحكومة الإسرائيلية وسيتقبل الرأي العام الإسرائيلي الحقائق على الأرض بعد انتهاء الحرب، وسيظل هذا الغموض قائماً إذا أصرت الحكومة الإسرائيلية على طرح تصورات خاصة بمستقبل الوضع في غزة، دون ربط هذه التصورات بتصور واقعي لمستقبل الوضع الفلسطيني بشكل عام، وإذا لم تقدم تصوراً عملياً بديلاً لحل الدولتين. 

البحث المستحيل عن الأمن المفقود 

أحد الإشكاليات الرئيسية في موضوع غزة وما تشكله من تهديد لأمن إسرائيل، ناجم عن سلسلة الخطوات والإجراءات التي اتخذتها الحكومات اليمينية في إسرائيل للتعامل مع الوضع هناك، بما يتيح لها تفكيك النتائج التي ترتبت على اتفاقية أوسلو. ذلك أن معارضة اليمين الإسرائيلي للاتفاقية والرغبة في تصفيتها لا تقل ضراوة عن معارضة حماس والجماعات الفلسطينية الأخرى. 

هذا الوضع هو المسؤول بشكل أساسي عن الحروب المتكررة بين إسرائيل وقطاع غزة، والتي تبرز طبيعة المعضلة الأمنية التي تواجهها إسرائيل في غزة. من الواضح أن فارق القوة بين إسرائيل وبين فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع لا يحقق لإسرائيل الأمن المنشود، ويجعل المستوطنات اليهودية في غلاف غزة، المقتطع أصلاً من مساحة القطاع بموجب اتفاقيات الهدنة عام 1949، هدفاً مشروعا للمقاومة الفلسطينية، فضلاً عن أن التعثر في التوصل إلى اتفاق على تسوية القضية الفلسطينية على أساس صيغة حل الدولتين، يجعل المطلب الفلسطيني بتحرير كامل تراب فلسطين وفق حدودها التاريخية التي وضعت تحت الانتداب البريطاني بموجب قرار عصبة الأمم، مطلباً مشروعاً أيضاً. وإذا تكرر وضع مشابه في الضفة الغربية نتيجة لرغبة إسرائيل في تقويض السلطة الفلسطينية، فإن هذا يزيد من المعضلة الأمنية التي تواجهها إسرائيل، ويزيد من تعقد الخيارات المتاحة لها للتعامل مع هذه المعضلة. 

إن إصرار الحكومة الإسرائيلية على صيغة الأمن المطلق، وهي صيغة مستحيلة لأن الوضع الطبيعي لأي دولة هو أن تواجه معضلتها الأمنية الخاصة، وعليها أن تنطلق من هذه الحقيقة لوضع السياسات الكفيلة للتعامل معها. 

لقد لخص الرئيس السابق لجهاز الشاباك الإسرائيلي، يعقوب بيري، هذه المشكلة في تعليقه على وعد قدمته الحكومة لسكان غلاف غزة بربط مسألة تحقيق الأمن الشامل لهم بإنهاء قدرة حماس، الأمر الذي جعل من الصعب إقناع الأغلبية العظمى من هؤلاء السكان بالعودة إلى منازلهم، إذا فشلت إسرائيل في القضاء على قدرات حماس العسكرية، ومن المحتمل أن يزيد عدم الاتفاق، حتى الآن، على خطة مقبولة لدى إسرائيل للوضع في اليوم التالي لانتهاء الحرب، في ضوء الخلاف العميق مع الإدارة الأمريكية التي ترغب في تسليم السيطرة على القطاع إلى السلطة الفلسطينية، أو تسليم القطاع إلى تحالف عربي يجري تشكيله وتلعب فيه مصر والأردن والإمارات والمغرب دوراُ فعالًا، وهي اقتراحات تقدم حلولا عملية متعارف عليها للتعامل مع المعضلة الأمنية عبر التفاهمات القائمة على فكرة التنازلات المتبادلة.

لقد أظهرت الحرب الراهنة في غزة فشل الصيغ المختلفة التي اقترحتها إسرائيل أو طبقتها للالتفاف على حل الدولتين وللإفلات من استحقاقات اتفاقية أوسلو. ويختبر الوضع الراهن أيضاً جدوى سياسة "الطوق الأمني" التي اتبعتها إسرائيل لتمرير المخططات التوسعية الرامية إلى تهويد مدينة القدس وتقطيع أوصال الضفة الغربية وفصل جنوبها عن شمالها، لمنع قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، وسعيها لرسم الحدود وفرضها من جانب واحد بما يمرر حل الدولة الواحدة، والتي تكملها سياسات الترحيل، الطوعي أو القسري للفلسطينيين في غزة، والتي وصفها مقال منشور في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بأنه "خيال لن يدوم"، والذي تعامل مع قصور النظرة الإسرائيلية للفلسطينيين باعتبارهم بشرا مختلفين، غير مساوين لليهود، لتبربر الفظائع التي ترتكب في حقهم، والتصدي أيضاً لبعض "الأوهام" التي لازمت اليهود منذ تأسيس دولة إسرائيل، والتي من بينها إخلاء فلسطين من العرب، والتي تضع خيار "التهجير" في أعلى هرم التخيلات. 

أنهي صمود الفلسطينيين وبقاؤهم في قطاع غزة رغم التدمير الواسع وعمليات القتل التي تصل إلى حد الإبادة التي تبت فيها محكمة العدل الدولية طموح إسرائيل لفرض خيار التهجير. فعلى الرغم من تجاوز عدد الشهداء من المدنيين الفلسطينيين 23 ألف شهيد، على أقل تقدير، وهو عدد من المرشح أن يزداد بشدة مع وفاة أعداد كبيرة من الجرحى بسبب نقص الرعاية الطبية اللازمة بسبب القيود على دخول المستلزمات الطبية وما تتعرض له المستشفيات من اعتداءات وقصف ، إلا أن تحدي الفلسطينيين لهذا العدوان الإسرائيلي المستمر، بإصرارهم، ليس فقط على البقاء على الأرض، وإنما بالعودة إلى المناطق التي هجروا منها في شمال القطاع، هو إعلان بهزيمة إسرائيل وفشلها في تحقيق أي من أهدافها من هذا العدوان. 

ورغم استمرار الحرب لأكثر من 100 يوم، فإن إسرائيل والتحالف الدولي الغربي الداعم لها، فشلا في تحقيق أي أهداف استراتيجية بعيدة المدى، متمثلة في التهجير وتصفية القضية الفلسطينية، وأحلامهم في السيطرة الإقليمية عبر اتفاقيات للتطبيع مع دول الخليج العربية ومع دول أخرى في الشرق الأوسط، والأهم من ذلك أنه بات واضحا لكثير من المراقبين في إسرائيل وخارجها استحالة تحقيق هدف القضاء على حركة حماس وفصائل المقاومة، وتدمير قوتها حتى لو استمرت الحرب في غزة 100 عام، بل فشل العدوان الإسرائيلي في إجبار حماس على الاستسلام، وكسر إرادتها من خلال العنف الساحق، وأن حماس أثبتت من خلال الحرب أنها عدو هائل وقادر على المقاومة وإعادة بناء قدراته وتعويض خسائره. وفي اللحظة التي تدرك فيها إسرائيل أن الأمر لا يتعلق بحماس وإنما بإرادة المقاومة والصمود لدى الشعب الفلسطيني ستبدأ في إعادة التفكير في صيغ الأمن الممكنة القائمة على فكرة الأمن المتبادل وتكافؤ المصالح، والتي تفتح الباب لمناقشة السيناريوهات المختلفة لحلول تحقق الحد الأدنى المقبول للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

سيناريوهات الحل

لقد قامت الاستراتيجية الصهيونية، في العقود المنصرمة، على عدد من المبادئ الأساسية، في مقدمتها السعي لفرض حقائق جديدة على الأرض بكل الوسائل الممكنة، وتبني استراتيجية هجومية ودفع العدو لمنطقة الدفاع. 

إن تَعلُّم الفلسطينيين والقوى الإقليمية المساندة لهم الدرس وسعيهم للاستفادة من التجارب السابقة مكًّنهم من التعامل مع إسرائيل بذات المنطق. ونجحوا منذ انتفاضة أطفال الحجارة في ديسمبر عام 1987، في تغيير المعادلة والانتقال من الدفاع إلى المبادرة والهجوم وتوسيع وسائل الكفاح لتشمل أساليب الكفاح السلمي إلى جانب الكفاح المسلح والتركيز على الدبلوماسية والوسائل السياسية لتحويل عوامل الضعف الفلسطينية إلى عومل قوة، وما أحدثته هذه الانتفاضة من تحولات أدت إلى اتفاقيات أوسلو التي حققت اختراقاً تاريخياً للفلسطينيين من خلال إجبار إسرائيل على الاعتراف ليس فقط بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، وإنما أيضا بالشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة في أرضه، وهو أمر مرفوض تماماً من التيار اليميني الذي يحكم الآن.

لقد رسمت عملية أوسلو مساراً محدداُ للحل قائم على فكرة التدرج والمرحلية مع تحديد ملفات لصيغة لحل دائم للمشكلة الفلسطينية، لكن تعثر العملية بسبب رفض قوى لدى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ومساعيهم لتخريبها، فضلاً عن عدم الاهتمام ببناء توافق فيما بينهما حول صيغ الارتباط بين الكيان الفلسطيني الذي قد ينشأ وبين دولة الاحتلال في المستقبل، وكذلك بناء توافق إقليمي عام بخصوص شكل علاقة دول الإقليم بالكيانين وكيفية التعامل مع الترتيبات التي يمكن أن تنشأ مستقبلاً، علاوة على صعوبة الملفات التي يجب التعامل معها من أجل التوصل إلى حل دائم، جعلت التقدم في التسوية صعبا، رغم التوصل إلى بعض التصورات من خلال جلسات للتفاوض في سياق هذه الصيغة كان آخرها في مطلع عام 2001، مع بعض الجهود التي تبذل من أجل إحراز تقدم على طريق حل المشكلة الفلسطينية.

إن وضع غزة وصعوبة وضع تصور متفق عليه لكيفية إدارة القطاع في المستقبل القريب، يعكس إلى حد كبير غياب رؤية محددة تحظى بتوافق من الأطراف المنخرطة في الصراع لما يجب أن يكون عليه الحل النهائي، ومن غير المرجح أن تلقى صيغة حل الدولتين تأييداً من الأطراف المتحكمة في القرار على الساحتين الإسرائيلية والفلسطينية في الوقت الراهن، ذلك لأن صيغة حل الدولة الواحدة هي الصيغة التي يصر كل طرف من طرفي الصراع على المضي قدماً لتحقيقها، رغم أنها صيغة غير عملية كأساس لتسوية تحد من المظاهر المسلحة والعنيفة للصراع، نظراً لإيمان كل طرف بإمكانية فرض تصوره للحل من خلال الصراع المسلح. وتكمن المفارقة، في نظر البعض، أنه بالرغم من امتلاك الطرف الإسرائيلي القدرة العسكرية اللازمة لإلحاق هزيمة بحركة حماس، والقدرة على طرد الفلسطينيين قسرا، بمن فيهم حماس، من خلال القصف والحصار والتجويع وغير ذلك من وسائل الإكراه، إلا أن هناك شكوكا في أن لديها الإرادة لتحقيق أي من هذين الهدفين، ذلك أن من شأن هجوم إسرائيلي أكبر لن يؤدي إلى اندلاع حرب إقليمية أوسع وانهيار اتفاقيات السلام مع مصر والأردن وحسب، وإنما سيؤدي أيضاً إلى إضعاف البنية الأمنية الأمريكية برمتها في المنطقة، مما يضع المنطقة أمام خيارات مفتوحة ليس لأحد القدرة على التنبؤ بما قد تنتهي إليه.

البديل المتاح في ضوء معطيات الوضع القائم الذي يصعب معه رؤية طريق واضح لتحقيق نصر عسكري حاسم لإسرائيل، أو لحماس، أو التوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار، مع بقاء معظم قادة حماس على قيد الحياة، وبقاء المنظمة سليمة إلى حد ما، وبقاء أكثر من نصف الرهائن الإسرائيليين محتجزين لدى حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى، ومن شأن وقف إطلاق النار على هذا النحو، سواء تم بشكل رسمي أو بشكل غير رسمي، مع الإقرار بأن حرب غزة 2023، لن تكون الأخيرة، بعدما تأكد خطأ تنبؤ بعض المسؤولين الإسرائيليين الذين وعدوا في أعقاب حرب غزة 2014، بأن الحرب القادمة في غزة ستكون الأخيرة، والأرجح أنه سيكون هناك المزيد من الجولات العسكرية في المستقبل رغم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر تتعاظم، إذا قارننا الحرب الأخيرة مع ما سبقها من حروب أخرى شهدها القطاع. وقد يعني وقف إطلاق النار على هذا النحو سقوط الحكومة الإسرائيلية على الأرجح.

قد يفرغ هذا الوضع أي حديث عن تسوية محتملة وأي اقتراحات للتسوية يجري تقديمها من مضمونها ويجعلها بلا جدوى. وسيظل الأكثر واقعية هو إيجاد صيغة لإدارة قطاع غزة بعد انتهاء هذه الجولة العسكرية غير الحاسمة، مع الأخذ في الاعتبار التحديات الكامنة في مثل هذه الصيغة، نظراً لأن قطاع غزة من أكثر المناطق كثافة سكانية في العالم، ونظراً لحقيقة بقاء حماس كقوة رئيسية وقائدة في أي صيغة مستقبلية لإدارة القطاع، فالحركة تحكم القطاع منذ ما يقرب من عقدين من الزمن، وقد استطاعت أن تقيم بنية تحتية تتمثل في وجود أكثر من 500 كيلومتر من الأنفاق تحت الأرض، وهي حقيقة تجعل حماس في وضع سيطرة فعلية ومؤكدة هناك، فضلاً عن فشل إسرائيل في تشكيل حلفاء محليين لها في غزة للمساعدة في القتال. 

ليس أمام إسرائيل والفلسطينيين بفصائلهم المختلفة والأمريكيين سوى القبول بالحقائق على الأرض، وفي مقدمة هذه الحقائق أن الوضع في غزة يحتاج إلى ترتيب إقليمي أوسع يشمل مصر والأردن وربما لبنان كدول جوار، إضافة إلى دول مثل قطر كوسيط لها قدرة على التأثير على قيادة حماس وربما دور للإمارات والسعودية كدولة داعمة مع قطر والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لخطط إعمار القطاع وتأهيله كي يكون مكانا صالحاً للحياة، وأن تكون هذا الأطراف جميعا مستعدة للتعامل مع حماس مقابل التوصل إلى صيغة لإشراك السلطة الفلسطينية في الترتيب الخاص بغزة مع السعي لإنهاء الانقسام الفلسطيني وتطوير قيادة فلسطينية مستعدة وقادرة على الانخراط في مفاوضات من أجل التوصل إلى صيغ للحل الأكثر ديمومة، والأهم من ذلك أن يفرض هذا التحالف صيغة تنهي الحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع وسكانه والتي حولته سجنا كبيرا.

إن استمرار الاعتقاد لدى الجانبين في إمكانية معركة حاسمة تحدث تحولا استراتيجيا في الوضع مسؤول إلى حد كبير عن استمرار الأوضاع على ما هي عليه، وربما كانت الفرصة لتغيير هذا الوضع قائمة في الداخل الإسرائيلي في مرحلة سابقة نظراً لوجود أغلبية نسبية يهودية ترى المخاطر المترتبة على استمرار الاحتلال للأراضي الفلسطينية وحصار قطاع غزة ومعارضة لمجمل السياسات الإسرائيلية. هذه الأغلبية تآكلت وربما تكون قد تلاشت نتيجة لهجرة المزيد من اليهودالإسرائيليين من الطبقة المتوسطة الطوعية للعيش حياة أفضل في بلدان أخرى، مع تزايد أعداد اليهود المتطرفين الذين يتبنون معتقدات يهودية تؤمن باقتراب تحقق الوعد الإلهي، وقدوم المخلص. 

ولا يمكن فهم ولا تفسير مستويات العنف التي جعلت هذه الجولة من الحرب في غزة مختلفة كثيراً عن الحروب السابقة بدون أن نأخذ في الاعتبار قوة التصور الأيديولوجي الحاكم للصراع. لكن يظل السؤال قائماً بخصوص ما إذا كانت هناك إمكانية لتغيير النمط الراهن للعداءات في المنطقة لصالح صيغة للتعايش، سؤالا مشروعا ويستحق أن نبذل جهدا للتفكير فيه.
-------------------------
بقلم: أشرف راضي

مقالات سابقة للكاتب عن حرب غزة

طوفان الأقصى.. علامة فارقة في الصراع مع إسرائيل

الحرب على غزة وتوسيع مبدأ تدفيع الثمن ليصبح عقيدة قتالية للجيش

وقفة مع "حرب غزة 2023" وسيناريوهات للمستقبل

حتى لو تم تدمير غزة لن تنتهي قضية فلسطين

تغيير البيئة الإقليمية للصراع | حرب غزة 2023، وإعادة ترتيب ضرورية لأوضاعنا الداخلية والإقليمية

حرب غزة 2023.. وتجديد الصهيونية | إسرائيل تنفذ عملية ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية

حرب غزة 2023.. حول التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية

حرب غزة 2023.. التفاعل المتسلسل الذي أوصلنا لهذا الوضع وكيف ننهيه

حرب غزة 2023.. في مواجهة الرسائل الخطيرة من قلب المعركة

حرب غزة 2023.. الحرب امتداد للسياسة إلا في غزة

حرب غزة 2023.. مفاهيم جديدة في الحرب من ميدان المعركة

حرب غزة 2023.. خيارات سعودية مصيرية

مصر والقضية الفلسطينية بعد حرب غزة: "توسيع الخيارات وهامش المناورة"

حرب غزة 2023.. إما أن تتوقف الحرب الآن أو تتوسع.. المنطقة والعالم في مواجهة الأزمة

حرب غزة 2023.. لماذا يعجز المجتمع الدولي عن إنهاء الحرب؟

مقالات اخرى للكاتب

حرب غزة 2023.. مستقبل غزة أم مستقبل فلسطين؟





اعلان