04 - 12 - 2024

تغيير البيئة الإقليمية للصراع | حرب غزة 2023، وإعادة ترتيب ضرورية لأوضاعنا الداخلية والإقليمية

تغيير البيئة الإقليمية للصراع | حرب غزة 2023، وإعادة ترتيب ضرورية لأوضاعنا الداخلية والإقليمية

في المقال السابق، تحدثت عن تغير البيئة الداخلية للصراع وتغير بيئته الإقليمية، واسترسلت في شرح التغير في البيئة داخل إسرائيل وكيف أثر هذا التغير على الطريقة التي تدير بها الحرب في غزة وحذرت بشكل واضح من خطورة هذا النهج، ليس على المدنيين الفلسطينيين وحدهم وإنما على إسرائيل ذاتها، التي وضعتها هذه الحرب في مواجهة لحظة الحقيقة وأسقطت مثلما أسقط النضال الفلسطيني على طول تاريخ هذا الصراع الكثير من أوهام الصهيونية ووضع حدا للجموح التوسعي لهذا المشروع. ووضعت هذه الحرب الكثير من النظريات والخطط والاستعدادات موضع الاختبار.. كل الأطراف أصبحت الآن في مواجهة لحظة الحقيقة.. كل الأطراف الآن أمام اختيارات صعبة في صراع وجودي ومعرفي. لذا، لن اتحدث في هذا المقال عن التغير الحادث في البيئة الداخلية الفلسطينية وفي البيئة الإقليمية فهذه التغيرات حدثت بالفعل وقد أشرت إليها في المقال السابق في إشارات سريعة، إنما سأتحدث عن تغيير البيئة الإقليمية للصراع انطلاقا من تحليل للحظة الراهنة، سعياً لتطوير استراتيجية شاملة لإدارة هذا الصراع التاريخي وتغيير طبيعته. 

شتان بين "التغير" الذي هو نتيجة لكثير من العوامل المتفاعلة، وبين "التغيير" الذي هو فعل واعٍ يستهدف التحكم في هذه العوامل من أجل تحقيق هدف مرغوب. هنا انتقال من منطقة رد الفعل والتأثر إلى منطقة المبادرة والفعل والتأثير، انتقال من منطق الدفاع إلى منطق الهجوم، انتقال إلى التخطيط وتفعيل الأدوات والموارد وحُسن استغلالها. إنه انتقال نحو الاستراتيجية الشاملة التي تستفيد من الخبرات التي تراكمت لدينا في مسيرة هذا الصراع وتعرجاته. 

قد يكون من المهم للوقوف على هذه الخبرات المتراكمة أن نلقي نظرة سريعة على التغيرات التي طرأت على البيئة الداخلية في البلدان العربية وتلك التي طرأت على البيئة الدولية، ولا بد من ملاحظة أن هذه التغيرات كانت ثمرة لعمليات دولية معقدة ليس فقط لإدارة الصراع مع إسرائيل وإنما لإدارة العلاقات الإقليمية، ونتيجة أيضا لتبدل مواقف الأطراف الإقليمية المؤثرة، والتي أسفرت عن مشهد إقليمي شديد التباين والتعقيد تبلور عبر محطات رئيسية في الصراع العربي-الإسرائيلي ثم في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

وفي هذا الاستعراض للتغيرات التي طرأت على البيئة سيجري النظر إلى بعض المقولات الأساسية التي حكمت هذا الصراع نظرة نقدية، وفي مقدمة هذه المقولات التي ظلت تردد لعقود رغم التغيرات مقولة أن القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية، وثانيا ثنائية المقاومة والتطبيع، وأخيرا الاتفاقيات الإبراهيمية والمشهد الراهن على الساحة العربية. 

قضية العرب المركزية

جرى التعامل مع قضية فلسطين باعتبارها قضية العرب المركزية، منذ "النكبة" التي مني بها الفلسطينيون والجيوش العربية التي هبت لنجدتهم في حرب عام 1948، وهي جيوش مصر والعروش الهاشمية في الأردن وسوريا والعراق. انتهت هذه الحرب إلى تقسيم أرض فلسطين وفق خطوط الهدنة التي اختلفت كثيرا عن قرار الأمم المتحدة لعام 1947 بتقسيم فلسطين على أساس الأمر الواقع حسب سيطرة القوات اليهودية والقوات العربية والتي جرى تثبيتها بموجب اتفاقيات الهدنة في رودس عام 1949، والتي سنتطرق إليها بالتفصيل في مقال لاحق، كما أسفرت هذه الحرب عن خلق مشكلة اللاجئين الفلسطينيين الذين فروا من الحرب وتوزعوا على مخيمات في الضفة الغربية التي خضعت لإدارة الأردن بموجب اتفاقيات الهدنة، وقطاع غزة الذي نقلت إدارته للإدارة المصرية، وفي دول عربية أخرى في مقدمتها الأردن التي انتقل إليها معظم اللاجئين، وسوريا ولبنان ومصر، وانتقل عددهم منهم إلى العراق وبلدان عربية أخرى لكن بأعداد أقل. لقد رسمت هذه الحرب ملامح مشكلة فلسطين التي لا تزال تشكل محور الصراع مع إسرائيل، سواء في مرحلته العربية أو في مرحلته الفلسطينية، ووضعت الأسس للعلاقة المعقدة التي نشأت بين الدول العربية والفلسطينيين التي أثرت بشدة على استقلالية القرار الفلسطيني، بسبب تدخل الأنظمة العربية في توجيه الفصائل الفلسطينية واستغلالها في الصراعات فيما بينها. 

أسفرت تلك النكبة كذلك عن تغير نظام الحكم في مصر في عام 1952، وفي سوريا والعراق، فيما تمكنت الأسرة الهاشمية من تثبيت حكمها للأردن. وحملت الجمهوريات الجديدة التي نشأت في الدول الثلاث لواء الدفاع عن القضية الفلسطينية وأعلنت استمرارها في الصراع حتى استكمال تحرير فلسطين كاملة من النهر إلى البحر ورفضت الاعتراف بإسرائيل وفرضت مقاطعة عربية شاملة لها. والتزمت الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية، على الرغم من تباين أنظمتها وانقسامها بين دول ثورية وأخرى رجعية وبالرغم من الصراعات العربية-العربية، بمقررات الجامعة العربية فيما يتعلق بقضية فلسطين، رغم أن فلسطين لم تكن ممثلة في الجامعة العربية، وظل تمثيل فلسطين في الجامعة العربية مشكلة إلى أن تأسست منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1964 كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، بعد انعقاد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في القدس نتيجة لقرار مؤتمر القمة العربي 1964 المنعقد في القاهرة، لتمثيل الفلسطينيين في المحافل الدولية، وأصبحت المنظمة هي الإطار المؤسسي للمقاومة الفلسطينية، إلا أن هامش الاستقلالية المحدود المتاح للمنظمة بدعم من مصر تقلص إثر هزيمة عام 1967، وفرض إسرائيل سيطرتها العسكرية على كامل الأراضي الفلسطينية والقدس، بالإضافة إلى ذلك سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية. 

وانتقلت منظمة التحرير الفلسطينية للأردن لاعتبارات سياسية وجغرافية وديموغرافية، واتخذته فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة لإسرائيل قاعدة لانطلاق عملياتها ضد إسرائيل حتى حدثت مواجهات مسلحة بين الجيش الأردني والفصائل الفلسطينية فيما يعرف بأزمة أيلول الأسود في عام 1970، والتي انتهت بنقل منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل المقاومة من الأردن إلى لبنان برعاية الدول العربية النافذة، وفي مقدمتها مصر وسوريا. وظلت المنظمة في لبنان وتوسع دورها في أعقاب حرب أكتوبر 1973، وأصبحت تحظى بوضع خاص في أعقاب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت في 13 أبريل عام 1975، نتيجة للتصعيد في المصادمات المسلحة بين تحالف للقوى المارونية من جهة والفصائل الفلسطينية من جهة أخرى. وتدخلت إسرائيل باجتياح لبنان ووصول قواتها إلى العاصمة بيروت في يونيو عام 1982 وخروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت وانتقالها إلى تونس بموجب اتفاق تم التوصل إليه بوساطة وإشراف أمريكيين. ومع إبعاد قيادة المقاومة الفلسطينية عن جبهات القتال في دول الطوق المحيطة بفلسطين ركزت المنظمة على النضال السياسي لتحرير فلسطين في بيئة عربية ازدادت انقساما بعد توقيع مصر اتفاقيتي كامب ديفيد في عام 1978 ومعاهدة مع إسرائيل في عام 1979، التي أدت إلى قطيعة بين الدول العربية ومصر ونقل مقر جامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس وانضمام منظمة التحرير الفلسطينية لجبهة الصمود والتصدي التي تشكلت في مواجهة مصر. 

غير أن الثورة الإيرانية في عام 1979، ثم اندلاع الحرب العراقية-الإيرانية في عام 1980، واغتيال الرئيس أنور السادات الذي وقع معاهدة مع إسرائيل في أكتوبر 1981، ثم الاجتياح الإسرائيلي للبنان في عام 1982، خفف من حدة المقاطعة مع مصر وبدأت جبهة الصمود والتصدي في التفكك نتيجة للخلافات الشديدة بين قيادتي البعث في سوريا والعراق. وقد عانت المقاومة الفلسطينية جراء تلك الانقسامات، وتوزع ولاءات فصائل المقاومة بين الدول العربية، وبلغت هذه الانقسامات ذروتها في حرب المخيمات الفلسطينية في لبنان بعد خروج منظمة التحرير الفلسطينية بين حركة فتح والفصائل الفلسطينية المدعومة من سوريا. واستطاعت فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية تجاوز هذه المرحلة والانتقال إلى مرحلة جديدة من الكفاح مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في عام 1987، انتفاضة أطفال الحجارة، وشنت حملة دبلوماسية من أجل كسب الاعتراف الدولي بها كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، الأمر الذي شكل معضلة لإسرائيل التي حاولت بشتى الطرق وعبر سلسلة من المشروعات إلى تطويق المنظمة وزعزعة وضعها، وهي المساعي التي أنهتها الانتفاضة الفلسطينية التي رسخت وضع المنظمة، الأمر الذي دفع إسرائيل إلى الرهان على حركة المقاومة الفلسطينية التي ظهرت أثناء الانتفاضة الفلسطينية في غزة، كحركة مناوئة لفتح ولمنظمة التحرير الفلسطينية وإلى الرهان على الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني. 

وأحدث الغزو العراقي للكويت في أغسطس عام 1990، انقسامات جديدة بين الدول العربية، وكان لانحياز قيادة منظمة التحرير الفلسطينية للعراق في هذه الحرب، تأثير على علاقة المنظمة بدول الخليج وبدول المعسكر المناهض للعراق، لكن سرعان ما تم تجاوز هذا الانقسام مع انطلاق مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط في أعقاب حرب تحرير الكويت في عام 1992، كمحاولة أمريكية للتعامل مع القضية الرئيسية للصراع في الشرق الأوسط ومن أجل توسيع المصالحة المصرية والأردنية مع إسرائيل لتشمل دولاً عربية أخرى، فجرى تصميم العملية من خلال مسارين، مسار للمفاوضات الثنائية المباشرة للتوصل إلى معاهدة سلام بين سوريا وإسرائيل وتسوية الصراع على الجبهتين السورية واللبنانية وأخرى متعددة الأطراف لبحث قضايا التعاون الإقليمي الأوسع. وشكل تمثيل الفلسطينيين في تلك العملية معضلة بسبب رفض إسرائيل الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، وتم حل المشكلة من خلال تمثيل الفلسطينيين من خلال وفد أردني فلسطيني مشترك. وأسفرت هذه العملية عن بدء مفاوضات سرية بين مفاوضين من منظمة التحرير الفلسطينية ومفاوضين إسرائيليين انتهت بتوقيع اتفاقيات أوسلو للسلام، تم بموجبها الاعتراف المتبادل ونقل مناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة بالكامل لإشراف السلطة الفلسطينية، مع تأجيل ما يعرف بقضايا الوضع النهائي، والتي تشمل ملف المستوطنات والقدس واللاجئين والدولة الفلسطينية لمفاوضات لاحقة. وجرت محاولة لتسوية هذه الملفات من خلال مفاوضات استضافتها إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في كامب ديفيد في عام 2000، وأدى فشل هذه المفاوضات إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في عام 2000، انتفاضة الأقصى وجمود عملية السلام.

في كل هذه الأحداث، لم تُستغل القضية الفلسطينية في الصراعات فيما بين الدول العربية ومع القوى الإقليمية الأخرى وحسب، وإنما جرى استغلالها أيضاً في الصراعات الداخلية على السلطة. وسمعنا شعارات من قبيل الطريق إلى القدس يمر عبر طهران أو عبر الكويت أو عبر بيروت، في مزايدات سياسية رخيصة وتمت مصادرة استقلالية القرار الفلسطيني عبر تمويل فصائل فلسطينية جرى استغلالها وتوظيفها سواء للتأثير على موقف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وتوجيهه، أو في عمليات لصالح هذا النظام أو ذاك، وهذا هو المعنى الدقيق لمركزية القضية الفلسطينية، التي كانت بالنسبة لأنظمة عربية أخرى ذريعة لعدم المضي قدماً في الإصلاحات السياسية المطلوبة وكانت بمثابة الشماعة التي تعلق عليها أخطاء القيادات العربية.   

ثنائية المقاومة والتطبيع

استندت المصالحة العربية مع مصر وعودتها إلى الصف العربي على تحول في الموقف المصري على خلفية ممارسات عدوانية إسرائيلية وتعثر التقدم في حل المشكلة الفلسطينية بسبب التعنت الإسرائيلي. يأتي في مقدمة الممارسات العدوانية الإسرائيلية قصف المفاعل النووي العراقي عام 1980، واجتياح لبنان في عام 1982، والمماطلة في الانسحاب الكامل من الأراضي المصرية، قضية طابا، وتوسعها في بناء المستوطنات ورفض الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والتفاوض معها، وفي الحقيقة كان هذا المطلب أحد المكاسب الأساسية لمقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال وللدبلوماسية المصرية التي طرحت من خلال المبادرة واتفاقية الإطار الثانية الموقعة في كامب ديفيد عام 1978، فقد نجحت الدبلوماسية المصرية في كسب اعتراف دولي وإسرائيلي بالقضية الفلسطينية كقضية شعب يسعى للحصول على الاستقلال وله حقوق مشروعة في أن تكون له دولة تحظى باعتراف دولي، وظلت إسرائيل تصر على رفض هذا التطور وما ترتب عليه من نتائج، غير أن إدراك منظمة التحرير الفلسطينية لهذا المكسب متأخراً ساعد في تكثيف الضغوط على إسرائيل وبدأت جبهة أخرى دبلوماسية تفتح في الصراع مع إسرائيل. 

وشنت منظمة التحرير الفلسطينية حملة دبلوماسية عالمية لكسب الاعتراف والتأييد لحقوق الشعب الفلسطيني وحققت تقدما كبيرا في هذا الصدد، خصوصاً بعد الانتفاضة الفلسطينية في عام 1987 التي كانت تجربة فلسطينية في المقاومة اللاعنفية، تُضاف إلى تجربة الثورة الهندية بقيادة المهاتما غاندي وتجربة نضال السود في الولايات المتحدة من أجل حقوقهم المدنية والتي تبلورت في حركة الحقوق المدنية وما أحدثته من تعديلات ثورية في الدستور الأمريكي وتجربة نضال الأفارقة ضد نظام الفصل العنصري لا سيما في جنوب أفريقيا وزامبيا، والتي لعبت دورا كبيرا في تغيير الرأي العام العالمي الضاغط على النظام العنصري عبر حملة عالمية للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات، وهو غاية ما يمكن أن نطمح إليه في ظل الظرف الدولي والإقليمي بل والظروف الداخلية فلسطينيا وعربيا في صراعنا المصيري مع إسرائيل، إذا لم يتمكن العمل المسلح من إحداث التغير المنشود.

الفارق بين هذه التجارب وبين التجربة الفلسطينية أن هذه التجارب كانت تركز على الهدف لا على الوسائل لتحقيق هذا الهدف، بعبارة أن هذه الحركات كانت ذات هدف استراتيجي ولم تشغل نفسها كثيرا بمسألة الوسائل والتكتيكات، فحدث نوع من التوليف والجمع بين الوسائل المختلفة وتوظيفها وتوجيهها لتحقيق الهدف المنشود، لم تنشغل هذه الحركات كثيرا بمسألة مشروعية أو عدم مشروعية هذه الوسيلة أو تلك من وسائل التحرك مثلما نفعل نحن. فلم يتم تخوين من لجأ إلى أسلوب آخر غير أسلوب الكفاح المسلح لتحقيق بعض المكاسب على الطريق لتحقيق الهدف المنشود، مثلما حدث في القضية المصرية من تخوين للرئيس المصري أنور السادات بل واغتياله وتخوين السلطة الفلسطينية بعد أن أبرمت اتفاقيات أوسلو التي نجحت في تثبيت مكسب الاعتراف بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وبمنظمة التحرير الفلسطينية وفي نقل مقر المنظمة إلى الأراضي الفلسطينية لأول مرة في تاريخ الصراع. 

وبدلاً من استثمار هذا التطور وتضفيره مع الجهود الأخرى لتحقيق الهدف الاستراتيجي دخلنا في سلسلة من المزايدات المتكررة حول ثنائية الكفاح المسلح والنهج المغاير الذي جرى اختزاله تحت مسمى "التطبيع"، لتتمزق الأدوات العربية للمواجهة وتتوزع عبر معسكرات بلغت ذروتها بتوقيع اتفاقيات تطبيع بين إسرائيل ودول عربية أخرى لم تكن طرفا في أي حرب مباشرة مع إسرائيل في إعلان لنجاح الاستراتيجية الإسرائيلية لكسر طوق رفض الاعتراف والمقاطعة بل نجاحها في توظيف تلك الاتفاقيات لتصفية القضية الفلسطينية والإجهاز على المقاومة والأسس التي ترتكز إليها على النحو الذي نراه في المواجهة الحالية.

ألحقت هذه المساجلة التي أفرزتها "ثنائية المقاومة والتطبيع" ضررا بالغا بالقضية الفلسطينية، إذ أدت إلى انقسامات على الساحة السياسية الداخلية، كما أحدثت انقسامات على الساحة الإقليمية العربية الأوسع على النحو الذي رأيناه مع انطلاق عملية مدريد للسلام في الشرق الأوسط وحديث "المهرولين" الذي انطلق من وزير الخارجية المصري عمرو موسى لإدانة اتجاه بعض البلدان العربية للدخول في علاقة مباشرة مع إسرائيل. ورغم هذا اكتسب نهج التسوية السياسية للصراع الذي انتهجته مصر جاذبية متزايدة، بلغت ذروتها وبشكل مبتذل بتوقيع الاتفاقيات الإبراهيمية بضغوط وإغراءات من الولايات المتحدة في عملية بدأت في عام 2019 ومستمرة إلى الآن من خلال مساعي تطبيع العلاقات السعودية الإسرائيلية. والأخطر من ذلك أنها أحدثت انقساما وصراعا على الساحة الداخلية الفلسطينية بين السلطة الفلسطينية وحركة فتح من ناحية، وبين فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى وفي مقدمتها حركتي حماس والجهاد الإسلامي من ناحية أخرى. 

لقد ألحقت هذه الانقسامات التي أصبحت ملمحا للبيئة الإقليمية الأوسع لهذا الصراع مع دخول إيران وتركيا إلى حلبة المزايدات على قضية العرب المركزية. فقد أصبحنا في وضع إقليمي متشابك ومعقد له قسمات ثلاث رئيسية تتمثل في محور المقاومة المسلحة ومحور المقاومة اللاعنفية، ومحور التسوية السلمية الذي يضم دولا تدعو للتسوية السياسية للصراع عبر المفاوضات لتعديل شروط المواجهة لكنها تعيد تقييم الموقف وتمارس الضغوط، ويضم أيضا دولا اندفعت للتطبيع دون شروط، وسعيا وراء مكاسب قصيرة الأجل ومباشرة. والموقف الذي نراه الآن في هذه الجولة من جولات الصراع ليس سوى نتيجة متوقعة ومترتبة على هذا الوضع. وهذا الوضع هو النقطة التي يتعين علينا الانطلاق منها في سعينا لتغيير البيئة الإقليمية وإعادة ترتيب أوضاعنا الداخلية والإقليمية، وأشير إلى ثلاثة محاور أساسية لهذه العملية التي تتيح لنا وضع وتطوير استراتيجية شاملة لإدارة الصراع.

أولاً، على المستوى الفلسطيني وهو المستوى الأولى بالاهتمام والتركيز لأن الفلسطينيين هم أصحاب القضية الأساسيين وهم من يقفون في وجه آلة البطش العسكرية الإسرائيلية، لا بد من الإقرار بأنه وحده صاحب القرار فيما يخص شؤونه وعلينا دعمه ومساعداته في الحفاظ على المكتسبات القليلة التي حصل عليها والعمل على توسيع هذه المكتسبات وتطويرها من خلال مساعدته لاستكمال مهمة بناء أسس الدولة الفلسطينية المرتقبة في المستقبل. ولا بد من بذل جهود مشتركة ومنسقة من أجل إنهاء الانقسام الفلسطيني-الفلسطيني والخروج من ثنائية المقاومة والتطبيع والانتقال إلى تطوير استراتيجية شاملة لمقاومة الاحتلال بكل الأساليب الممكنة بما يوقف نزيف الخسائر البشرية والمادية التي تؤثر على قدراته على الصمود والمقاومة. 

ثانياً، على مستوى الأوضاع السياسية الداخلية في البلدان العربية التي ظهرت بعض حكوماتها في المواجهة الحالية بمظهر المتواطئ الداعم للعدوان الإسرائيلي من خلال إدانة المقاومة وتحميل هذه المقاومة مسؤولية ما يحدث، ولم يحدث ذلك من خلال تقييمات داخلية للمحاسبة والتنبيه على الأخطاء، إنما حدث على الملأ، وأخرى متخاذلة غير قادرة على التحرك تحت وطأة مشكلاتها الداخلية وأزماتها الناجمة عن أزمة الحكم لديها وقمع مواطنيها والتقليل من شأنهم ومن دورهم رغم أنهم الرصيد الحقيقي في المواجهة وهم الذين يتحملون وطأة هذا الصراع. 

إن تغيير المعادلة وانتزاع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني يتطلب عملية تغيير جذرية تنزع من يد إسرائيل أي مبرر لمعاملة الفلسطينيين على هذا النحو، متبجحة بأن الحكومات العربية فعلت في الشعب الفلسطيني وفي شعوبها هي ما تفعله هي مع الشعب الفلسطيني الذي يقاومها. من المؤسف أننا نرى بعض الحكام الغربيين والعرب يرون أنه ليس أمام إسرائيل سبيل آخر غير ما تفعله من أجل الدفاع عن نفسها وعن سكانها. إن تحرير فلسطين يجب أن يكون مصحوبا ومتزامنا بتحرك من أجل تحرر الشعوب العربية ذاتها وحصولها على حقوقها وحرياتها المسلوبة.

ثالثاً، يتعين على الدول العربية التي دخلت في اتفاقات غير مشروطة مع إسرائيل تحت شعار "السلام مقابل السلام" أن تراجع مواقفها وأن تسعى لممارسة ضغوطها وتستخدم ما لديها من أوراق لإجبار إسرائيل على وقف عدوانها على غزة، ووضع حد لهذا العدوان وللإفراط في استخدام القوة الذي سيفشل في تحقيق الهدف وهو القضاء على المقاومة وتصفية القضية الفلسطينية وتجميد أي مشروعات مقترحة للتعاون مع إسرائيل إلى أن يتم الشروع في تحقيق تسوية توفر قدرا من الاستقرار الذي يضمن تلك الاستثمارات ومشروعات التعاون التي قد تتضرر بشدة نتيجة لتجدد الحروب والعنف في هذه المنطقة.
----------------------------
بقلم: أشرف راضي 

سلسلة مقالات طوفان الأقصى

طوفان الأقصى.. علامة فارقة في الصراع مع إسرائيل

الحرب على غزة وتوسيع مبدأ تدفيع الثمن ليصبح عقيدة قتالية للجيش

وقفة مع "حرب غزة 2023" وسيناريوهات للمستقبل

حتى لو تم تدمير غزة لن تنتهي قضية فلسطين


مقالات اخرى للكاتب

صباحيات | أبو زعبل 89 | عندما تعيد السينما بناء الواقع وتجيب على أسئلة شائكة