من الظواهر التي تم اكتشافها من خلال الكيمياء والفيزياء ظاهرة "التفاعل المتسلسل" التي تُشير إلى سلسلةٍ من التفاعلات المتعاقبة، التي يؤدي فيها كل تفاعل إلى نتائج تساهم في حدوث التفاعل التالي دون أي تأثيرٍ خارجيٍّ. واكتشف الكيميائي الألماني ماكس بودنشتاين هذه الظاهرة في عام 1913، وهي من الظواهر التي تنطبق أيضا في ميدان التفاعلات الاجتماعية والسياسية، فكثير من الصراعات التي تنشأ بين جماعات مختلفة تمضي من خلال التفاعل المتسلسل هذا. ويساعدنا علم الفيزياء وعلم الكيمياء على التعرف على مراحل مثل هذه التفاعلات وسيرورتها وكيفية التحكم فيها وإنهائها، لكن الدراسات الاجتماعية لم تقطع شوطاً كبيراً في الوصول إلى معرفة القوانين الحاكمة لهذه التفاعلات في الظواهر الاجتماعية بمثل الصرامة التي تحققت في العلوم التجريبية، لكن يمكن الاستفادة مما أحرزته تلك العلوم في الميدان الاجتماعي.
حددت دراسة الفيزياء والكيمياء ثلاثة مراحل للتفاعل المتسلسل، هي: مرحلة البدء ويتم في هذه المرحلة تكوّن أو تكوين الوسيط التفاعلي من خلال تأثير عامل فيزيائي مثل الضوء أو الحرارة أو من خلال محفز كيميائي، ثم مرحلة الانتشار التي يتفاعل فيها الوسيط مع المواد الأصلية لتؤدي هذه التفاعلات إلى نتائج مستقرة أو تنتج وسيطا آخر يتفاعل بدوره مع المواد الأصلية والنتائج المستقرة لتبدأ دورة جديدة متكررة، تلي مرحلة الانتشار، مرحلة الإنهاء، الذي قد يحدث بشكل طبيعي نتيجة لاستهلاك جميع المواد المتفاعلة ضمن التفاعل المتسلسل أو بالتدخل بإدخال مثبطات للمواد المنشطة والمتفاعلة أو مضادات أكسدة تحفز انتهاءه. وتميز الأبحاث بين نوعين، هما التفاعل المتسلسل الخاضع للسيطرة والتفاعل المتسلسل غير الخاضع للسيطرة، التي تحدث في التفاعل النووي الذي يعد أحد أهم مجالات تطبيق هذه الظاهرة.
هناك أيضا تفاعلات اجتماعية بين البشر، صراعية كانت أم تعاونية، تعرف مثل هذا التفاعل المتسلسل، لكن هناك فارقاً جوهرياً يرجع إلى أن المكونات المتفاعلة في الظواهر الاجتماعية، وهم البشر، يمتلكون إرادة واعية يمكنهم من تعديل طريقة تفاعلهم بما يؤثر في نتيجة التفاعل وتغير مساره، لكن لابد من التنبه لوجود حالات تتعطل فيها تلك الإرادة الواعية، وتتعطل القدرة على التكيف نتيجة لموروثات وتراكمات تجعل من الصعب على الأطراف المنخرطة في الصراع تعديل مواقفها، وقد يستدعي ذلك إدخال محفزات أو مثبطات خارجية للتأثير على مسار الصراع ونتيجته وتعديل مسار التفاعل المتسلسل. وتقدم الحرب الراهنة في غزة حالة مثالية، وبياناً عملياً لكيفية عمل التفاعل المتسلسل في ميدان صراع معقد وممتد مثل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بتشابكاته الإقليمية والدولية، والتي تجعله صراعا ذا طبيعة خاصة ومستعصي على الحل.
إن عنف الصراع الحالي في غزة وحدته، من حيث الخسائر البشرية والمادية، تعكس حقيقة أن من يتحكم في القرار على جانبي الصراع هي القوى الأكثر جذرية، التي لا تؤمن بحلول وسط، وتخوض صراعا صفرياً، وتعتقد في إمكانية حسم الصراع بالاستخدام المفرط للقوة المسلحة بغرض تصفية أو إبادة الخصم إما بدفعه للرحيل أو بقتله، هذه القوى مستعدة لتحمل ذلك القدر من الخسائر الذي يمكن أن يتحمله أو يتقبله المجتمع على الجانبين، من أجل تحقيق هدف مرجو وضع سلفاً، أو من أجل بلوغ الأهداف التي يجري تطويرها أثناء المعركة، وفقا لموازين القوة والنتائج على الأرض. ويختلف تقدير هذه القوى استناداً إلى مدى استيعابها لحدود ما يمكن تحقيقه من خلال القوة التي تملكها، وبغض النظر عن وسائل القوة التي يملكها الخصم، إلى أن تصل إلى قناعة من خلال التجربة بحدود ما يمكن تحقيقه باستخدام القوة، فيتم البحث عن أدوات ووسائل أخرى. في مثل هذه الصراعات المسلحة غالباً ما يتم النظر إلى الهدنة باعتبارها فرصة يمكن للخصم استغلالها لإعادة بناء قوته لاستئناف القتال والسعي لتغيير الموقف عبر سلسلة من التحركات والقيام بمناورات هدفها الرئيسي خداع الخصم، أو فرض الأمر الواقع، وهذا يزيد من صعوبة التوصل إلى مثل هذه الهدنة حتى لو كانت لاعتبارات إنسانية.
في هذا المقال، سنحاول وضع تصور للتفاعل المتسلسل في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، منذ توقيع اتفاق أوسلو على الساحتين، الإسرائيلية والفلسطينية، كي نستكشف المسار الذي اتخذته العلاقة بين الجانبين حتى وصلنا إلى هذه الجولة.
نقطة الانطلاق في هذا التحليل هي اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين، في الرابع من نوفمبر 1995، على يد متطرف يهودي من أصول يمنية، والذي استهدف وقف تنفيذ اتفاقية أوسلو التي تقضي بانسحاب إسرائيل من أراضٍ في الضفة الغربية المحتلة ونقل إدارتها للسلطة الفلسطينية، إذ يؤمن قاتل رابين ومحرضوه من معسكر اليمين القومي واليمين الديني بأن هذه الأرض هي "منحة الرب للشعب اليهودي" ولا يجوز ابداً مبادلتها أو التخلي عنها لأي سبب من الأسباب. قتل رابين كان إيذاناً ببدء عملية تستهدف تحقيق سيطرة للقوى الأكثر تشدداً على الساحة السياسية الإسرائيلية وعلى مراكز صنع القرار فيما يخص الصراع مع الفلسطينيين، ومن شأن هذا التحول أن يستدعي المتشددين على الجانب الفلسطيني، ليدخل الصراع مرحلة جديدة، مع تحكم المطلقات الدينية والقومية في توجيهه.
شارون ونتنياهو وتعزيز هيمنة اليمين
لم يؤد اغتيال رابين إلى انقلاب مباشر في الموقف الإسرائيلي من عملية أوسلو، إذ أظهر كل من شمعون بيريز، وخلفه إيهود باراك، اللذان خلفا رابين في المنصب حتى عام 2001، رغبة في تنفيذ اتفاق أوسلو. ومضى باراك، وهو جنرال بالجيش وحصل كضابط عمليات خاصة على أكبر عدد من الأوسمة، إلى مدى أبعد، فأمر في 24 مايو 2000، بسحب قوات الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان إلى الحدود الدولية، منهيا تواجده الذي استمر 18 عاما في الشريط الحدودي. واستأنف محادثات السلام مع السوريين التي توقفت بعد اغتيال رابين في يناير 2000، لكنها انتهت دون التوصل إلى تسوية، وأجرى مفاوضات مع الفلسطينيين للتوصل إلى تسوية دائمة، بوساطة أمريكية لكنها لم تسفر عن تقدم لاتساع الهوة بين ما عرضه وما يطالب به الفلسطينيين مقابل تسوية نهائية للصراع، وفشل الجانبان في التوصل إلى حل وسط ضروري للتوصل إلى حل نهائي، رغم التقدم الذي أحرز في بعض الملفات في جولات مفاوضات لاحقة.
وكان دخول أرييل شارون زعيم المعارضة الليكودي، إلى ساحة المسجد الأقصى، في 26 سبتمبر 2000، في تحرك استفزازي للفلسطينيين، بمثابة المحفز لتفاعل متسلسل أدى إلى إعادة تشكيل الساحة السياسية في إسرائيل وأحدث مساراً قوض من التقدم الذي أحرز على صعيد حل الصراع مع الفلسطينيين، الذين ردوا على استفزازه بانتفاضة عرفت باسم انتفاضة الأقصى تخللتها مواجهات مسلحة في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، وحصارا فرضه الجيش لمقر السلطة الفلسطينية في رام الله، استمر عامين، مما أظهر للعالم أن غزة بقطاعاتها الثلاثة، لا تزال خاضعة للاحتلال الإسرائيلي.
في سياق هذه المواجهة تكشف للحكومة الإسرائيلية اليمينية بزعامة شارون، العبء الذي يشكله استمرار احتلال قطاع غزة عسكرياً وكذلك العبء الذي يشكله الاحتفاظ بمستوطنات هناك، وكيف يؤثر ذلك العبء على التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية وإحكام السيطرة اليهودية على مدينة القدس ومحيطها. ذلك أن تغيير الوضع في الضفة الغربية هو الذي من شأنه أن يقوض الأسس الذي قام عليها اتفاق أوسلو التي تعتبره قوى اليمين في إسرائيل خطأ ارتكبته الحكومة اليسارية وحركة السلام في إسرائيل. ولضمان عدم تكرار مثل هذا الخطأ يتعين توجيه إضعاف معسكر أحزاب اليسار والقوى التي تقبل حل الدولتين، أو تلك القوى المستعدة لمبادلة الأراضي مقابل اتفاقيات للسلام، وهي مهمة بدأها شارون وأكملها نتنياهو الذي كان أكثر قربا من الأحزاب الدينية المتطرفة مقارنة بشارون الذي كان أكثر علمانية.
وبدأ شارون عملية لإعادة انتشار الجيش والمستوطنات في الأراضي الفلسطينية نتيجة لفشل إسرائيل في منع إطلاق الصواريخ من غزة خلال معركة أيام الغضب. وأسست "خطة فك الارتباط أحادية الجانب" أو "قانون الانسحاب"، التي أقرها الكنيست في ربيع 2005 ونفذتها الحكومة الإسرائيلية على مراحل في صيف عام 2005 لوضع جديد للعلاقة مع الأراضي الفلسطينية. في إطار هذا المشروع، أُخليت المستوطنات ومعسكرات الجيش الإسرائيلي من قطاع غزة، إضافة إلى أربع مستوطنات أخرى متفرقة في شمال الضفة الغربية. وأخلى الجيش الإسرائيلي المستوطنين الذين رفضوا مغادرة المستوطنات قبل 15 سبتمبر 2005 قسرًا.
كانت الخطة تقضي بإخلاء المستوطنات دون أي مفاوضات مع الفلسطينيين، لكن بعد وفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات وتسلم محمود عباس السلطة الفلسطينية، وبُذلت جهود للتنسيق مع الفلسطينيين، لكن فوز حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في يناير 2006، وقرار إسرائيل عدم التعامل مع الحركة، وبالتالي مع السلطة الفلسطينية، عطل تلك العملية. وفرضت إسرائيل حصاراً على القطاع بعد أن فرضت حماس سيطرتها عليه وطردت ممثلي السلطة الفلسطينية منه وطرد مراقبي الاتحاد الأوروبي من المعبر في يونيو 2007، والذي أدى إلى انقسام في السلطة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس فشلت جهود الوساطة التي قامت بها مصر وأطراف أخرى في إنهائه.
وأدى الحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع إلى جولات عسكرية في أعوام 2008 و2009 و2012 و2014 وآخرها الجولة الراهنة 2023. واستغلت الحكومات اليمينية في إسرائيل هذا الانقسام لعرقلة العملية السياسية مفضلة التعامل الأمني والعسكري مع الملف الفلسطيني، وشن حملة دبلوماسية نشطة لكسب التأييد على المستويين الدولي والإقليمي من خلال اتفاقيات تطبيع مباشرة، دون تقديم مقابل، معلنة انتهاء صيغة الأرض مقابل السلام، التي تمثل ركناً أساسياً في مفاوضات السلام العربية.
داخلياً، سعى حزب الليكود بزعامة نتنياهو لإحكام سيطرة اليمين على السلطة في إسرائيل بوسائل سياسية وقانونية، رغم فضائح الفساد التي لاحقت أقطابه منذ شارون مرورا أيهود أولمرت وانتهاء به هو شخصياً، وكذلك بكثير من الزعماء المتحالفين معه من معسكر اليمين الديني. ويعد نتنياهو الشخصية الأقوى في تكتل اليمين خلال العقد الأخير، والأهم تاريخياً بعد ديفيد بن ـ جوريون، أول رئيس للوزراء، ويطلق على نتنياهو "ملك إسرائيل". وتمكّن اليمين الإسرائيلي من الهيمنة على الساحة السياسية الإسرائيلية، رغم تغير مسميات أحزابه وائتلافاتهم، بعد التأرجح بين اليمين واليسار، خلال الفترة بين عامي 1984 و2009، وبات يتمتع بسلطة مطلقة بفوزه في انتخابات الكنيست منذ 2009، ومع هيمنة اليمين المتطرف يكون الابتعاد عن خط التسوية السياسية مع الشعب الفلسطيني، والسير في اتجاه تقويض أسس النظام السياسي الإسرائيلي، وفرض خطابه على جميع مؤسسات الدولة، بينما المعسكر المنافس يعيش أزمة عميقة.
وأدت الانقسامات المتتالية في حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو، وظهور أحزاب جديدة، كلها ينتمي إلى اليمين، إلى إعادة ترتيب للساحة السياسية مع تأسيس أحزاب يمينية أكثر تشدداً، كان الملمح المميز لها بروز ثلة من تلاميذ الحاخام العنصري مائير كهانا بقيادة المحامي بن جفير ويتشكل داعموه من بقايا حركة كاخ العنصرية، وبعض المنظمين الجدد من غلاة التطرف والعداء للفلسطينيين، وضغط نتنياهو على أحزاب اليمين لتشكيل قائمة "اتحاد أحزاب اليمين" التي تضم غلاة المستوطنين والمتطرفين دينياً، وضمنت هذه القائمة النجاح في انتخابات الكنيست نظراً لأن الناخب الإسرائيلي يهتم بالهوية والموقف من حل القضية الفلسطينية والعداء للنخب الأشكنازية التي مثلت قيادة أحزاب الوسط واليسار، والمرتبطة بدعم "معسكر السلام" في إسرائيل.
كما تلاعب نتنياهو بالوسط العربي، مستغلا الانقسامات بين أحزاب القائمة العربية المشتركة التي تكونت في ديسمبر 2014، وحققت فوزاً كبيرا في انتخابات 17 مارس 2015، بعد رفع نسبة الحسم لدخول الكنيست. وحصلت القائمة على 13 مقعداً، لتصبح ثالث أكبر قائمة في الكنيست، وهو تطور غير مسبوق إذ أصبح تصويت أعضاء الكنيست العرب حاسما لاسيما عند طرح الثقة في الحكومة للتصويت. وتركّز الإنجاز الرئيسي للقائمة في إظهار قدرة على التعامل مع تحدي تنظيم المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، وبناء مؤسساته الوطنية وقيادة العمل الجماهيري والنضال الشعبي، وكونها شكلت نموذجاً للوحدة لدى النخب بين الفلسطينيين في الضفة الغربية والشتات كنموذج يمكن الاحتذاء به، لكن لم يتم الالتفات إلى هذه التجربة والسعي لتطويرها بما يخدم القضية الفلسطينية، لاسيما مع الانشقاق الذي قادته القائمة العربية الموحدة بقيادة منصور عباس، الذي دعم حكومة يمينية مناوئة لنتنياهو تم حلها وإجراء انتخابات مبكرة، تمكن نتنياهو وأحزاب اليمين فيها وتراجع تمثيل الأحزاب العربية.
التغيرات الاجتماعية وصعود حماس
على المستوى الفلسطيني، ونتيجة للتطورات التي ترتبت على التطورات على الساحة السياسية الإسرائيلية وهيمنة اليمين وتجميد العملية السياسية، بالإضافة إلى تغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية وتفاقم مشكلات إدارة السلطة الفلسطينية للأراضي الفلسطينية مع شيوع أشكال من الفساد والصراعات البينية داخلها، وفشلها في منع تمدد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية ومحيط قطاع غزة، وأيضا الفشل في دفع المباحثات السياسية للتوصل إلى إمكانية الوصول إلى حل الدولتين، بسبب تعنت وصلف الحكومات الإسرائيلية، والأهم هو عدم قدرة السلطة الفلسطينية بعد وفاة عرفات على انهاء الانقسام وتأسيس وحدة وطنية بين قطاع غزة والضفة الغربية.
من ناحية أخرى، أدت شيخوخة قادة السلطة الفلسطينية العمرية والسياسية، وصراعاتهم، إلى عدم القدرة على بناء الحد الأدنى الضرورة للتوافق مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي في قطاع غزة. وتفاقم الانقسامات الفلسطينية الداخلية، فيما أصبحت حركة حماس هي الطرف الفاعل في المواجهات مع إسرائيل، لتصبح حركة المقاومة الرئيسية للاحتلال الإسرائيلي والاستيطان. وساهم هذا الانقسام في تراجع التأييد للقضية الفلسطينية على المستويين العربي خصوصاً لدى بعض قطاعات الرأي العام. وساهمت سياسة تطبيع العلاقات بين بعض الدول العربية وإسرائيل في تراجع أولوية القضية الفلسطينية، وحل الدولتين.
كان جمود العملية السياسية والسياسات الإسرائيلية المتشددة تجاه الشعب الفلسطيني المتمثلة في المداهمات المتكررة والاشتباكات في الضفة الغربية والقدس الشرقية وإحكام الحصار على قطاع غزة، لاسيما بعد إغلاق الأنفاق التي بين القطاع وسيناء بسبب تدهور الأوضاع الأمنية في سيناء، وإحكام سيطرة حماس على القطاع سياسيا وعسكريا من خلال سيطرتها على الفصائل المسلحة عبر غرفة العمليات المشتركة التي شكلتها لتنسيق العمل العسكري ضد إسرائيل، الأمر الذي جعل السيطرة السياسية من قبل حماس على هذه الفصائل عملية معقدة ومنح الجناح العسكري للحركة حرية حركة أكبر، وتعزز وضع هذه الفصائل نتيجة لتطور علاقاتها الإقليمية مع محور المقاومة الذي تدعمه إيران، ومع تشكيل غرفة مشتركة مع حزب الله اللبناني. ورغم تمكن حركة حماس من منع الجهاد الإسلامي من شن هجمات صاروخية على إسرائيل في أغسطس 2022، بعد اعتقال بسام السعدي، القيادي البارز بالحركة في مدينة جنين بالضفة الغربية حيث تتمتع الحركة بوجود كبير، مما أدى إلى تهديدات من قبل الحركة وضربات جوية شنتها إسرائيل قتلت تيسير الجعبري، قائد المنطقة الشمالية للحركة في قطاع غزة.
طريق إلى المستقبل
يُعد الهجوم الذي شنته الفصائل الفلسطينية في غلاف غزة في السابع من أكتوبر أحد النتائج المترتبة على التفاعل المتسلسل، لكنه بدوره أدى إلى نتائج تضعنا أمام احتمالين، لاسيما في ضوء الرد الإسرائيلي الحاسم، الذي ستكون له آثار على المقاومة الفلسطينية المسلحة على المديين القريب والمتوسط. الاحتمال الأول أنه سيطلق موجة من التفاعلات التي ستساعد إسرائيل على تصفية القضية الفلسطينية، إذا نجحت في استعادة زخم عملية تطبيع العلاقات مع دول الخليج العربية وإذا حققت إنجازا كبيرا يضمن التقدم في تطبيع العلاقات مع السعودية. في هذه الحالة ستكون الخيارات أمام السلطة الفلسطينية محدودة، وسيكون لتدمير الجزء الأكبر من القدرات العسكرية والبشرية لفصائل المقاومة في غزة وفي جنين بالضفة الغربية، تأثير كبير على قدرة الفلسطينيين على استخدام خيار المقاومة المسلحة.
الاحتمال الثاني، هو أن تؤدي الفظائع التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي ضد المدنيين في قطاع غزة والتي تعتبرها هيئات كثيرة جرائم حرب، وتعنت حكومتها الحالية، أو أي حكومة يحتمل تشكيلها إذا أدت الخلافات السياسية على خلفية الحرب إلى انتخابات وظهور قيادة جديدة، نظراً لهيمنة أحزاب اليمين على الساحة السياسية وضعف معسكر اليسار ومعسكر السلام، إلى رأي عام عربي ضاغط على الحكومات العربية لاتخاذ مواقف سياسية أكثر حزماً ضد إسرائيل وتكثيف الضغوط الدولية عليها للتحرك في المسار السياسي بدلا من حدوث فوضى إقليمية كبيرة، إذا تمادت إسرائيل في سياساتها العدوانية ضد الفلسطينيين وضد الدول المحيطة. والاحتمال الثاني يؤدي إلى إطلاق عملية للتفاعل المتسلسل تغير من النتائج التي لم تعمل لصالح الفلسطينيين منذ انتفاضة الأقصى. وربما تفتح نتائج الحرب في غزة الباب لتجربة تصور الرئيس الفلسطيني محمود عباس للكفاح السلمي، إذا كانت هناك قوى داعمة له وإذا وجد القيادة القادرة على مواصلته.
قد يكون الإفراج عن القيادي الفلسطيني مروان البرغوثي، مفتاحاً لخروج الأطراف جميعا من المأزق الراهن، وإذا كان حدوث انهيار في سلطة حماس في قطاع غزة نتيجة للحرب، مشكلة كبيرة في البدائل المستقبلية لإدارة القطاع، فلنتصور كيف يمكن أن يكون الوضع إذا انهارت السلطة الفلسطينية في رام الله.
بعد أن تسكت المدافع لا بد من التفكير الجاد والمسؤول في بدائل للوضع القائم الذي بات استمراره صعبا إن لم يكن مستحيلاً، هذه مسألة أخطر من أن يترك فيها القرار لإسرائيل وحدها لا بد للمجتمع الدولي والقوى الكبرى ان تظهر قدرا من القيادة المسؤولة في عالم يزداد اضطراباً، المخاطر كبيرة ولا تحتمل مفاجآت أخرى.
------------------------------
بقلم: أشرف راضي
مقالات سابقة للكاتب عن حرب غزة
طوفان الأقصى.. علامة فارقة في الصراع مع إسرائيل
الحرب على غزة وتوسيع مبدأ تدفيع الثمن ليصبح عقيدة قتالية للجيش
وقفة مع "حرب غزة 2023" وسيناريوهات للمستقبل
حتى لو تم تدمير غزة لن تنتهي قضية فلسطين
تغيير البيئة الإقليمية للصراع | حرب غزة 2023، وإعادة ترتيب ضرورية لأوضاعنا الداخلية والإقليمية
حرب غزة 2023 وتحولات البيئة الدولية للصراع
حرب غزة 2023.. وتجديد الصهيونية | إسرائيل تنفذ عملية ممنهجة لتصفية القضية الفلسطينية
حرب غزة 2023.. حول التناقض الرئيسي والتناقضات الثانوية