انتقلنا اليوم من مرحلة "طوفان الأقصى" إلى مرحلة "السيوف الحديدية" في هذه الجولة من جولات الحروب مع إسرائيل. راهن البعض على تحرك للضمير العالمي لوقف جنون قادة إسرائيل وتدمير المدنيين والحياة في غزة، فلم نجد سوى بيانات التأييد المطلق لإسرائيل وشجب "وحشية" حماس حتى من دول إسلامية وعربية، وواجهنا رأياً عاماً في العالم العربي تغلب عليه المشاعر ويتوارى العقل فيه منزوياً في صراع تحددت شروط النصر فيه منذ هزيمة 1967 وقد أوجزها الكاتب الكبير الراحل أحمد بهاء الدين في تحليله لأسباب هزيمتنا وأسباب انتصار إسرائيل، في وقت كان البعض بيننا يصف الهزيمة بأنها "هزيمة مباركة" بوصف مفكر جزائري كبير هو مالك بن نبي وهناك من صلى شكرا وابتهالا لله على هذه الهزيمة التي أرجعتنا لطريق الحق والصواب، ولا أريد هنا ذكر اسم من صلى شكرا وابتهالا حفاظا على المشاعر المتأججة.
قد يرى البعض أن هذا الخطاب غير مناسب وأنه يصب في صالح العدو الصهيوني ويبث روحا انهزامية في نفوس المقاومين الذين يختبئون الآن في ملاجئ حصينة تاركين المدنيين يدفعون ثمن ما فعلوه عنهم، وهو يعلمون جيدا ردود الأفعال والسيناريوهات المفتوحة لهذه الجولة، والتي قد يكون السيناريو الأرجح أن تفرض إسرائيل والولايات المتحدة رويتهمh لتصفية القضية الفلسطينية وترحيل الشعب الفلسطيني واقتلاعه من أرضه ليتحقق لهم وعد "أرض بلا شعب".
علينا أن نعترف بداية أن معرفتنا العامة بهذا الصراع وتاريخه وتطوراته، محدودة ومحكومة برؤى أيديولوجية ودينية مخالفة للوقائع وللمنطق ولا تساعد على إيجاد حل له، وأنها، معرفتنا، تستند إلى مجموعة من الأوهام المستقرة في الأذهان وتركن إلى إيمان بالنصر في النهاية، ولا يستطيع أحد أن يضع تاريخا محددا لهذه النهاية المرتقبة، إلى حد دفع البعض إلى الاعتقاد بأن الانتصار على "إسرائيل" علامة من علامات الساعة في حرب من حروب نهاية الزمان.
لقد شاركت في لقاء تلفزيوني يوم الاثنين الماضي وحاولت جاهدا أن اتوصل إلى رأي وسط لحل هذه الإشكالية بين الرؤية الدينية والرؤية الزمنية لهذا الصراع. ولكن تأكد ما كنت أعرفه جيدا وهو استحالة الوصول إلى نقاط للتفاهم مع أصحاب الرؤى المطلقة أو من يعتقدون أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة الذين اختاروا أن يريحوا عقلهم أو يسلمون زمامه لمشاعر الانتقام والكراهية التي تعمي الأبصار والبصائر.
المشكلة في هذه الجولة أن من يقف في الطرف الآخر من المواجهة محكوم أيضا برؤية مضادة تستند إلى عقيدته الدينية. لكن الفارق بين فريقنا وفريقهم أنهم يعرفون ما يفعلون ويخططون ليس للخطة الأولى وإنما للخطوات التالية.
في دراسة لي عن الإدارة الدولية لحرب أكتوبر 1973، أشرت إلى الحوار الذي دار في اجتماع لمجلس الوزراء الإسرائيلي قبل الحرب بيوم أو يومين وكانت المعلومات وتقدير الموقف يشيران إلى استعدادات على الجبهتين المصرية والسورية للقيام بتحرك عسكري رغم براعة تكتيك الخداع الذي طبقه الرئيس الراحل أنور السادات. وكان يتعين عليهم الاختيار بين توجيه ضربة استباقية تجهض هذه الاستعدادات غير عابئين بتحذيرات وزارة الدفاع الأمريكية من الإقدام على هذه الخطوة الأمر الذي قد يعرضهم لاحتمال عدم الحصول على الدعم الأمريكي المطلوب وبين امتصاص الضربة الأولى وتوجيه ضربات تالية مستندين إلى دعم أمريكي مطلق. واختارت جولدا مائير، رئيسة الوزراء حينذاك البديل الثاني، وتحقق ما توقعته من دعم أمريكي أحدث نقطة تعادل استراتيجي في الحرب من خلال الثغرة وحصار الجيش الثالث الميداني ومدينة السويس.
سياسات تدفيع الثمن
تُشير تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التابع للأمم المتحدة إلى اتباع المستوطنين في الضفة الغربية إلى تكتيك يعرف بسياسة تدفيع الثمن، ويعني ببساطة اللجوء إلى معاقبة المدنيين الفلسطينيين في مدن وبلدات الضفة الغربية ردا على أي هجوم يتعرض له المستوطنون.
وكانت ممارسات المستوطنين تتم غالباً بحماية ودعم من قوات الجيش، ولكن الجيش كان يتدخل أحياناً لكبح عدوان المستوطنين على الفلسطينيين العزل، لاعتبارات قانونية أو سياسية.
ومع تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية بزعامة بنيامين نتنياهو، بات جلياً لجميع المراقبين في الداخل والخارج أن هذه الحكومة هي حكومة للمستوطنين والمتدينين المتطرفين وأنها تسعى لإحداث انقلاب في إسرائيل على عدة مستويات لإحكام قبضتهم على الدولة وشؤونها وتوجيهها وفقاً لتصوراتهم وأهدافهم وبدأوا بالانقضاض على السلطة القضائية وإخضاعها لمشيئة الأغلبية في الكنيست.
وقد أدت هذه الخطوة إلى انتقادات دولية وأمريكية وانتفاضة للقوى العلمانية والأحزاب الأخرى في إسرائيل على النحو الذي رأيناه طوال العام الماضي. وتكشف الحرب الحالية على غزة أن هذه الخطة الانقلابية لا تقتصر فقط على القضاء وإنما تمتد أيضا إلى الجيش الذي أعلن بعض قادته العصيان وهدد آخرون من خطورة هذه السياسات على الأمن.
مرة أخرى، لست من أنصار نظريات المؤامرة، لكن الساسة الإسرائيليون الحاليون كانوا يحلمون بحدث جلل يغير المعادلة ويمكنهم من المضي قدما في مخططهم لإحكام السيطرة والتوسع والشروع في سياسات الترحيل الجماعي القسري للفلسطينيين التي شكلت جزءا رئيسيا من استراتيجية المشروع الصهيوني.
لا شك لدي في أن الهجوم الذي شنه المقاتلون الفلسطينيون من غزة والذي تقوده حماس والجهاد الإسلامي وفصائل أخرى وفق تقديرات بأن ما سيحدث سيغير من معادلة الصراع، وهو بالفعل أحدث تغييرات جذرية لكنها مفتوحة لاحتمالات شتى، كثير منها لا يعمل في صالح المقاومة الفلسطينية، وقد يقع جانباً من هذه الحسابات لصالح الداعمين الرئيسيين لمحور المقاومة، وأشير هنا إلى إيران.
من يُطالع خطاب الزعيم الإيراني الأعلى أية الله علي خامنئي بالأمس والذي تزامن مع خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن يدرك من الوهلة الأولى أمرين في مسألة تبدل المواقف بين الهجوم والدفاع، وللأسف فإن من يدفع ثمن هذه السياسات هم المدنيون في غزة وفي مناطق أخرى قد تمتد إليها هذه الجولة من جولات الصراع، المتوقع لها أن تستمر لفترة طويلة قد تمتد لأسابيع أو ربما لشهور، طالما أن الهدف المعلن لحكومة المستوطنين الصهيونية هو تحقيق نتائج حاسمة التي تعني تدمير القدرات الفلسطينية على نحو شامل وهو ما نشاهده الآن في هجومهم المضاد على غزة والذي يبدو أنهم كانوا مستعدين له مستندين في ذلك إلى قراء دقيقة للواقع وتغيراته، في حين غابت عنّا مثل تلك القراءة.
منطق الهجوم ومنطق الدفاع
كتب المفكر المصري الراحل قدري حفني مقدمة لكتابه المعنون "الشخصية الإسرائيلية" بعنوان "استراتيجية السلام الهجومي". من المؤسف حقا أن أحدا لم يلتفت أحد إلى ما طرحه الرجل في هذه المقالة المهمة التي كان من الممكن أن تغير كثيراً من معادلة الصراع مع إسرائيل، وقد يكون أحد أسباب ذلك هو ذلك الخلط الذي ظل ملازما لرؤية مناصري الفلسطينيين وحقوقهم المشروع بين مسألة التطبيع وبين مسألة النضال من أجل السلام، وهو موقف استراتيجي لفريق من المثقفين لديهم رؤيتهم لكيفية إدارة الصراع مع العدو بأساليب مختلفة، فلم ينشأ حوار بناء بين الرؤيتين أو الرؤى المختلفة لإدارة الصراع يخدم قضيتنا الوطنية ومصالحنا المشروعة، وقد دعوت مرات كثيرة وأكرر الدعوة في كل مناسبة لمثل هذا الحوار.
المهم في طرح الدكتور قدري حفني هو مفهوم "الهجوم" كموقف استراتيجي في مقابل مفهوم "الدفاع" وهو المفهوم الذي هيمن على أنصار القضية الفلسطينية ومناهضي المشروع الصهيوني كما تجلي في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية التي تشكلت في مصر في مطلع الثمانينات وكنت من بين مؤسسيها مع الأستاذ حلمي شعرواي، رحمة الله عليه، وكوكبة من المثقفين المصريين. ولفت نظري أن مواقفهم تنطلق من فكرة "الدفاع" لا "الهجوم"، رغم أن المجلة التي كانت تصدرها اللجنة ورأس تحريرها الدكتور عماد أبو غازي، كان اسمها "المواجهة".
لا شأن لموقف "الدفاع" أو "الهجوم" بالطابع المسلح أو غير المسلح للصراع، وإنما بأي موقف تتخذه بغض النظر عن الوسائل التي تلجأ إليها. قد تخوض صراعا مسلحا لكن باستراتيجية دفاعية، وقد تقوم بعمل دبلوماسي نشط لكن باستراتيجية هجومية. وإذا كان المبدأ الاستراتيجي المتعارف عليه هو أن الهجوم هو خير وسيلة للدفاع، فإنه يتعين علينا إعادة النظر في الصراع التاريخي الممتد مع المشروع الصهيوني من منظور الهجوم والدفاع، لا من منظور الكفاح المسلح أو التسويات السلمية، التي تعدل من موازين القوى وتمنح الأطراف هدنة لتعديل مواقهم.
بتطبيق هذا المبدأ على الجولة الراهنة في ضوء خطابي بايدن وخامنئي يمكن القول إننا لم نبرح بعد عقلية الدفاع فيما العدو مستمر بمنطق الهجوم والهجوم الاستباقي في كثير من الأحيان. هذا هو جوهر الإشكالية في صراعنا الممتد لأجيال والتي لم تحقق بعد نقطة التعادل التي تسمح بتسوية تاريخية وعادلة للقضية، تسوية تستند إلى رؤية إنسانية تضع الرؤى الدينية في مكانها الصحيح.
أعلم جيدا أن ما أكتبه قد يستفز مشاعر البعض لدينا لكنني أقدر أن هذا أمر بات ضروريا وملحا في هذه المرحلة من مراحل الصراع. وإلى مقال آخر.
--------------------------
بقلم: أشرف راضي