25 - 04 - 2024

شاهد على العصر (5) هكذا عشنا أيام 67

شاهد على العصر (5) هكذا عشنا أيام 67

صدفا والطريق إلى السياسة

حصلت على دبلوم التجارة عام ١٩٦5، ذهبت إلى القاهرة للبحث عن عمل. خلال شهرين تقدمت لعدة جهات ووزارات، وصلتني ثلاث خطابات تعيين (وزارة الزراعة، وزارة التعليم العالي، شركة كولدير للتكييف). عدت للقوصية وأنا محتار ماذا أختار؟ علمت أن بنك التسليف الزراعى كان يطلب موظفين فى وظيفة مشرف تعاوني (مدير جمعية زراعية)، تقدمت للوظيفة وتم تعيينى فى صدفا.  

لم أكن أعرف أن صدفا هى آخر مركز جنوب اسيوط وشمالها أبوتيج وجنوب صدفا مركز طما التابع بسوهاج، ذهبت لصدفا والتي كانت قد تحولت أواخر الاربعينيات مع القوصية إلى مركز. وأقيمت فيهما بعض المشروعات المتماثلة كالمستشفى المركزى ورعاية الطفل والساحة الشعبية ...الخ. ولكن ظلت أقرب إلى القرية منها إلى المركز، فلا محلات كبيرة ولا لوكاندات ولا أماكن ترفيه مثل سينما القوصية، أى لا توجد مقومات الحياة لموظف مغترب، كنت أذهب إلى طما أو ابو تيج للمبيت فى لوكاندة لاتشجع على الإطلاق على الخلود للنوم لوجود الحشرات بكل أنواعها أو لو اضطرتنى الظروف لقبول المبيت مع آخر لا أعرفه مما يذهب النوم من جفونى. 

اشتركت مع زميل دراسة فى تجارة ديروط لتأجير حجرة بجوار حوش بهائم ودورة مياه بلدى ترابية، تعبت نفسيتى كثيرا إلى أن تعرفت على أحد الفلسطينيين الذين كانوا يعملون فى الأغلب أمناء توريدات بالمدارس (عهدتهم الكتب لتوزيعها)، وكان تواجد هؤلاء موقفا من مصر لمساعدة الفلسطينيين اللاجئين. 

كان هذا الفلسطينى يسكن فى شقة بالمساكن الشعبية، التى انتشرت كمشروعات لإسكان للفقراء والطبقة المتوسطة  من العاملين والموظفين، الشقة من ثلاث حجرات لكل منا أنا وزميل الدراسة والفلسطينى حجرة. كان الواحد يدفع ثلاث جنيهات، جنيه نصيبه فى الإيجار، وجنيهان للطعام طوال الشهر وكان الغذاء يوميا خضار مع لحمة فراخ أو حمام. الفلسطينى واسمه يونس يعد الطعام بشكل رائع والزميل الآخر يشترى المطلوب وكنت مختصا بغسيل الإوانى . 

بالمساء يكون العشاء طعمية من عند عم احمد الكبير، وهو محل أقرب لعشة ، عم أحمد رجل تراه وكأنه ضرير لايرى يتحرك مثل آلة، نقف بالطابور لأوقات كبيرة حتى يأتى علينا الدور، وكان الكبير بطعميته قدر كل الغرباء في صدفا. كانت حياتى فى صدفا تسير في ثلاث دوائر: العمل الوظيفي، النشاط المسرحي، بداية الانخراط فى العمل السياسى. 

وظيفيا عينت كمشرف تعاونى فى عز موسم تسويق القطن، وكان نظام التسويق هذا قرين بالنظام التعاونى ضمن نظام التجميع الزراعي، أي يتم تصنيف القرى والزمامات الزراعية لزراعة محصول بعينه. إلزام الفلاح بزراعة محددة لابد أن يتبعها ضمان تسويق وبيع هذا المحصول. كان التسويق التعاونى يتم بتجميع القطن فى مراكز تجميع، فى المساء يتم احتساب الثمن والمبيت فى البنك لصرف الأثمان صباح اليوم التالي، كنا كمشرفين نتوجه بالنقود إلى الجمعيات لصرف أثمان القطن للفلاحين. 

وفى إطار ذلك كان بنك التسليف، كما قال عبد الناصر واجهة الثورة، فسيحكم الفلاح على الثورة من خلال معاملة هذا البنك للفلاح سلبا أو ايجابا. ولذا كان البنك يصرف القروض الزراعية مدعمة أى بنصف الفائدة العادية على أن تقوم الدولة بدفع الفرق للبنك . كما كانت الدولة تقوم فى أكثر من مرة بإسقاط القروض، خاصة لو كانت هناك مشاكل زراعية قابلت الفلاح، ذهبت فى أول يوم وظيفى إلى الغنايم التابعة لمركز صدفا قبل أن تتحول إلى مركز، كان يذاع فى تلك الأيام مسلسل اذاعى عن الإجرام فى الغنايم، فذهبت مرتعبا بمبلغ يفوق العشرين الف جنيه وهو مبلغ خيالى آنذاك، كنت فى السابعة عشر من عمرى، ودخل المكتب شخص وراءه مجموعة تحمل كل أنواع الأسلحة. 

رحب بى قائلا أسود واللا أخضر يا أفندى؟ لم أفهم ولم اتكلم وشعرت برهبة؛ خاصة أن العاملين معى من الغنائم كانوا فى حالة رعب ظاهر على الوجوه. لم ينتظر منى الرد وأخرج كمية من الحشيش والايفون لم أرها فى حياتى ووضعها على المكتب. لم أنطق إلا بكلمة شكرا، فنظر باستهتار وانصرف.

في يوم آخر، ذهبت مع مدير الفرع لحضور مؤتمر سياسى يحضره حينذاك أحمد كامل محافظ أسيوط (بعد ذلك أصبح محافظا للإسكندرية ثم أمينا لمنظمة الشباب الاشتراكى ثم رئيسا للمخابرات العامة وأخيرا حوكم فى ١٥ مايو بعد مجئ السادات)، حضرنا  المؤتمر وفوجئنا بشخص اسمه ثابت يتهم شخصا بأنه قتل خمسة أشخاص من عائلته وأرسل رؤوسهم مقطوعة فى قفة، كان المتهم هو منظم المؤتمر وأصبح عضوا فى البرلمان فيما بعد، تكهرب الجو ووقف أحمد كامل مهددا من ينظر إلى ثابت وأنهى المؤتمر. 

في يوم آخر كنا نسكن فى عمارة شعبية فى شارع رئيسي، وعند مدخل الشارع قرية بنى فيز، وفى فجر أحد الأيام صحونا على إطلاق نار أو قل حربا فى الشارع، نظرنا من وراء الزجاج شاهدنا بشرا يتقاتلون والقتلى يتساقطون فى الشارع بلا عدد في معركة ثأر. وكانت النتيجة الأمر بتشريد هؤلاء وحرق ممتلكاتهم فى بنى فيز. وتكرر الأمر فى قرى أخرى مثل البربا. 

فى هذا المناخ الموروث منذ عهود وسنين، كان هناك مناخ آخر شدني إليه وهو مركز الشباب. حضرنا حفلا لمسرح العرائس وكانت الفرقة تابعة لقصر ثقافة أسيوط ويرأسه وقتها الفنان هبة عنايت !! ومسرح العرائس كنا نسمع ونقرأ عنه فأصبحنا فى حضرته ومشاهدته فى صدفا. 

وفى ليلة ثقافية أخرى أحضر مركز الشباب المطرب الشعبى محمد طه وفرقته، كان محمد طه فى ذروة مجده الفنى خاصة أن افلام هذه الفترة لم تخل من تواجد طه، كنت ومازلت مغرما بفيلم السفيرة عزيزة التى أحيى طه زفافها على شكرى سرحان. هذا المناخ شجعنى على الذهاب والارتباط بالمركز، خاصة أن مديره كان من صدفا وهو شخص نشيط ومخلص، كانت هناك مسابقات مسرحية لمراكز الشباب على مستوى الجمهورية. تحضر لجنة من الفنانين من القاهرة لمشاهدة المسرحية وتقييمها، والفرقة الفائزة تعرض على مستوى المحافظة وبعد التقييم النهائي يعلن عن الفرقة الفائزة والممثل الفائز على مستوى الجمهورية. 

تم تصعيد المسرحية التي أشارك بالتمثيل فيها وفزت بالمركز الاول فى التمثيل على مستوى الجمهورية عام ١٩٦٧ ثم بالمركز الثانى فى التمثيل الصامت (البانتوميم) على مستوى الجمهورية عام ١٩٦٨، وسلمنى الجائزة أحمد كامل محافظ أسيوط فى حفل حاشد أقيم بنادى البلدية في أسيوط، كما شاركت فى عمل مسرحيات وحفلات فى الكنسية الأرثوذكسية والكاثوليكية. 

(صور من المسرحيات التى شاركت فيها)

منظمة الشباب الاشتراكى

في النصف الأول من عام 1967 كان الزخم الثورى والسياسى فى أوج مجده وأعلى درجاته، المشروعات القومية والقوانين الاشتراكية ودور مصر العربى والاقليمى والعالمثالثى مثار إعجاب الشعوب الساعية للتحرر الوطنى ومثار غضب القوى الاستعمارية التقليدية والاستعمارية البديلة خاصة امريكا التى اخذت دور بريطانيا فى مساندة الدولة الصهيونية فى المنطقة.

العلاقة مع السوفيت كانت قد وصلت أعلى درجاتها على كل المستويات، ومشروع السد العالى مستمر فى التقدم مع حالة إعلامية وفنية تواكب المناخ والتوجه السياسى مما خلق حالة توحد حقيقى مع ناصر ونظامه الذي يتخذ قرارات مساندة لحركات الاستقلال والتحرر مما وتَّر العلاقة مع أمريكا خاصة بعد اغتيال كيندى ومجئ جونسون. 

هنا ارتبطنا كشباب بالنظام وبناصر كزعيم، وكان للفن والأغاني الوطنية دور ملموس فى خلق حالة وجدانية ثورية بكل ما تحمل الكلمة من معانى، أعلن عن إنشاء منظمة الشباب الاشتراكى، ووضعت برامجها السياسية والتنظيمية والتثقيفية لتكون مصنع إعداد ومدرسة تدريب وتعليم السياسة للشباب لإكسابهم الخبرة والإسهام فى البناء السياسى الصحيح للتنظيم الأوحد وهو الاتحاد الاشتراكى. 

لذا انشأت منظمة الشباب معسكرات للتدريب والتعليم السياسى فى المراكز، كان أحدها فى أبو تيج، المصالح والنقابات ترشح الدارسين للتدريب فى هذه المعسكرات، كنت موظفا فى بنك صدفا وقيادات البنك تقليدية جدا فى العلاقات مع العاملين، لم يكن هناك انسجام شخصى بينى وبين رئيس الحسابات، كنت شابا متحررا فى الملبس والتعامل فى مقابل من لايزال يتصور أن الدخول للمدير يستوجب وضع الطربوش فوق الرأس (الطربوش الذى لم يعد موجودا)، رشحنى رئيس الحسابات لقناعته بأنى "مش بتاع شغل" معتبرا هذه المعسكرات لعب عيال ومضيعة لوقت العمل. 

ذهبت للمعسكر بعد أن راودتنى أمنية الالتحاق به،  كانت مراكز الشباب هى مقر هذه المعسكرات على  مستوى الجمهورية، مدة الدورة عشرة أيام، توزع فيها بدل عمال موحدة للدارسين والموجهين السياسيين، المبيت فى خيام على أسرة، المجموعة التى يديرها الموجه السياسى من ثلاثين إلى خمسة وثلاثين. هناك مطعم لتناول ثلاث وجبات فى اليوم، الفطار والعشاء متماثل والغذاء خضار وأرز ولحمة او فراخ وفاكهة. 

عند الوجبة نقف طابورا لتلقى الأصناف من كل شباك فى صينية ألومنيوم مقسمة لوضع الأصناف فيها، ندخل المطعم لتناول الوجبة على ترابيزات، أما البرنامج اليومى فيشمل الاستيقاظ مبكرا للمشاركة في طابور رياضى، ثم  طابور الصباح ونقف على شكل مستطيل ناقص ضلع لتحية العلم، ثم الإفطار وبعده فترة مذاكرة المحاضرات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية من كتاب يوزع بداية المعسكر، ثم الغداء وبعده ألعاب رياضية ونشاط ثقافى (مجلات حائط كتابة مقالات رسم لوحات ...الخ). 

فى الخامسة مساء تبدأ مناقشة المحاضرة فى خيمة المجموعة التى يديرها الموجه السياسي، أيضا مستطيل ويجلس الموجه فى الضلع الفارغ فى مواجهة المجموعة، تتاح الفرصة لكل دارس للتحدث كما يريد وكيفما يرى، فى المحاضرة المقروءه تؤخذ الكلمة برفع اليد، لايقاطع أحد أحدا إلا إذا كان هناك تعديل لمعلومة خاطئة، فيرفع اليد الشمال لكى تتقاطع مها اصابع اليد اليمين لكى يصحح الخطأ. ينهى المتحدث كلامه بكلمة شكرا. أخيرا يقوم الموجه ببلورة مجمل المناقشات المطروحة حتى يصل إلى نتائج محددة للموضوع لتكون هناك رؤية مشتركة جاءت نتيجة المناقشات والحوارات التى تم فيها طرح كل الآراء وبحرية، بعد ذلك التوجه لتناول طعام العشاء، ثم حضور حفلات السمر التى تنظمها يوميا مجموعة من المجموعات ، ففي كل يوم يكون على مجموعة أن تنظم السمر وتكون مسؤولة عن المعسكر نظافة وامنا حتى صباح اليوم التالى ويكون موجه المجموعة هو مسىئول المعسكر فى هذا اليوم. 

في آخر المدة يقوم الموجه بتقييم الدارس من خلال الإجابة على خمسين سؤالا لتقييمه من كل النواحى استيعابا ونشاطا (رياضة .فن صحافة .تمثيل . إدارة ...الخ) ومن حيث قدرته على القيادة، وهذا كان نظاما سوفيتيا، حيث التقييم يكون هدفه الترشيح إلى دورات أعلى فى المستوى السياسى إذا كان الدارس مؤهلا لهذا، ويرسل التقرير إلى  مكتب منظمة الشباب فى المركز التابع له الدارس لتسكينه فى موقع يتوافق مع قدراته، فى آخر صباح تتم مراسم إنهاء الدورة ثم يقوم الدارسون بالسلام الذى يبدأ من اول دارس فى المستطيل فيتم مصافحة الجميع للجميع فى إطار منظم، وخلال هذه المراسم نجد الدموع المنهمرة من أعين الشباب الذى ارتبط وجدانيا بزملائه طوال الأيام العشرة (أكل وشرب وحوار وسمر وغناء وتمثيل ونشاط وتعارف ثم تقارب انسانى)، ولذا تظل هذه العلاقة ممتدة بلا حدود. 

عدت إلى صدفا والتحقت بمنظمة الشباب فيها كمسؤول تثقيف لمركز صدفا، كان مقر المنظمة فى شقة مواجهة لمقر الاتحاد الاشتراكى حيث أن التنظيمين مكملان لبعضهما، لاشك أن هذه الدورات كانت هى الأرضية السياسية والعلمية لممارسة السياسة فى إطارها العملى الحياتى وفى اطارها العلمى الممنهج. هذا كان يميز منظمة الشباب عن الاتحاد الاشتراكى الذى كان وريثا فى معظم الاحيان لأحزاب ماقبل يوليو والتنظيمات السابقة (هيئة التحرير والاتحاد القومى). 

مارست العمل التنظيمى والسياسى والتثقيفى فى المركز والقرى، ارتبطت بالجماهير من خلال الأنشطة والندوات الجماهيرية فى الشوارع والقرى والنجوع، كانت المنظمة وطريقة التدريب فى المعسكرات مجال إعداد الشاب للعمل العام والانتماء للوطن بلا حدود.

 كنا نقوم بمعسكرات عمل، بالرغم من أننا فى صدفا قمنا مثلا بتنظيف ميدان محطة ابو تيج وكان هناك حفرة تصل إلى نصف كيلو متر تملؤها القمامة المتراكمة والمخمرة، ذهبنا وكنا نغوص بارجلنا حتى الصدر فى القمامة لتنظيفها وإفراغ الميدان منها. كان الهدف زرع الانتماء لدى الشباب وقتل العصبية والجهوية فى النفوس باعتبار ان مصر هى  الوطن  العزيز لكل المصريين، بدأ التحول من الناصرية كعاطفة الى الناصرية كفكر، ارتبطنا بقضايا الوطن واصبحنا مهمومين بالتحديات التى تواجهه، خاصة المواجهة مع العدو الصهيونى حيث بدأت الاحتكاكات بمصر وعبد الناصر فكانت خطة أمريكا وجونسون فيما سمى (اصطياد الديك الرومى) وهو عبد الناصر، حتى كانت إرهاصات المواجهة العسكرية مع إسرائيل.

النكسة والتنحى  

عام ١٩٦٧ كان الاتحاد الاشتراكى ومنظمة الشباب الاشتراكى والتنظيم الطليعى (وهو تنظيم غير معلن) هي التنظيمات التى تقود العمل السياسى والجماهيري، والقوى الناعمة (سينما. مسرح. موسيقى وغناءً. فنون تشكيلية ..الخ) كانت تؤدى دورا فى بناء وعي ثوري يساهم فى خلق حالة انتماء حقيقى للوطن. هذا المناخ بكل معطياته من ظهور الطبقة المتوسطة وتقريب الفوارق بين الطبقات أحدث نقلات نوعية فى المستوى الاجتماعى والثقافى إضافة للمعارك السياسية التى قادها عبد الناصر وظهور دوره العربى والافريقى والعالمثالثى. ناهيك عن الكاريزما التى حبا الله بها ناصر الشيء الذى أحدث حالة من الربط والتداخل بين الانتماء للوطن وبين الحب غير المسبوق لناصر، ولعب الفن دورا هاما جدا فى هذا الوعى وذلك الحب. كل عيد للثورة كانت هناك حفلة ساهرة يحضرها ناصر ومعه كل رجال الدولة ويتبارى فيها كل نجوم الغناء، وعلى رأسهم ام كلثوم وعبد الحليم حافظ، فى تقديم الأغانى الوطنية التى تتحلى بالصدق تأليفا وتلحينا وغناء، خاصة مايقدمه الثلاثى صلاح جاهين وكمال الطويل وعبد الحليم سنويا، حتى أن هذا الإبداع الصادق ظل تراثا فنياووطنيا حتى الآن مثل اغانى (بالاحضان/المسئولية/صورة ..الخ). 

ارتبط الشعب بالنظام الذى يجسده الزعيم وبالزعيم الذى يمثل النظام، تداخلت الأدوار السياسية مع العلاقة الاجتماعية فحدث خلط فريد بين القائد والوالد، بين الزعيم والصديق، بين الرئيس والاخ. شعر المواطن البسيط أن ناصر هو صديقه الذى يعرفه والذى سيكون ملبيا لما يريد وفى أى لحظة، هنا كانت الثقة شبه مطلقة فيما يرى الزعيم وفيما يقرر ويتخذ من إجراءات. 

فى أول مايو ٦٧ تقريبا بدأت خطة اصطياد الديك الرومى استغلالا للحماس العروبى ولفكرة القومية العربية التى تؤكد أهمية سوريا باعتبارها مفتاح الأمن القومى المصرى وطوال التاريخ. وبدأت الاحتكاكات الاسرائيلية بسوريا استفزازا لناصر. كانت غلطة ناصر هى الثقة العمياء فى عبد الحكيم عامر والتى بدأت بعلاقة عسكرية تحولت إلى إنسانية انتهت بعائلية، خاصة أن قيادة عامر للجيش فى ١٩٥٦ لم تكن كما ينبغى إضافة لفشله فى إدارة الإقليم الشمالى (سوريا). ومع ذلك سيطر عامر وجماعته على الجيش وأوهموا الشعب أن القوات المسلحة فى أتم حالات الجهوزية لمواجهة إسرائيل مستغلين حالة الفوران الشعبى والحشد الإعلامى. 

فى ظل هذه المعطيات قمنا كمنظمة شباب مع الاتحاد الاشتراكى فى صدفا بالتجول فى قرى صدفا ونجوعها وكفورها بهدف إحداث حالة من الحشد الجماهيرى لمساندة النظام فى مواجهة إسرائيل، معتمدين أيضا على دور الإعلام الذى كان يقوم بدور في هذا الحشد الذى  لم يسلم من مبالغة وقع فيها الجميع ثقة فى قيادة عسكرية لم تكن عند هذه الثقة. 

قبل المعركة بأيام نبه عبد الناصر القوات المسلحة بأن إسرائيل ستقوم بضربة للطيران المصرى يوم الاثنين ٥ يونيو، بدأت المعركة صباح الاثنين ٥ يونيو ١٩٦٧ فى ظل حالة حشد غير مسبوقة ثقة فى النصر نتيجة للحشد الاعلامى وثقة فى الجيش وعبد الناصر. وتتابعت البيانات العسكرية تعلن اسقاط العشرات من طائرات العدو والشعب يهلل ويهتف. ولكن (والله يعلم) كانت تنتابنى حالة من الضيق وعدم الارتياح، ولكن الثقة والحشد والإعلام سيطروا وخلقوا احساسا بالنصر. كنت اسافر من صدفا إلى القوصية الخميس نهاية الأسبوع لأعود صباح السبت، سافرت الخميس ولكن لم يكن زخم الإحساس بالنصر الذى بدأ الاثنين بذات الدرجة. صباح الجمعة ٩ يونيو لم أكن قد سمعت أخبارا حيث أن لهفة السماع قد  خفتت ولم أدرك لذلك سببا. 

ذهبت إلى دكان والدى وكان معه أصدقاؤه، وجدتهم فى حالة حزن عميق حتى تخيلت أن أحد الأشخاص الذى يهمهم أمره قد توفى. سألت ماذا حدث؟ لم يجب أحد فنظرت إلى والدى وانا فى حالة رعب حقيقى، خوفا من أن استمع الى خبر غير سار وقلت: ايه الحكاية . تقابلت عيناى مع عيني والدى وشاهدت دموعا متحجرة فى مقلتيه، المشهد زلزل كيانى وأسرعت قائلا: ماذا حدث؟ قال: جنود اسرائيل على الضفة الشرقية. لم استوعب الخبر، انتظرت لحظة محاولا استعادة هدوئى وتجميع افكارى ولكن لم أبك مع العلم اننى سريع البكاء، ظللت طوال اليوم فى حالة عدم توازن حقيقى.

أعلن أن عبد الناصر سيلقى كلمة في السابعة مساء، لم يكن لدينا تلفزيون، ذهبنا مع مجموعة أصدقاء إلى منزل صديق كان لديه تلفزيون. ظهر عبد الناصر وقبل أن يتحدث كانت علامات الحزن الدفين والألم العميق تقول الكثير والكثير. أدركنا حجم الهزيمة فبدأ الياس يتملك نفوسنا، حتى جاء توقيت إعلان التنحى. سيطر الحزن وامتلكنا  الياس وأحسست بالضياع، فالوطن هزم والقائد والأب والصديق يتخلى وينسحب. 

لم أشعر إلا بأننى أنزل الى الشارع صارخا ومولولا وأجرى إلى مقر الاتحاد الاشتراكى، فوجئت أن الشارع يزدحم والناس فى حالة ذهول حقيقى يريدون أن يسألوا ماذا حدث؟ لم أقف ولم أجب، فأسرع الجميع ورائى وصولا إلى الاتحاد الاشتراكى. دقائق وامتلأت الشوارع  وتكاثرت الحشود وتداخلت الأصوات مطالبة ببقاء عبد الناصر. بدأنا فى سماع الأخبار، زاد الألم لسماعنا أن الطيران الإسرائيلى يمرح فوق سماء القاهرة، فى المقابل عرفنا أن الحشود الشعبية غير المسبوقة خرجت عن بكرة أبيها، ليس فى مصر فحسب ولكن فى كل أرجاء العالم العربى وأفريقيا وبعض دول العالم الثالث، استقلت الجماهير من كل المحافظات والمراكز القطارات حتى أن الراكبين على أسطح القطارات غطوها وتحولت القطارات إلى حشود بشرية، اكتظت شوارع القاهرة خاصة أمام منزل عبد الناصر حتى أنهم رأوا شخصا ظنوه زكريا محى الدين الذى كان عبد الناصر قد كلفه أن يكون بديلا له، فكادوا أن يفتكوا به. 

ظلت الجماهير طوال الليل وعلى مستوى الحمهورية فى الشوارع، كنت قد رفضت الذهاب الى القاهرة وقررت البقاء فى القوصية. صباح السبت قدت مظاهرة فى شوارع القوصية للمطالبة بعودة ناصر وكانت هذه المظاهرة هى أول مشاركاتى السياسية العملية. بعد المظاهرة عدنا إلى الاتحاد الاشتراكى ثم أعلن انور السادات رئيس مجلس الأمة حينذاك عن عودة ناصر. 

لم يكن خروج الشعب وتمسكه بناصر هو المضمون الحقيقي، بقدر ما كان وعيا مستترا من الجماهير برفض الهزيمة وتحويلها إلى نكسة أي إلى جولة عسكرية قادمة مع العدو. وبالفعل كانت مظاهرات ٩و١٠ يونيو هى الإرادة المعلنة من المصريين برفض الهزيمة التى توقعت على إثرها جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل تلقى مكالمة من ناصر لإعلان الاستسلام، لكن ذلك لم يحدث لأن الشعب قال كلمته الفاصلة التى كانت بداية رد الاعتبار وتحقيق النصر.
---------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك

الحلقة الأولى

الحلقة الثانية 

الحلقة الثالثة

الحلقة الرابعة

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان