25 - 04 - 2024

شاهد على العصر (4)

شاهد على العصر (4)

أخذت الإعدادية بمجموع يؤهلنى لدخول الثانوى العام، ولكن فضلت الثانوي التجاري بالرغم عدم وجود مدرسة له فى القوصية ، بينما كان قد تم فتح فصول ثانوى عام ملحقة بالمدرسة الإعدادية. كان ابن خالى فى ثالثة ثانوى تجاري بديروط مما شجعنى على الالتحاق بمدرسة ديروط، كان الطلاب يسكنون ولا يسافرون يوميا. 

أجرنا حجرة أنا وابن خالى فى شارع الأمراء وأخذنا نستعد للمغادرة على عربة كارو حملت العزال، حيث كان سرير سفرى ونصف مكتب وكرسي، والزوادة كانت برطمان سمن وكرتونة فصاص (عيش شمسى ناشف) وشوية كشك لزوم الإعاشة حيث كان المصروف الاسبوعى خمسين قرشا. 

المدرسة التجارية كانت فصولا ملحقة بالثانوية، الدور الاول للإدارة وكانت حجرة مدير المدرسة مهيبة لدرجة الشعور بالخوف عند دخولها، وحجرة وكيل المدرسة ثم الادارة. مدير المدرسة كان شخصية مهابة لدرجة أن مشاهدته فى الحوش كانت تحدث حالة غير عادية. شاهدت طلبة فى ثانوى وتجارى كبارا فى السن عن بعض المدرسين، وطلبة من عائلات ثرية تحكمها القبلية فى ديروط كانوا يتسابقون فى ارتداء البدل غالية الثمن، فكنا نشعر أنهم ليسوا زملاء بل أوصياء ودليل ذلك تعامل المدرسين مع هذه النوعية. 

الأهم أننى شعرت بفوارق طبقية حيث لم أكن من لابسى البدل غالية الثمن، آخرها بلوفر متواضع فى الشتاء. فوجئت بدفع رسوم مدرسية قدرها عشرة جنيهات وهذا كان مبلغا خرافيا، طردت أكثر من مرة حتى تمكن والدى من توفير المبلغ، كانت المفاجأة صدور قرار بمجانية التعليم فردت لنا الرسوم. 

أما المفاجأة الثانية فهى مايسمى بمادة الفتوة، هى مادة عسكرية يقوم بتدريسها ضباط وضباط صف من القوات المسلحة، هذا استتبعه توزيع ملابس الفتوة علينا وهى بنطلون رمادى غامق وقميص رمادى فاتح وحذاء وكاب، هذا الزى كسر حاجز التفرقة الطبقية الملابسية واصبحنا جميعا نرتدي زيا واحدا، مع العلم أن الفتوة هذه كانت تستوجب التدريب على السلاح ببندقية لى أنفيلد. وكان هناك يوم لضرب النار يتم فيه التنشين على تبة ضرب النار الملاصقة لسور المدرسة. 

كما أن طابور الصباح كان يبدأه رئيس اتحاد الطلبة ويسلمه الشاويش ثم يسلم الشاويش الطابور للضابط وكان برتبة نقيب والذى يسلم الطابور بدوره إلى مدير المدرسة فى حالة من الانضباط المختلط بالعسكرية الناعمة. 

الأمر الآخر أنه كانت توزع علينا وجبة غذاء جافة خاصة فى ابتدائى ولكن وجدنا فى الثانوى عام ١٩٦٠ وجبة ساخنة وتم توزيع ملعقة على كل طالب، حيث كانت الوجبة ايام السبت والأحد والثلاثاء عبارة عن خضار وقطعة لحم وطبق ارز ورغيفا وثمرة فاكهة، أما الاربعاء فكان العدس بديلا عن الخضار. 

كنت أجلس بجوار الشباك وكنت أرى مدفنا ذا قبة واستغربت هل توجد مدافن وسط المنازل وأمام المدارس. عرفت أنها مدفن احمد قرشى، فربطت بيت قرشى والقرشية تلك المنطقة التى تقع غرب الترعة الإبراهيمية من جنوب ديروط إلى شمالها، عرفت أن أحمد قرشى كان باشا وهو الذى أنشأ القرشية وأنشأ فيها مدرسة ثانوى وتجارى ومدرسة إعدادى ومدرسة زراعية وأخرى صناعية إضافة إلى مستشفى مركزى ومحكمة، والأهم كوبرى القرشية الذى يربط غرب ديروط وشرقها. 

هنا وأنا ابن المرحلة الناصرية بكل ما تحمل من معاني، بدأت الأسئلة تتوارد على ذهنى الذى أرهق، ومنها: هذا باشا وباشاوات القوصية باشاوات، فلماذا يفعل هذا ولايفعل أولئك؟. القوصية حتى تلك اللحظة لم تكن توجد فيها محكمة ولا مستشفى، كنا نذهب الى مستشفى قروى فزارة ناهيك عن عدم وجود أى خدمات أخرى، وبالرغم من فرض الحراسة على قرشى إلا أنه فى الستينيات وافقت الدولة على إقامة المدفنة فى القرشية. 

فى عام ١٩٦٢ كانت هناك انتخابات مجلس الأمة شاهدت جمهرة كبيرة جدا لأحد المرشحين من الكيلانية وكان يقف ضده ابن أخيه، هالني عدد المناصرين من الجانبين حيث كان الاحساس الوطنى قد خلق تلقائيا اهتماما بالسياسة ممثلا فى متابعة الانتخابات، فمظهر كم المؤيدين لهذا وذاك ذكرنى وأنا اصغر سنا بمعركة انتخابات ١٩٥٧ فى القوصية بين فوزى ابو سيف وبين الدكتور العربى وكان أستاذا فى الجامعة وهو من قرية عرب الهجمة التابعة لمركز القوصية، وهو أيضا والد نبيل العربى وزير الخارجية وأمين الجامعة العربية السابق . 

شاهدت المعركة ولفت نظرى كم العربات المستعملة فى الانتخابات كميزة مادية لا أملكها، هنا لم تقترب أحلامى فى هذه السن من مثل هذه المواقع، وإن كانت ميزة الأحلام التحليق بك فى مناخ لا تكون قادرا على تحقيقه. نعم حلمت ولكن لم تقترب أحلامى من موقع نائب الشعب لأننى لا أمتلك مالا أو رجالا أوعصبة ..الخ. 

كانت السنة الاولى فى ديروط لها خصوصية فى التكوين، كنت فى قمة مرحلة المراهقة وكنا نجتمع - أبناء القوصية – سويا، خاصة يوم الاثنين حيث يتم عرض الفيلم الجديد بالسينما فكان دائما يوما غير عادي. نعد الغذاء كمجموعة فى أحد الغرف المؤجرة لأحدنا، وتكون الغدوة سردين بقرشين وفجل بخمس مليمات وفى المساء ندخل السينما حيث أن السينما فى ديروط كانت تعرض الأفلام الأحدث مع تخلف سينما القوصية، ولذا ظل العقل الباطن محتفظا بأفلام مثل السفيرة عزيزة ونهر الحب ويوم من عمرى والسراب ...الخ . 

فى ليلة كان هناك سيرك فكنا نذهب إليه مساء للترفيه، اصطحبت أحد الزملاء من قرى القوصية وكان فى سنة الدبلوم، حدثنا فى الجنس كحديث محبب في مثل هذا السن. فوجئت أنه يذهب إلى امرأة مومس فقام بتشجيعنا ومن باب الفضول القاتل فى هذا السن شجعنى زميل آخر وذهبنا معه وكنا اثنان إلى منزل أشبه بعشه دخلت ارتعب خصوصا عند وصولنا للمكان. شاهدت امرأة لاعلاقة لها بالأنوثة، الأخطر أن الرجل الذى ادخلنا قيل إنه زوجها، هنا انتابتنى حالة ذعر، وتصورت أن الرجل سيقوم بافتراسى فررت هاربا للخارج. فى هذه السنة رسبت لاننى لم أحصل على ربع درجات الانجليزى والفرنساوى، هنا تملكنى احساس بأن الذهاب لهذه المرأة كان سبب رسوبى. وهذا كان له تأثير علي فيما بعد حين زرت موسكو واستانبول.

ديروط ودبلوم التجارة

رسبت فى السنة الأولى تجارى وجاء العام الدراسى ٦٢/٦٣، كانت نفسيتى سيئة وعشت أقسى لحظات الندم والخجل، خاصة عندما أشاهد زملائى الذين أصبحوا فى السنة الثانية، كان القرار هو السفر من القوصية إلى ديروط والعودة يوميا بدلا من السكن، خاصة أن عملية السفر يوميا قد لاقت قبولا كبيرا حتى أن كل الطلاب من مركز القوصية وقراها بدأوا يسافرون. كنا نستخرج مايسمى باشتراك السكة الحديد الخاص بالطلبة، ونسافر به طوال العام الدراسى فى الدرجة الثانية وليس الثالثة، وبثمن رمزى يقترب من المجانى تخفيفا على الطلاب غير القادرين. 

الإشكالية هنا أن مواعيد القطارات كانت لاتتوافق مع ظروف اليوم الدراسي، ولكن لانملك من الأمر شيئا، وآه لو لم نلحق قطار السادسة صباحا يكون الغياب من الدراسة، والغياب هنا كان فعلا غير مقبول.

فقد غبت يوما وانا فى ثانية إعدادي، وكان المقابل علقة لم تتكرر من والدى مما جعل الغياب عقدة شبه نفسية لازمتنى طوال عملى الوظيفى، أما الحل الآخر هو ركوب تاكسى وكان بثلاث قروش لايقدر عليه غير القادر، ولذا كان الاستيقاظ فجرا فى غالب الأيام، ولو تأخرنا فى الاستيقاظ نأخذ المسافة من منزلنا إلى المحطة فى النزالى جريا. 

وآه من الكلاب التى كانت تفاجئنا فجرا فى الشوارع طوال المسافة إلى المحطة، وكم أخذنا نصيبنا من هجوم الكلاب علينا أو الوقوع أرضا أثناء الجرى، ولازالت آثار تلك الإصابات. 

نصل إلى ديروط السادسة والنصف وتخيل هذا الميعاد فى الشتاء وهو صلب العام الدراسي، قيض الله لنا عمى خليفة، وهو صاحب قهوة الخندق! فى بدروم عمارة مواجهة للمحطة يفتح البدروم أو القهوة على سلم يبدأ من أمام المحطة نزولا إلى الشارع الموازي لها، تفتح القهوة وسط السلم . 

عمى خليفة كان محبا وودودا وواعيا حتى أن أحد أولاده تخرج من الكلية الفنية العسكرية ووصل إلى لواء (وهذا حصاد الستينيات) كان يطمئن علينا ويشجعنا على الدراسة، نفطر كوب شاى بالحليب بقرش مع رغيف فينو، نذهب للمدرسة وأيام الحصص السبع لم يكن أمامنا غير قطار السادسة مساء، نظل على المحطة مع تناول ساندوتش طعمية وسلطة بخمس مليمات، هذا ملخص يومنا الدراسي. 

فى هذه المرحلة كان المد الثورى قد أخذ مداه، فكانت القوانين الاشتراكية، وحدث انفصال الوحدة المصرية السورية الشيء الذى ترك جرحا للاحساس القومى. 

كان المناخ فى المدرسة متوافقا مع المناخ السياسى العام، نجحت وانتقلت إلى الثانية تجارى، ولما كانت المدرسة مختلطة بين التجارى والثانوي العام، كان مدرسو الثانوية يأخذون أحيانا حصصا إضافية فى التجارى، وكان المبدع أسامة أنور عكاشة مدرس فلسفة وعلم نفس فى المدرسة وشاء القدر دخوله لفصلنا أكثر من مرة ، أثرت شخصية أسامة فى وجدانى حيث كانت الحصة مناقشة عامة. وشاءت الأقدار أن أتواصل معه بعد تربعه على عرش الدراما التليفزيونية، وعزمته مرة على ندوة الأربعاء التى كنت اقيمها فى القوصية وسجلتها القناة السابعة.

وفى شتاء ٦٣ ذهبنا في رحلة للقاهرة والمحلة الكبرى بإشراف أستاذ اللغة الإنجليزية على السيد الذي كان مثل نجوم السينما، نزلنا فى لوكاندة النهر الخالد بكلوت بك، كنا نفطر فى مطعم ونتغدى كباب فى مطعم فى الدقى وكذلك العشاء، زرنا الأهرام كانت المرة الثانية وتسلقت حوالى عشرة حجارة من الهرم ثم نظرت للأرض، انتابتنى حالة رعب من السقوط أرضا ولم استطع التحرك صعودا أو هبوطا، حتى جاء أحد العاملين بالهرم وقام بانزالى، فكان موقفا لاينسى. 

زرنا استوديو مصر فكان شيئا مبهرا حيث التقينا عند المدخل الفنان محمد توفيق وسمير صبرى، دخلنا بلاتوه كان يتم فيه تصوير مسلسل (العسل المر)، انتقلنا داخله إلى ديكور حى شعبى وكان هذا الحى هو بين القصرين فلم يكن التصوير قد انتهى وشاهدنا تصوير مشهدا ظل فى مخيلتى أتذكره عند مشاهدة الفيلم للآن . انتقلنا إلى بلاتوه به شاشة ضخمة قيل إنها يعرض عليها تصوير الاماكن الخارجية بدون الأبطال ويقف الأبطال أمام الشاشة للتصوير حتى يظهر وكأن الابطال فى البحر مثلا وضرب الحاكى مثلا بمشهد أم كلثوم وأنور وجدى فى فيلم فاطمة.

استمعنا فى ليلة خميس فى اللوكاندة إلى أغنية أم كلثوم (سيرة الحب) وكانت تذاع للمرة الأولى، كان لسماعها مذاقا خاصا. ذهبنا الى المحلة وشاهدنا الصرح العملاق لمصانع الغزل والنسيج ؛ حيث ضخامة الآلات ومطعم العمال والسينما والمسرح الملحقان بالمصنع. كانت الرحلة لها مالها حينذاك. 

فى شتاء  ٦٤ذهبنا رحلة القاهرة والسويس، نزلنا فى نفس اللوكاندة، زرنا حديقة الحيوانات ومبنى ماسبيرو، وكان هذا شيئا لم يتصوره أحد منا. حضرنا برنامجا على الهواء كان يقدمه الفنان عمر الحريرى اسمه "الأطباق الطائرة". 

فى أحد الأمسيات كان معنا بعض الزملاء من بقايا الطبقة البرجوازية، أخذنا إلى ملهى ليلى يسمى شاليه القاهرة أمام مسرح الحكيم ذهبت معهم متحرزا من الموقف لعدم وجود نقود تكفي الانفاق في هذه الأماكن. طلبوا بيرة وانا طلبت مشروبا كان يسمى (كولا مصر)كان أغلب الحضور من ممثلين وممثلات، شاهدت لأول مرة الرقص الثنائى بين الرجل والمرأة. كان بجوارنا الفنان محمد شوقي، جالسنا حين شعر بغربتنا، تصورنا معه واتسترت ، حيث كان معى ثمن المصر كولا. 

بعدها ذهبنا إلى السويس، ووقفنا عند مدخل ارتباط القناة بالبحر الأحمر، كانت مشاهدة السفن العملاقة شيئا يوحى بالاعتزاز. فى امتحان الدبلوم تصادف حضور ابن عمى من اليمن بعد ثلاث سنوات، وكان عودة الجنود تمثل حالة فرح جماهيرى حتى غنى عبد الحليم اغنية (ياحبايب بالسلامة رحتم ورجعتوا لنا بالف سلامة).

جاءت حرب اليمن فى إطار الصراع بين حركة التحرر الوطنى التى كانت تقودها مصر فى مواجهة الدول الاستعمارية والدول الرجعية بقيادة السعودية . (وتشاء الأقدار أن تغوص السعودية الان فى المستنقع اليمنى) . وحصلت على دبلوم تجارة عام ١٩٦٥.

(محمد شوقى فى شاليه القاهرة)

لا شك أن الشخصية بكل ملامحها دائما ما تكون نتاج مجموعة تراكمات من الجغرافيا والبيئة الاجتماعية والتربية المنزلية والدراسية والإعلامية والدينية. فمنذ الطفولة كان الارتباط بوالدى عن طريق الحكى،  والدى كان فى بداية حياته من الفقراء، ولكن لأنه أصبح عاملا ببقالة الخواجه خرستو تأثر ببعض الممارسات، كانت ترسل للخواجه جرائد يونانية يحضرها والدى له من البريد وكان والدى يجيد القراءة والكتابة، وأصبح من قراء الاخبار وأخبار اليوم، مما جعل هناك أرضية ما لمتابعة الأحداث. 

على الجانب الآخر كان منزل جدى بجوار منزل الباشا فى منطقة الديوان (أى ديوان الباشا) وكانت ابنة الباشا (الست) تلعب فى فناء المنزل فكان مجرد رؤية الست هو منى الأطفال ومنتهى تطلعاتهم! مما رسخ وجذر البعد الطبقى فى نفوس الأطفال . كان والدى يحكى عن ممارسات الباشا ضد بعض الأعيان فما بالك بالعامة. 

أبى ولد مع ثورة ١٩١٩ ولكنه من الناحية الطبقية لاعلاقة له بالسياسة والأحزاب فهو طبقة خارج الكادر وخارج الصورة،  فى عيد ميلاد الملك وعيد جلوسه كان الأمر يصدر بتركيب سعف النخيل حول الدكاكين مع صورة الملك مما يعتبر عبئا على البعض ومنهم والدى؛ ولا أنسى ملله من هذه التكلفة، وبكل المقاييس لم يكن لوالدى وطبقته أى صلة  بنظام ماقبل الثورة. جاءت ثورة يوليو فكان وطبقته ممن استقبلوا الثورة  كأمل وحلم تحقق، وهذا بعيدا عن الاستفادة المادية، فوالدى لم يكن فلاحا ليستفيد من الإصلاح الزراعى مثلا. اعتبروا ماقبل الثورة ليس عهدهم وكانت الثورة لهم الامل وتحقيق الطموح وإثبات الذات، وأعطت الثورة هذه الطبقة وعدا بأنه لهم وتمثل زمنهم. 

كان لوالدى بالطبع أن يعجب بجمال عبد الناصر وبالصدفة كان اسمى جمال، فى هذا الجو ارتبطت وجدانيا وبلا وعى بالثورة وبعيد الناصر، إضافة للحالة الإعلامية  التي صنعها الراديو وتربينا من خلالها على الأناشيد والأغاني الوطنية (ياجمال يامثال الوطنية/ ياجمال ياحبيب الملايين ياجمال). بعد الثورة وفي ١٩٥٣ جاء إلى القوصية وزير الشؤون البلدية وعقد مؤتمرا فى شارع الجلاء حضرت المؤتمر وكنت في السادسة من عمري، فكان هناك زهو ما بعده زهو بأنني شاهدت وزيرا. 

أوائل عام ١٩٥٤ قام محمد نجيب مع جمال بزيارة للصعيد فى القطار الذى كان يهدىء من سرعته كثيرا على كل المحطات. تجرأت دون علم أبى لأن المحطة ليست فى القوصية وذهبت مع المستقبلين للمحطة فى النزالى . تسلقت عربة بضائع لكى أشاهد، شاهدت محمد نجيب وناصر وهما بالزى العسكرى ولا زالت الصورة قابعة فى أعماقى للآن. 

عام ١٩٦٣ كانت ملامح الدولة الاشتراكية قد ترسخت والانشاءات الخدمية تعددت فجاء محافظ أسيوط عصام الدين حسونة لوضع حجر الأساس للمستشفى المركزي، ذهبت للمشاهدة وكنت بجوار المحافظ عند وضع حجر الأساس، تم افتتاح المستشفى عام١٩٦٤.

 وجاء على صبرى رئيس الوزراء ومعه السيد يوسف وزير التعليم وعلى السيد وزير التعليم العالى، كنت مجاورا لهم حتى أنى ظهرت في صور جرائد اليوم التالي. هنا امتلأت بإحساس لا أدرك كنهه أننى ابن هذه الثورة، وأن عبد الناصر أبى أو صديقى . 

عام ١٩٦٦ جاء الزعيم إلى أسيوط، كنت قد عينت فى بنك صدفا، نزلت أسيوط لمشاهدة ناصر . تجمع الأصدقاء صلاح عبد الحفيظ وجمال ثابت وعزت متى وأنا، وقفنا أمام محل تلفزيون النصر مقابل للرصيف فى مدخل محطة أسيوط . كان معنا راديو ترانزستور نسمع منه الوصف التفصيلي للزيارة، كشباب انتابتنا لحظة تمرد فاتفقنا على ألا نهتف أو نتحرك رافضين التهليل المبالغ فيه،  ظهر القطار ومن المقصورة المفتوحة كان يطل الزعيم وبجواره عبد الحكيم عامر. هنا شعرت بشعور لم يتكرر كثيرا فى حياتي، نزل الزعيم إلى السيارة المكشوفة ومعه عامر (كان السادات والشافعي موجودين ولكن لم يرافقوهما فى السيارة) وبمجرد مرور السيارة أمامنا انتابتنا حالة من الحماس الجارف وليس حالة هتاف جرينا وراء السيارة حتى المنفذ. أسرعت السيارة توقفنا وتجمعنا فى المنفذ ضاحكين مما حدث حتى أننا لم نجد الراديو معنا حيث كان قد سقط وداسته الأقدام. فى المساء كان هناك مؤتمر جماهيري فى استاد الجامعة . الغريب أننا ونحن شباب صغار السن حضرنا المؤتمر فى الصفوف الأمامية. 

شاهدنا ناصر وكان سعد زايد محافظا لأسيوط فتحدث قبله مرحبا به (كانت كلمته مجاملة تجاوزت حدود الترحيب) سمعنا ناصر، راقبت حركاته وهمساته حتى انى اتذكر كمية السجائر التى دخنها أثناء المؤتمر وكان يضع الولاعة فى جيب الساعة بالبنطلون، فى هذا المؤتمر هاجم ناصر ألمانيا الغربية، وقال كلمته المشهورة (أن ماكنش عاجب ألمانيا تروح تشرب من البحر المتوسط). فى هذا المناخ الثورى ومع هذا التغير الاستراتيجى وفى ظل هذه الشخصية الكارزماتية تشكل وجدانى الناصري.
---------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك

الحلقة الأولى من شهادة جمال أسعد عبدالملاك

الحلقة الثانية 

الحلقة الثالثة

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان