19 - 04 - 2024

شاهد على العصر (١)

 شاهد على العصر (١)

الشخصية اى شخصية هى بنت بيئتها جغرافيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وهذا بشكل عام، وان كانت هناك شخصيات تأخذ لنفسها مسارا مميزا وذلك أيضا لعوامل وظروف توفرت لهذه الشخصية. هنا لاشك فقد كان تكوينى الشخصى ابن كل هذه العوامل إضافة لفرص خاصة حبانى بها الله كانت خارج الإطار المجتمعى الاسرى سواء كان هذا فى القوصية أو خارجها.

نشات وتواجدت منذ ميلادى وحتى عام  ١٩٦٥ بعد حصولي على دبلوم التجارة المتوسطة ثم تعيينى فى بنك الائتمان الزراعى بمركز صدفا آخر مراكز أسيوط جنوبا. فى منطقة فقيرة أقرب إلى العشوائية كان يطلق عليها عزبة القرود . كانت تضم سكانا من الطبقة الفقيرة من باعة الخضار والبطيخ والشامى والجزارين والفلاحين الأجراء أو مالكى قراريط لاتغنى من جوع. وكانت كل سكان هذه المنطقة من المصريين المسلمين، عدا منزلنا وأمامه منزل خالى وكان تاجر بقالة وخردوات وفى نفس الحارة خالى الثانى وكان مكوجيا. هنا اريد أن أوضح البيئة الشعبية التى تربيت فيها . كان والدى بقال عمل مع خواجة يونانى (خريستو) وكانت مصر فى ذلك العصر دولة كوزموبلاتانية (متعددة الجنسيات والثقافات) وكانت المدن والقرى فى حالة اجتماعية فى أغلب الأحوال فقيرة للغالبية مع أقلية فى حالة بين الفقيرة وأول المتوسطة . وكان اليونانيون يعملون فى البقالة التى تأخذ الطابع اليونانى أو المقاهى اليونانى أيضا وكان الخواجة (وسيلى) صاحب مقهى وبار وهو شقيق خرستو . وهذه المداخلة لأنه سيكون لها تأثير بعد ذلك فى تكوين الشخصية . 

ولأن والدى وخالى تجار (على قدهم ) لذا كانت منازلنا تختلف قليلا عن باقى المنطقة . فماذا كان منزلنا وكيف كانت علاقتى بأقرانى من أطفال المنطقة؟

قصدت أن أوضح البيئة الاجتماعية والشعبية التى نشأت فيها لأنها هى التى ساهمت فى تشكيل احساسي ووجداني وشخصيتى عبر ارتباطي بنوعية من البشر تسعى إلى رزقها بعملها المرهق حتى تعيش مثل البشر ولو كانوا فقراء . 

هى منطقة شعبية عرض الحارة لايزيد عن مترين مما يجعل الحياة متلاصقة مما يخلق حالة من الوضوح والمصارحة لأنها حياة تقريبا بلا أسرار . ولذا لاتوجد حساسية بين الفقير جدا والفقير. بين القادر على توفير غذائه وغير القادر على ذلك إلا بطلوع الروح . 

فى هذا الإطار وذلك المناخ جمعتنى زمالة أطفال فى سنى أو اكبر أو أصغر، وذلك لأن مسار الحياة المحدودة تجمعنا جميعا. فكنا نلتقى صباحا لننزل الترعة التى كانت تبدأ من قنطرة اول شارع الرى حتى مايسمى بالأبعدية. والأبعدية هذه هى بنت نظام ينظم الملكية الزراعية بعد تفكيك نظام الالتزام الذى أقره محمد على. وهى تلك الأراضى الخارجة عن النظام العام لأنها تخص الأسرة الحاكمة ومن ترضى عنهم الأسرة. 

هذه الترعة أصبحت الآن هى شارع الرى وشارع المستشفى المركزى وعلى الامتداد . لوجود الترعة فكانت المنطقة لاتخلو يوميا من غرقى. ولذا كان من طقوس المنطقة هى تعلم الاطفال العوم وكان معلم العوم يأخذ (جوز حمام) . وذلك لأن الجانب الاقتصادى والمعيشى كان يعتمد على تربية الطيور والدواجن والارانب...الخ، ليس للاكل ولكن للبيع يوم السوق الأسبوعي وهو الخميس لكى يتم شراء مايلزم الحياة طوال الأسبوع من حصيلة البيع لأناس تسمح إمكاناتهم بتناول الطيور والدجاج. اما الترعة وبعد تعلم العوم فكانت هى مصدر اللعب والسعادة والترفيه. فكنا طوال اليوم فى الترعة وحتى لاتسرق منا الملابس أثناء العوم على سبيل المزاح كنا نخلع ملابسنا فى منازلنا ونذهب عرايا إلى الترعة. وكم أخذنا من علق (ضرب) نتيجة لذلك. أما مجال الترفيه الآخر والذى عزز العلاقات الإنسانية الطبيعية والبسيطة  لبسطاء هو أن نقيم غدوة (أى نتناول الغداء مع بعضنا البعض) فيقوم كل منا ليحضر البتاو (وهو عيش بالذرية الرفيعة لايتعامل معه القادرون لأنهم يأكلون خبز القمح) ومن يأتى بقطعة جبن، ويمكن أن تكون من وراء والدته، ومن يأتى بفحل بصل ولو كانت هناك إمكانية للرفاهية يكون ذلك برأسين من الطماطم. ونأكل بسعادة وصحبة زرعت فى وجداننا قيمة (العيش والملح). أما عن منزلنا فكان من دورين، الأول مدخل البيت به طرقة وعن اليمين مندرة للضيوف وتستعمل للنوم عند اللزوم. فى المواجهة دورة مياة بلدي (بيت راحة او محل ادب) عند امتلائه يأتى رجال على باب الله لنزح الغائط (وكنت أشعر بألم لايوصف على هؤلاء البشر!) بعد دورة المياه فسحة تنتهى بمصطبة وهى جزء عال عن باقى الفسحة يستعمل للنوم بعد فرش حرام (مفرش ثقيل من صوف الماعز يفرش على الأرض وفى البرد الشديد يتغطى به) ثم السلم به درابزين من الطين منعا من السقوط.  بالدور الثانى حجرتان بينهما حضير (صالة) . ومع ذلك كان هذا المنزل بالنسبة للمنطقة مميزا لأن والدى كان بقالا افرنجيا تعلم البقالة من خواجة يونانى. ولذا عشت شبه حياتين، حياة وسط منطقة شعبية أقرب للعشوائية، وحياة أسفل الطبقة المتوسطة أو أعلى الفقيرة . ولذلك نشأت أرى فى منزلنا قربة للمياه السخنة علاجا لآلام الكلى، وشفاطا لإنزال لبن المرضعة مع حقنة شرجية، والأهم أن أمى كانت تعطى الحقن لكل نساء المنطقة وهذا يتم فى أى وقت صباحا أو مساء، مما جعلنى أعى العلاقات الاجتماعية والإنسانية بين البشر فما بالك بهذه النوعية من البشر،  البسطاء المحتاجين إلى المشاركة الإنسانية والاجتماعية على أرضية المشاركة الحياتية فى منطقة واحدة تجمعنا الأرض ونتشارك المصير . هذه هى النشأة التى شكلت اللبنة الاولى فى تكوين الشخصية.

قضيت طفولتى فى هذا المكان الشعبى شبه العشوائى مع أقرانى من أطفال المنطقة فى حياة بسيطة وسهلة. واذا كان العوم فى الترعة مصدر سعادتنا فكان اللعب بعضنا مع بعض هو كل السعادة . فماهى تلك الألعاب؟ لعبة السيجة وهى المقابل الفقير جدا للشطرنج. فيتم تحديد مربع على الأرض ويتم حفر نقر (حفر صغيرة داخل المربع ) بديلا لبلاط الشطرنج وتكون الأدوات هى قطع صغيرة بحجم الحفرة الصغيرة من الحصى. يتم تحريك الحصى فى اتجاه اللاعب المقابل ولو تمت محاصرة حصى اللاعب بحصوتين من حصى اللاعب المقابل تخرج برة اللعبة إلى أن يتم أكل (أى خروج كل الحصى لأحد اللاعبين) فيكون الآخر هو الفائز. أما لعبة (الطاب) وهى إحضار بوص الذرة الرفيعة وتقشير أكعاب وتقسيم الكعب لاثنين بالطول. يضرب المتسابق ثلاثة أنصاف من هذه الكعوب على الأرض، وتحسب النتيجة حسب ظهور الكعوب سواء مقلوبة أو معدولة فلكل وضع حسابه ويحدد المكسب والخسارة .

أما الكرة الشراب فلها وضع آخر . ينصب قالب طوب ويقف وراء القالب المتسابق معطيا ظهره للآخرين الذين يصطفون وراء بعضهم البعض. يقوم المتسابق بقذف الكرة للخلف ومن يتلقاها فهو الفائز وإذا وقعت على الأرض يتم القيام بالتنشين عن طريق الكرة على قالب الطوب لإيقاعه حتى يكون منتصرا. هذه الألعاب وكثير منها يكون على الخاسر دفع الثمن كيف؟ يتم عقد محاكمة له وينصب وزير للحكم ويتم المناداة على الوزير . (ياوزير .ياوزير. حكمك يسير) فينطق الوزير يحكم بأربعة سخنين وأربعة باردين. فيقوم الجلاد بفتل ملفحة (تمسك من منتصفها ويعقد النصف على الآخر فتكون مثل العصا) ويتم ضرب الخاسر أربعة  ضربات بعنف (السخنين) وأربعة آخرين بالكمية (الباردين) . هكذا كانت الحياة بلا مصادر ترفيه غير ذلك. 

وهذه الألعاب لم تكن تتم فى الحارة لضيفها واستحالة اللعب فيها. فالحارة طوال النهار والمساء صيفا. ونهار الشتاء تكون مملوءة بالسيدات يجلسن أمام منازلهن أو مجتمعات أمام أحد المنازل للحكى وسرد ماحدث لكل منهن طوال اليوم او فى الغالب للتنفيس عن مصاعب المعيشة فى حالة اعتراف اجتماعى جميل وبسيط. ولذا كان المتنفس لنا واللعب هو الشارع أمام المسجد الكبير . والمسجد الكبير يقع فى السوق الموجود به بقالة والدى. اى أن المسجد يقع فى منتصف المسافة بين منزلنا ودكان أبى، وهى منطقة السوق اى المملوءة بالحياة طوال اليوم. فالمسجد الكبير القابع فى وجدانى والماثل دائما فى مخيلتى هو المسجد المماثل لأقدم مساجد مصر منذ الفتح الاسلامى وهو مسجد عمرو بن العاص (والذى يقع بيت عمتى أمامه فى مصر القديمة) . ومما يظل فى الوجدان الشعبى والمرتبط بالمسجد الكبير الذى هدم للاسف وأصبح مسجدا تقليديا فقد عبق التاريخ ورائحته. كنا نشاهد كل خميس فى الغالب الأعم أفراح تلك الطبقة التى نشأت فيها من المصريين المسلمين من الباعة الجائلين والجزارين والخضارة .  

كنا ننتظر أمام المسجد حتى يتجمع المشاركون ويأتى العريس ووراءه زفة من النساء باغانيهن الشعبية . لابسا جلبابا بلديا يمكن أن يكون مستعارا من بعض القادرين فى المنطقة. وعلى كتفه لاسة حرير وممسكا بصحبة ورد فى داخلها شمعة كبيرة ويحيط به أصدقاؤه ويتقدم العريس الرجال رافعين عصى (زقل) مرددين (يحي عروسة الهوارة) . ووراؤهم السيدات وتتقدمهن سيدة ممسكة بطاجن مملوء بالملح تقوم برش الملح فى وجه الجميع حتى لايحسد  العريس. ويستمر الموكب وصولا إلى منزل العريس حيث تنتظر العروسة فى حجرة الزفاف التى بها حصيرة ومخدة وسحارة (صندوق خشبى لحفظ الملابس) . مع العروسة الداية التى تقوم بتوليد الحوامل لماذا ؟ حتى تشرف الداية على الموقعة الكبرى وهى إتمام الدخول! والدخول هو أن تكون العروس مستعدة حين يدخل عليها العريس لإنهاء الموضوع (أي فض البكارة) بإصبعه الملفوف حوله منديل أبيض حتى يتلقى الدم ليكون علامة الانتصار والعفة. ينزل العريس المنتصر بمنديله المخضب بدماء المسكينة ليعلن للمنتظرين سلامة الموقف وعند ذلك يبدأ الصراخ  والهتاف وإعلان الشرف. هذه هى طبيعة الحياة التى كان لها التأثير فى تكوين شخصيتي

------------------------

بقلم: جمال أسعد عبد الملاك

الحلقة الثانية من الشهادة

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب؟ (٩)





اعلان