28 - 03 - 2024

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (6 ـ 6) تحولات المجتمع المدني واحتمالات المستقبل

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (6 ـ 6) تحولات المجتمع المدني واحتمالات المستقبل

- ملاحظات أولية عن بعد على انتخابات 17 ديسمبر

كان المجتمع المدني بتونس ويتقدمه اتحاد الشغل ـ  بما له من مكانة تاريخية وسمعة طيبة خارج البلاد مقارنة بمختلف أحوال العالم العربي ـ  قد اختبر قبل 25 جويلية 2021 وتيقن أن الرئيس "قيس سعيد "بدوره جزء من الأزمة السياسية للبلاد. ومصداق ذلك أن الاتحاد تقدم بأكثر من مبادرة "للحوار الوطني" إلى الرئيس وتجاهلها. أبدا لم يلعب رئيس الجمهورية الدور المنوط به دستوريا كرمز لوحدة الدولة ( الفصل 72 من دستور 2014)، وهو مالم يتوان سلفه الراحل الرئيس "السبسي" عن القيام به أو يجتهد في  محاولته، نجح أو أخفق.

مواقف قيادة اتحاد الشغل

 لكن قيادة اتحاد الشغل مع الانقلاب على المؤسسات واستقلاليتها عن السلطة التنفيذية يتقدمها البرلمان والقضاء وعلى الدستور ، وفي ظل تصاعد العدوان على الحريات والحقوق تغاضت وصمتت في  الأغلب ، بل واتسمت مواقفها إلى ما قبل أيام من انتخابات 17 ديسمبر 2022 بمباركة إجراءات ومسار 25 جويلية. صحيح أن هذه القيادة امتنعت عن المشاركة في اللجنة "الاستشارية" لوضع دستور الرئيس "قيس سعيد" وعن الدعوة للاقتراع عليه أو مقاطعته. 

إلا أنها تنكرت لما اختبرته هذه القيادة بنفسها بشأن أن للرئيس نفسه إسهامه المهم في الأزمة. بل وانخرطت في تبني خطاب المبالغات والافتراءات الذي اعتمده تحالف الرئيس "سعيد"، ومن خلفه بيروقراطية أجهزة الدولة المحتكرة لشرعية ممارسة العنف وأعداء الثورة خارجه وإعلام الثورة المضادة المحلي والإقليمي. وتبنى خطاب قيادة الاتحاد مصطلحات "العشرية السوداء"، ووصم الأحزاب بالمطلق بالفساد والفشل. ناهيك عن هذا، لم تقدم  هذه القيادة تفسيرا أو مراجعة لجمهورها وللرأي العام بتونس وخارجه عن مشاركتها هي نفسها في منعطفات وقرارات وسياسات حاسمة خلال هذه "العشرية"، التي اصبحت عندها أيضا بين عشية وضحاها "سوداء". 

بين تفاعل عميد المحامين وصمت مجلسهم 

  ولم يكن حال التنظيم النقابي للمحامين أفضل حالا ، و بما لهم من دور مقدر في الحياة السياسية لتونس تاريخيا. بل يمكن القول بأن "الهيئة الوطنية للمحامين بتونس" ممثلة في عميدها "إبراهيم بودربالة" (نقيبها حتى انتخابات مجلس الهيئة سبتمبر 2022) اتخذت المواقف الأكثر انحيازا ومجاراة  لمسار 25 جويلية وإلى جانب الرئيس "قيس سعيد"، والأكثر تساهلا تجاه العدوان على الحريات والحقوق والارتداد عما كان بعد الثورة، وحتى بما في ذلك العدوان على المحامين أنفسهم. صحيح أن أصوات مختلفة متميزة ارتفعت تعترض بين قيادات فروع هيئة المحامين ، وبخاصة فرع تونس العاصمة. لكن اتضح أن مجلس هيئة المحامين مؤسسة شبه غائبة وأضعف كثيرا من العميد/ الشخص ، والذي بدا وكأنه يحتكر تمثيل عموم المحامين التونسيين في ظل تعطيل العمل المؤسسي والديمقراطية داخل مجلس الهيئة. 

 وذهب العميد "بودربالة" بعيدا في دعم كل محطات مسار 25 جويلية. شارك في اللجنة "الاستشارية" لوضع دستور رئيس الدولة على أنقاض دستور الثورة / العقد الاجتماعي. وهو الدستور الجديد الذي أسقط مكسب المحامين "بدسترة المحاماة" في دستور الثورة المعطل ثم الملغي، ومعه ضمانات حصانة المحامي خلال مرافعاته وأعماله أمام المحاكم(*). واستمر داعما مؤيدا للاستفتاء على دستور أسماه الرئيس سعيد "دستور الجمهورية الجديدة". وهذا حتى بعد خروج رئيس هذه اللجنة "الصادق بلعيد" ليعلن أن الرئيس "سعيد" تنكر للنص المقدم من اللجنة ، وتقدم بآخر من عندياته وصفه بأنه "خطير ويمهد لنظام دكتاتوري مشين". وواصل عميد المحامين السابق ، فشارك في انتخابات 17 ديسمبر ، وظفر بمقعد من هذه الجولة الأولى للانتخابات يتردد أنه يرشحه لتولى رئاسة مجلس النواب المقبل. 

رابطة حقوق الإنسان ونقابة الصحفيين .. كيف؟ 

 حتى الرابطة التونسية لحقوق الإنسان ترددت قيادتها وتأخرت كثيرا في مواجهة انقلاب الرئيس "قيس سعيد" وتداعياته ومسار 25 جويلية في الممارسة وعلى حياة التونسيين ، وهي الأقدم والأعرق في محيطها العربي والأفريقي (تأسست في عام 1976)، والتي تنتشر فروعها في المدن التونسية خارج العاصمة أيضا، وبما لها من تاريخ نضالي ضد استبداد الرئيسين "بورقيبة" و"بن على" والدولة البوليسية، ومع تبنيها المنظومة الكونية لحقوق الإنسان مبكرا.

 ولعل النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وقيادتها الشابة المنتخبة كانت الأكثر استقلالية نسبيا عن خط الرئيس "سعيد" وأجهزة سلطة الدولة مقارنة بمنظمات المجتمع المدني المشار إليها هنا سابقا. وربما يمكن تفسير هذا بفداحة ما أصاب ومبكرا حرية الصحافة والصحفيين بعد 25 جويلية 2021 من اعتداءات وانتكاسات. وهي الاعتداءات والانتكاسات التى ترجمت نفسها سريعا في انحدار وتدهور ترتيب تونس بعد تحسنها بفعل الثورة وسنوات العشرية اللاحقة عليها وفق دليل / ترتيب حرية الصحافة لمنظمة "مراسلون بلا حدود"، وذلك من المرتبة 164 بين إجمالي 178 دولة في عام 2010 إلى 72 من بين  180 دولة في عام 2020، ثم 94 بحلول إعلان  نتائج هذا الدليل في يوم حرية الصحافة 3 مايو 2022.

 ويحتاج تقييم مواقف قيادة نقابة الصحفيين التونسيين بعد 25 جويلية 2021 لمزيد من النظر والاهتمام، وبخاصة على ضوء اتهامات بتحيزات وتمييز أيديولوجي و سياسي وجراء اتهامات أخرى بـ "العلاقات والميول الشخصية". وهي اتهامات تحتاج إلى دراسة واستجلاء ، وإن كنت قد تساءلت عن فرص إطلاق نقاش صريح حول هذه الاتهامات ومسؤولية الصحفيين التونسيين أنفسهم عما لحق بحرية الصحافة ومهنيتها عندهم  من تدهور في مقال بعنوان "هل هو خريف الصحفيين في تونس؟"، تفضل موقع "نواة" التونسي بنشره بتاريخ أبريل 2022. 

مجتمع مدني انكشفت أزمته 

وهكذا .. وقفت كبريات منظمات المجتمع المدني مع اتحاد الشغل في أفضل الأحوال داخل مربع المتفرج إزاء تعطيل الدستور وإغلاق البرلمان بدبابة جيش ، وتعطيله ثم حله ، ومن البداية إزاء العدوان على الدستور وإساءة تفسير الفصل80 (حالة الاستثناء) وصولا إلى إلغائه بالكامل. بل وصمتت على العديد من انتهاكات حقوق الإنسان ، بما في ذلك المحاكمات العسكرية للمدنيين معارضي رئيس الدولة ، ومنع الآلاف من السفر بدون حكم قضائي. وفي الأغلب صمتت على الاعتداء على استقلال السلطة القضائية من حل المجلس الأعلى المنتخب للقضاء إلى إقالة 57 قاضيا والتشهير بهم والامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء الإداري بإعادة معظمهم. 

ومنحت هذه المنظمات مسار 25 جويلية من الوقت أكثر مما ينبغي ، وحتى لو سايرنا خطابها بأن ما يفعله الرئيس "قيس سعيد" هو "حركة تصحيحية" لمسار ما بعد الثورة "ومطلب الشعب". وربما كان لبعض هذه المنظمات اعتباراتها ومبرراتها الوجيهة فيما يتعلق بسلوك حزب حركة"النهضة" ومن شارك في الحكم قبل هذا التاريخ ومسؤوليتهم عن وصول الأوضاع إلى الأزمة وانعدام الكفاءة في مواجهة وباء "كورونا". إلا أن المبالغة في هذه المبررات لتبرير انقلاب على هذا النحو بدا كارثيا، ويستحق المراجعة من قيادات معظم مكونات المجتمع المدني.

وقد كتب الحقوقي التونسي "مسعود الرمضاني" بمقاله المهم "المجتمع المدني وضرورة المراجعة" بجريدة " المغرب " في 16 سبتمبر 2022 فنبه إلى "ارتباك" وأخطاء، وكذا عن أسباب يمكن تفهمها لهذا الموقف من المجتمع المدني. ولعل ما يعزز الحاجة لمراجعة شجاعة هنا أيضا أن تصل الأمور بالمنظمات الأربع (اتحاد الشغل وعمادة المحامين ورابطة حقوق الإنسان واتحاد الأعراف / أصحاب العمل) أن تسقط فجأة دورها وتاريخها المقدرين من حساباتها وخطابها، وأن تنخرط في دعاية "العشرية السوداء". وقد استحقت على هذا الدور أن تتوج وتونس بجائزة "نوبل" للسلام لعام 2015. وهذا تقديرا لجهودها في التوسط بين القوى السياسية والحزبية في عامي13 و2014 ، وعلى نحو منع الانزلاق إلى حرب أهلية أو انقلاب يئد الديمقراطية الوليدة.

وبالطبع هناك ما هو أكثر بؤسا في هذا السياق ، ويكفي أن نذكر بالدور السلبي لعميد المحامين السابق "بودربالة" إلى جانب مشروع "سعيد" الاستبدادي في كل محطاته. وكذا إلى الاستفاقة المتأخرة لرابطة حقوق الإنسان ضد انتهاكات جسيمة للحريات والحقوق لم تشهدها عشرية مابعد الثورة. وهو ما يؤكد ما نبه إليه "الرمضاني" في مقاله بشأن ما أصاب مفهوم "المواطنة" عند المجمتع المدني بصرف النظر عن الانتماءات الايديولويجية والفكرية والسياسية للقائمين على قيادة منظماته ولضحايا هذه الانتهاكات. وهذا مقارنة بما كان في "سنوات الجمر" قبل الثورة. 

تمرير الإطاحة بدستور العقد الاجتماعي 

تورطت بدورها "الرابطة" الأقدم والأعرق عربيا وإفريقيا وبسمعتها المقدرة ونضالاتها، التي نفتخر بها في العالم العربي خارج تونس، في تمرير الإطاحة بدستور الثورة / العقد الاجتماعي وبالكامل وبما ينص عليه من حقوق وحريات ورؤية تقدمية ، وفي المشاركة بحوار غير جاد وغير منتج لوضع "دستور الرئيس". ومؤسف أن يأتي قرارها بالمشاركة في هكذا حوار يوم 22 مايو 2022 بأغلبية 13 من  أعضاء هيئتها المديرة واعتراض 3 فقط وتحفظ عضو واحد.  

و لم يكن لهذه المنظمات الكبرى في الأغلب موقف واضح إلى جانب الدعوة إلى مقاطعة استفتاء 25 يوليو 2022 على دستور ظاهر الطغيان أو مواقف حاسمة من الانتقاص من الحقوق والحريات واستقلال القضاء، أو بالنسبة لانتخابات 17 ديسمبر على برلمان ليس بالبرلمان، ولا يرقى أبدا لما كان من مجلس تأسيس وبرلمانين بعد الثورة.

مراجعات مطلوبة 

 ولم نشهد لليوم بوادر مراجعة من قيادة "اتحاد حشاد العظيم" و"أكبر قوة في البلاد" وغيره من هيئات المجتمع المدني الحي والمقدر إزاء المسئولية عن التفريط في دستور الثورة الذي أسهم الاتحاد بدور مقدر في صياغته ، أو بشأن إهدار ما تطورت إليه الحياة النيابية ، وعلى الرغم من السلبيات والمشكلات. 

وقد أتاحت برلمانات مابعد الثورة،  نظريا وفي الممارسة وتحت رقابة منظمات ومؤسسات المجتمع المدني مثل منظمة "بوصلة" والصحافة والبث المباشر لجلساتها ، مناقشة بنود قانون المالية (الميزانية) بالتفصيل وبشفافية، وإسقاط بعضها تحت ضغط مصالح الطبقات الشعبية والمجتمع المدني والمعارضة السياسية؟. وإن كانت الحصيلة لم تكن على النحو المرجو بحكم اختيارات الناخبين لممثليهم في البرلمان، والتي لم تكن ناضجة بعد. 

 وإذا بدأت المراجعات لابد أنها ستتطرق إلى أسباب تحولات المجتمع المدني بتونس. من بينها نشير إلى ستة عوامل أو أمور في تفسير ما جرى منذ 25 جويلية 2021، وهي جميعا تستحق النقاش بصراحة:

 - الأول حقيقة ممارسة الديمقراطية الداخلية في مؤسسات وهياكل المجتمع المدني. وثمة هنا مؤشرات لافتة إلى جانب ماجرى داخل الهيئة الوطنية للمحامين بتونس. ونشير منها إلى العدوان على مبدأ التداول الديمقراطي للقيادة والمسئولية في اتحاد الشغل، وذلك على ضوء قرار المؤتمر الاستثنائي للمجلس الوطني للاتحاد في سوسة 8 و9 يوليو 2021 بتعديل الفصل 20 من القانون الأساسي لاتحاد الشغل بما يسمح بتولى أكثر من ولايتين في عضوية المكتب التنفيذي ، وذلك تمهيدا للتمديد لقيادته الحالية لعهدة ثالثة.. وهكذا.

- والثاني الخلط بين  الأدوار وتضارب المصالح والمفاهيم والمناهج بين نشاط المجتمع المدني وبما في ذلك الحقوقي وبين العمل بالسياسة وتأثير الانتماءات السياسية والحزبية والأيديولوجية. وفي هذا السياق، ثمة مايقال عن نفوذ مجموعات سياسية بعينها لا تكترث كثيرا بالديمقراطية وحقوق الإنسان على قيادة عدد من منظمات المجتمع المدنى الكبرى الوازنة ، ومن بينها ما هو محسوب على بعض التيارات العروبية الناصرية و اليسارية ، ناهيك عن المحسوبين على تراث وعلاقات الاستبداد قبل الثورة.

- الثالث يتعلق بما يتردد ويتسرب ـ وبالوثائق أحيانا ـ عن شبهات تورط بعض قيادات هذه المنظمات في الفساد ، ويرتبط بهذا توظيف سلطة إعادة انتاج الدكتاتورية لهذه الشبهات في التأثير على سياسات ومواقف كبريات منظمات المجتمع المدنى عن طريق آليات متعددة من الابتزاز والتواطؤ بالتغطية على مخالفات هذه القيادات. وهو ما يثير بالطبع مسائل انعدام الشفافية والمحاسبة والرقابة من عموم أعضاء هذه المنظمات على القيادة، وسواء عن سنوات ماقبل الثورة وفي غضونها أو بعدها.  

- والرابع هو ما تبدى خلال سنوات مابعد الثورة من حساسية مفرطة عند كبريات منظمات المجتمع المدني إزاء النقد وبخاصة من خارجها ، وإضفاء مبالغات تقترب من القداسة على هذه المنظمة أو تلك وعلى أدائها وقياداتها. 

- والخامس يتصل بمؤشرات نشوء وتطور بيروقراطية ضارة داخل قيادة وسلطة القرار في بعض كبريات منظمات المجتمع المدني. 

- أما العامل أو الأمر السادس فيتعلق بما قد يظهر من تأثيرات سلبية لبعض المانحين الأجانب على سياسات وأولويات وقيادات بعض منظمات المجتمع المدنى، وعلى علاقاتها بالنخب والخيارات السياسية في المجتمع التونسي. 

وهذه المراجعة تظل مطلوبة وملحة خصوصا مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية بعد 25 جويلية 2021 على نحو كارثي. وأيضا في ظل الطريقة غير الديمقراطية لاتخاذ أخطر القرارات الاقتصادية التي تمس معيشة التونسيين، وبما في ذلك قوانين المالية الجديدة واتفاق الحكومة مع صندوق النقد الدولي المعلن عنه  مبدئيا في منتصف أكتوبر 2022.  

فقط بعد العزوف غير المسبوق أمام انتخابات 17 ديسمبر 2022 وتزايد الوعي بأن تونس ذاهبة إلى أزمة شاملة مستحكمة وأن الرئيس "قيس سعيد" مستمر في مأزقه بدأت تظهر بوادر لأن يقود اتحاد الشغل مبادرة "لحوار وطني"، ومع ارتفاع أصوات النقد من داخل الاتحاد إزاء حصاد مسار 25 جويلية. لكن ماهي البدائل في حالة ما أصر رئيس الدولة على مواقفه السابقة بالرفض؟. هل يملك الاتحاد مثلا المبادرة بالدعوة "لاعتصام رحيل" يشبه هذا الذي  دفع الحكومة التي رأسها النهضوي "على العريض" على الاستقالة في يناير عام 2014؟. وهو الاعتصام الذي شارك فيه الاتحاد حتى حقق أهدافه مع لعب دور الوساطة في الوقت نفسه بين القوى السياسية الحزبية. 

احتمالات لواقع يزداد تأزما

لتلخيص المشهد التونسي بعد انتخابات 17 ديسمبر 2022 يمكن رسم خطوط عريضة مع عدة احتمالات على النحو التالي :

 ـ أزمة تضرب تونس على كل المستويات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا ، وحتى في علاقاتها مع من دعمها في مسار الانتقال إلى الديمقراطية ، وعلى نحو خاص العديد من الأطراف الأوروبية التي تستمع حكوماتها نسبيا لمجتمعاتها المدنية ولصحافتها الحرة. 

ـ هي أزمة تونس كلها وليس فقط مأزق رئيس منتخب ديمقراطيا  انقلب على الديمقراطية ومؤسساتها وهيئاتها  المستقلة، وبما في ذلك استقلالية هيئة الانتخابات التى أشرفت على انتخابه. وهي أزمة تأكد أنها انتقصت من هوامش الحريات والحقوق التي جلبتها الثورة بعد مسيرة عسيرة استمرت بعدها 10 سنوات بايجابياتها وسلبياتها ومشكلاتها. 

ـ معارضات سياسية حزبية متنافرة ، إن لم نقل متناحرة. ولم يجرؤ أي منها أن يتخذ بعد خطوة حاسمة بفعل شعبي ضاغط مستمر كالاعتصام في الشارع حتى إنهاء الانقلاب ، أو التقدم إلى مربع الدعوة "للعصيان المدني". 

ـ رئيس جمهورية عنده كل السلطات تقريبا. و من الأرجح ألا يتراجع أو حتى يقبل بـ"حوار وطني" لحل الأزمة، تشارك فيه مختلف المكونات السياسية والمجتمعية. وقد وجد لانقلابه على الثورة ودستورها وما حققته نسبيا خلال عشر سنوات من حريات وحقوق حلفا مجتمعيا وسياسيا جاهزا ، وأحكم سيطرته على مؤسسات وأجهزة الدولة / القوة التي تحتكر السلاح. وطور علاقة تكامل "وهيمنة متبادلة " مع قيادات بالجيش والأمن الداخلي وأجهزة المخابرات وبيروقراطية جهاز الدولة العليا. وهذا في ظل مجتمع مدني غلبت عليه السلبية . 

 ـ لكن من غير المستبعد في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وكارثيتها تحول تونس سريعا ـ كغيرها من تجارب الثورة المضادة ـ إلى اقتراض مجنون من الخارج بلا رقابة جادة فعالة برلمانية أو غير برلمانية. ومن ثم غير مستبعد مع الانتقال إلى دولة الجباية أو "المجبي" بالتعبير التاريخي التونسي أن تبدأ قوى بين حلف 25 جويليةفي مغادرته، و أن تنتقل بشكل حاسم منظمات المجتمع المدني إلى العمل بإيجابية ضد سياسة وخيارات الرئيس "قيس سعيد" وما تبقى في حلف 25 جويلية . وألا تكتفى بالدعوة "للحوار الوطني"، بل ربما تنخرط بدورها في ممارسة الضغط على رئيس الدولة.

ـ  وفي سياق استمرار موقف الرئيس "قيس سعيد" الرافض ، ثمة احتمال "لحوار وطني" في غيبته ، وبين كافة القوى السياسية والمجتمعية بدون إقصاء ، تقوده كبريات منظمات المجتمع المدني. 

ـ إذا استمرت الأزمة السياسية مع تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية وتفاقم تداعياتها على نحو كارثي من غير المستبعد الانتقال إلى ماهو أبعد ووفق خيارات محددة . مثل اللجوء إلى اعتصام رحيل جديد بأفق عصيان مدني تلعب الطبقة الوسطى فيه دورا مهما، و بقيادة كبريات منظمات المجتمع المدني (يتقدمهم بالطبع اتحاد الشغل).  وهذا نظرا لتضرر معظم هذه الطبقة من التدهور المعشي الشامل والانتكاسة على صعيد الحريات والحقوق ومن طول الأزمة. وهو ما من شأنه إيقاف إجراء الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية لـ"برلمان قيس سعيد" وإجباره على التنحي ما يفتح الطريق أمام اجراء انتخابات رئاسية مبكرة وانتخابات بحق لبرلمان جديدة يتمتع بصلاحيات الرقابة على السلطة التنفيذية .

 وربما يجرى في هذا السياق طرح استعادة دستور العقد الاجتماعي بعد الثورة (دستور 2014)، ولو مع بعض التعديلات، و بما يعيد للسلطتين التشريعية والقضائية اعتبارهما واستقلاليتهما مع حكومة مسؤولة أمام البرلمان وتتمتع بهامش استقلالية معقول أمام رئاسة الجمهورية. ناهيك عن استعادة استقلالية الهيئات التي أطاح بها 25 جويلية وتداعياته كـ "الهيئة الوقتية للرقابة على القوانين"، أو أضر بمكانتها وسمعتها كهيئات الانتخابات ومكافحة الفساد و"الهايكا" المكلفة بالاتصال السمعي والبصري.

ـ إذا لم تتحقق أي من احتمالات التغيير السابقة ، فإن تونس مرشحة على الأرجح لانفجار كبير للاحتجاجات الاجتماعية في الفضاء العام ستكون له تداعياته على مكونات الساحة السياسية وسلطة الدولة، بل وقيادات المجتمع المدني ذاته. وربما لن تسلم من آثاره مؤسسات وأجهزة الدولة التي قام "سعيد" بتوظيفها سياسيا، واستغلت هي بدورها سلطته المطلقة لتتغول تحت رعايتها على حريات المواطنين  وتستهين بحقوقهم. وفي سياق هذا الاحتمال وتداعياته (الانفجار الاجتماعي الكبير) يصبح مطروحا التساؤل عن هذا الانفجار الاجتماعي مسالة شرعية قيادة النخب في الأحزاب المعارضة والمجتمع المدني للتغيير، ومدى فرص طرحها لبدائل تؤطر احتجاجات الشارع "المنفلتة من سيطرتها" بالدعوة حينئذ ومتأخرا "لاعتصام الرحيل" و"للعصيان المدني" وبعدما استبقه الانفجار الاجتماعي الكبير. 

ـ وهناك أيضا احتمال آخر في حال تيقن قوى الثورة المضادة إقليميا ودوليا الداعمة للرئيس "قيس سعيد"  بأنه أصبح عبئا على حلفائه في الداخل وتجنبا لثورة جديدة في الإقليم وفي ظل تصاعد الضغوط الدولية من جانب مانحي المساعدات والقروض على "سعيد" بإحكام طوق العزلة عليه. إذ ليس من المستبعد أن تسهل قوى إقليمية ودولية العودة لخيار "عبير موسى" وحزبها "الدستوري الحر"، أو الإتجاه"لانقلاب قصر " يقوده جنرال من وزارة الداخلية أو الجيش تحت غطاء إنقاذ البلاد  من "الفوضى" و"الحرب الأهلية".  ويتمنى المرء في هذه الحالة ألا تصل الأمور إلى استدعاء خبرة تاريخ تونس ذاته في الإطاحة بزعيم الاستقلال ومؤسس دولته الوطنية الرئيس "الحبيب بورقيبة" يوم 7 نوفمبر 1987، فيما وصف "بانقلاب طبي". إلا أنه في  هذه المرة قد يجرى إثبات عجز رئيس الدولة عن ممارسة مهامه "بكونسولتو" أطباء من تخصصات أخرى. 

ـ إذا رجحت كفة بقاء ضعف المعارضة السياسية والمجتمع المدنى مع مصادرة المجال العام والخوف من تغول "الدولة البوليسية" وعلى نحو يؤجل أيضا "الانفجار الاجتماعي الكبير" ويجعل المكونات الأساسية لحلف 25 جويلية ملتفة حول رئيس الدولة ، فمن الأرجح أن يستمر " قيس سعيد" في مسار 25 جويلية وفي تعميق مأزقة مع إطالة أزمة تونس وتعقدها واستفحالها. وبمرور الوقت، ستواجه البلاد على الأرجح استحقاق انتخابات الرئاسة خريف 2024ـ إذا بلغته ـ مع إعادة تقدم "سعيد" لمنصب في ظل انعدام ثقة غير مسبوق منذ ما بعد الثورة في نتائج الانتخابات وهيئتها المشرفة عليها. 

حكمة حفاري القبور

  للأسف يعطي مآل الثورة التونسية والعشرية اللاحقة حجة إضافية للقائلين بأن الشعوب العربية لا تستحق الديمقراطية وليست أهلا لها، وبأن "إسرائيل" ـ هذا المشروع الاستعماري العنصري الموروث من القرن التاسع عشر ـ هي وستظل "الديمقراطية الوحيدة" في منطقتنا. وهو بدوره قول عنصري يستدعى ما نقرأه في كتب تاريخ الإنسان والموسوعات الاستعمارية التي تعود للقرن التاسع عشر. 

ولعل قليلا من الأدب المسرحي يصلح لختام هذه المقالات الستة. ففي مشهد "حفار القبور" من مسرحية "شكسبير" يسأل الأمير "هاملت" الرجل المنهمك في إعداد مقبرة لاستقبال وافد جديد عليها:

ـ كم من الزمن يمر على الإنسان وهو دفين قبل أن يفسد؟

فيجيبه : والله إذا لم يكن فاسدا قبل ان يموت فإنه يبقى ثمانى أو تسع سنوات. ولدينا هذه الأيام جثث كثيرة تكاد لا تتحمل إنزالها في التراب.  

.. وفي المشهد نفسه، يعود "هاملت " ليسأل صديقه "هوراشيو"، وهما في المقبرة وقبل أن يعلما بأن هذا القبر يجرى اعداده لدفن حبيبة الأول المنتحرة "أوفيليا":

ـ أما لهذا الرجل من احساس بالعمل الذي يقوم به حتى يغنى وهو يحفر قبرا. 

( انتهى) 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: كارم يحيى 

(*) ينص الفصل 105 من دستور 2014 على أن " المحاماة مهنة حرة مستقلة تشارك في إقامة العدل والدفاع عن الحقوق والحريات. ويتمتع المحامي بالضمانات القانونية التي تكفل حمايته وتمكنه من تأدية مهامه". وعلى هذا النحو جرى "دسترة" المحاماة والمحامين للمرة الأولى في تونس.  ولقد كان في رأي العديد من منظمات المجتمع المدني التونسي ـ بما في ذلك اتحاد الشغل و هيئة المحامين ورابطة حقوق الإنسان ونساء ديمقراطيات أن دستور 2014 هو الأكثر تقدميه ومدنية واعترافا بالحقوق والحريات الشخصية والعامة والاجتماعية والسياسية في تاريخ تونس وفي محيطها العربي والأفريقي. وشهدت السنوات الست التالية تشريع البرلمان عددا من القوانين  التقدمية استنادا إلى دستور الثورة ، ومن بينها ماهو ضد التمييز العنصري والإتجار بالبشر و العنف المسلط على المرأة والإرهاب، ومن بينها أيضا ما يعزز الاقتصاد التعاوني ومسئولية الدولة عن تشغيل من طالت بطالتهم والحق في إتاحة المعلومات وغيرها. والحقيقة وفيما يتعلق بأزمات مؤسسات الحكم، اعتبر العديد من المراقبين  والدارسين الأوروبين ممن تناقشت معهم غير مرة أن المشكلة كانت ودائما ليست في دستور 2014 ونصوصه بل في عدم تنفيذ هذه النصوص . وهذا ماكنت قد تحسبت له مبكرا في مقال بعنوان "دروس الدستور التونسي" بجريدة "الأهرام" بتاريخ  30 يناير 2014،  أي عقب أيام معدودة من اقرار المجلس التأسيسي للدستور في 27 يناير من هذا العام.

الحلقات السابقة

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (1 ـ 6) ملاحظات أولية عن بعد على انتخابات 17 ديسمبر

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (2 ـ 6) غضب المرأة والشباب وفقدان الثقة في مسار 25 جويلية/ يوليو

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (3-6) هل يمكن فصل شرعية الرئيس عن مشروعه؟ ومن مهد الطريق لـ 25 جويلية؟

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس(4 من 6) كيف تشكل حلف "25 جويلية" وما هي مآلات مكوناته؟

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (5 من 6 ) ثلاث معارضات متنافرة لمسار 25 جويلية






اعلان