29 - 03 - 2024

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (5 من 6 ) ثلاث معارضات متنافرة لمسار 25 جويلية

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (5 من 6 ) ثلاث معارضات متنافرة لمسار 25 جويلية

ملاحظات أولية عن بعد على انتخابات 17 ديسمبر

بعد أن ناقشنا أبرز مكونات حلف 25 جويلية الداعم للرئيس قيس سعيد وصولا إلى انتخابات 17 ديسمبر 2022، ننتقل هنا إلى التعرف على القوى المعارضة له من البداية، أو من انتقلت في محطات متتالية من ضفة إلى أخرى.  

ولقد أسهمت عديد من الأحزاب والقوى السياسية، بما لها من ثقل في الشارع وحضور في البرلمان، في تمهيد الطريق أمام إجراءات الرئيس "سعيد" من إغلاق البرلمان وتعطيله ثم حله وإلغاء دستور العقد الإجتماعي / الثورة. وكانت مثل هذه الأحزاب والقوى أو معظمها  قد شارك في صياغة هذا الدستور "المغدور"، والموافقة عليه بالمجلس التأسيسي يناير 2014.

 في البداية عبر بعضها عن نوع من التأييد النقدي أو مع تحفظات تجاه 25 جويلية . لكنها أصبحت في الضفة الأخرى وانتقلت إلى المعارضة والمطالبة بإنهاء هذا المسار. بل وتدعو بالمجمل بعد انتخابات 17 ديسمبر 2022 لانتخابات رئاسية مبكرة. ونشير هنا إلى أبرز هذه الأحزاب والقوى السياسية لما كان لها من مقاعد في البرلمان أو لأسمائها التاريخية.

"التيار الديمقراطي" والأحزاب الخمسة

يبرز في هذا السياق حزب "التيار الديمقراطي" (22 نائبا وثالث حزب في برلمان 2019) . وهو من أحزاب الثورة، ويمكن تصنيفه إلى يسار الوسط. لكن "محمد عبو" مؤسسه المحامي المعارض السجين السياسي زمن دكتاتورية الرئيس "بن على" تورط في الدعوة لانقلاب عسكري قبل أسابيع من 25 جويلية 2021. ووسط تضارب في  مواقف قياداته بحلول هذا اليوم ، صدرعن اجتماع مشترك لمكتبه السياسي بقيادة أمينه العام "غازي الشواشي" ولكتلته النيابية بيانا يحمل مسئولية ما وصفه "بالاحتقان الشعبي" للائتلاف الحاكم بقيادة "النهضة" وحكومة "هشام المشيشي". وكنا قد أشرنا إلى أن "المشيشي" تكنوقراط مستقل اختاره الرئيس "سعيد " بنفسه من دولاب جهاز الإدارة. بل وكان أيضا شريكا من موقع وزير الداخلية  في حكومات بعد انتخابات 2019، والتي نشدد على أن رؤساءها كانوا جميعا من اختيار الرئيس قيس سعيد نفسه،  وإن حصلوا على دعم نواب "النهضة" و"التيار الديمقراطي" معا في البرلمان .

واللافت أن بيان "التيار الديمقراطي" التالي مباشرة لـ"25 جويلية" أعلن اختلاف الحزب مع تأويل الرئيس "سعيد"  للنص الذي استند إليه في دستور 2014 في إجراءاته الاستثنائية ( الفصل 80 *). ولقد ظل الحزب ينادي بعودة مشروطة للبرلمان. ومن بين هذه الشروط انتخاب رئاسة جديدة، وتغيير اللائحة الداخلية بما يمنع تبادل العنف اللفظي والمهاترات. وكذا معالجة ما اتسمت به برلمانات بعد الثورة من تنقل النواب من كتلة لأخرى، وهي الظاهرة المسماة في تونس "بالسياحة الحزبية" . 

وأصبح "التيار الديمقراطي" ضمن تحالف خماسي معارض للرئيس " قيس سعيد" دعا إلى مقاطعة الاستفتاء على الدستور الجديد وانتخابات 17 ديسمبر. و اعتبر بعد هذه الانتخابات أن الرئيس "سعيد" سقطت شرعيته تماما ما يتطلب إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. ويغلب علي هذا التحالف الخماسي"النخبوية"، ولا يملك القدرة على التعبئة الجماهيرية  الكبيرة في الشارع.

ويتكون هذا التحالف المعارض "اليساري"،  الذي يحمل تسميات " تنسيقية الأحزب الاجتماعية الديمقراطية أو التقدمية" و"تحالف القوى المدنية " و"البديل الثالث"،  إلى جانب "التيار الديمقراطي" أحزاب: "العمال" للقيادي اليساري "حمة الهمامي" والذي كان حاسما في رفضه لمسار 25 جويلية منذ البداية،  و"القطب الديمقراطي الحداثي" وهو ائتلاف نشأ بعد الثورة قوامه من بقايا الحزب الشيوعي  الكلاسيكي القديم ومجموعات يسارية أخرى قريبة له، و الحزب "الجمهوري" بقيادة "عصام الشابي، وهو بالأساس ائتلاف حول "الحزب الديمقراطي التقدمي" المعارض زمن "بن علي"، وحزب "التكتل". والأخير جاء منه رئيس المجلس التأسيسي (2011 ـ 2014) مشرع دستور الثورة وإلياس الفخفاخ رئيس الحكومة السابق على "المشيشي" مباشرة.

 واللافت أن هذه الأحزاب أو القوى الخمسة تباينت مواقفها من المشاركة في حكومات مع "النهضة" بعد الثورة. ويمكن القول بأنها جميعا ـ عدا "العمال"ـ شاركت "النهضة" العديد من الحكومات الائتلافية. بل واحتل بعضها مواقع في قمة السلطة من رئاسة حكومة أو مجلس تأسيسي خلال عشرية ما بعد الثورة ، كما أشرنا في السابق. 

 وجرى الإعلان عن تأسيس هذا التحالف الخماسي في 2 يونيو 2022. ومكوناته لم تدافع بوضوح وقوة عن دستور 2014 أو برلمان 2019 . لكنها تمايزت عن مسار الرئيس "قيس سعيد " وعارضته. ونددت بالانتقاص من مكتسبات الثورة والحريات والحقوق بعد 25 جويلية. ويتعين التأكيد هنا على أن هذا التحالف الخماسي ومكوناته  دعا إلى مقاطعة الاستفتاء على الدستور الجديد وانتخابات 17 ديسمبر 2022، وصولا إلى إعلان سقوط شرعية الرئيس "سعيد" بعدها والدعوة إلى انتخابات رئاسية مبكرة. 

  لكن هذا التحالف ومكوناته يظل حريصا على المجاهرة برفض كل من "منظومة" ما قبل 25 جويلية (وقد كان في أغلبه مشاركا فيها كما أشرنا) وما بعدها. وأيضا يميز نفسه بإصرار عن القوى المعارضة الأخرى "لسعيد". وتحديدا "جبهة الخلاص الوطني " التي تتكون من "النهضة" وحلفائها باعتبارها مسئولية عما يصفه بفشل عشرية ما بعد الثورة، وحزب عبير موسى "الدستوري الحر" بوصفهما يمثلان بفجاجة ما قبل الثورة.  

 وبعد انتخابات 17 ديسمبر 2022 بأيام معدودة، أعلنت قيادات بارزة في حزب "التيار الديمقراطي"ـ  يتقدمها "غازي الشواشي" الأمين العام الذي يحظي باحترام وتقدير واسعين خارج حزبه كسياسي وبرلماني راجح العقل ومستقيم السيرة ـ استقالتها من الحزب. وهو ما يعكس معاناة  هذا الحزب بالأساس من صراعات حول مسار 25 جويلية ترجمها تضارب تصريحات قيادات "التيار الديمقراطي" في هذا اليوم. وبدوره أصبح " الشواشي" هدفا لملاحقات سلطة "قيس سعيد" شبه المطلقة الانتقامية من معارضيه وجراء إعادة تونس للدولة البوليسية وتوظيف رئيس الدولة السياسي لوزارة العدل والنيابات والقضاء بأنواعه المختلفة. وجرى التحقيق مع " الشواشي" مرتين في قضايا رأي. 

"جبهة الخلاص" حضور بالشارع.. ولكن

 لكن أقوى ائتلافات المعارضة لمسار 25 جويلية وللرئيس " قيس سعيد" من حيث الحضور الشعبي يتجسد في "جبهة الخلاص الوطني" . ومع أن الجبهة تأسست في 31 مايو 2022 ، إلا أنها امتداد لكل من حركة "مواطنين ضد الانقلاب" التي نشأت في عضون سبتمبر 2021 ثم "للمبادرة الديمقراطية". ولقد تم الإعلان عن الجبهة في غضون نوفمبر 2021. وتتكون بالأساس من حركة "النهضة" وأحزاب وشخصيات بعضها مستقل قررت العمل معها مبكرا تحت عنوان "إسقاط الانقلاب ".

ويرأس الجبهة "أحمد نجيب الشابي" السياسي المخضرم منذ معارضة نظام الرئيس "بن علي" والمعروف في أوساط اليسار والصحافة بأوروبا منذ نضالاته ضد الدكتاتورية وتأسيسه لأحزاب معارضة ولصحيفة "الموقف". وبدروها  تعد هذه الصحيفة عند مؤرخي الصحافة التونسية تجربة ديمقراطية ومهنية مهمة. وعلى الرغم من أن "نجيب الشابي" رفض منذ ثورة 2011 الدخول في أي تحالف سياسي أو ائتلاف حكومي مع "النهضة" وظل من بين نقادها إلا أنه تحول إلى مدافع ضد إقصائها واستئصالها معترفا بأنها جزء مهم من الشعب التونسي لايمكن إنكاره فضلا عن خطورة عواقب هذا الإنكار ومحاولة الاستئصال.

ويتولى " الشابي"رئاسة"جبهة الخلاص الوطني"مع قيادات طيف واسع من الليبراليين واليساريين من غير الإسلاميين. ناهيك عن قيادات من " النهضة" والتي تحرص على ما يبدو على تمثيل غير طاغ أو متغول في قيادة الجبهة وحضورها الإعلامي. وهذا على الرغم من أنها مازالت تمتلك الجمهور الأكبر في مكونات الجبهة. ويبرز بين هذا الطيف القيادي المتنوع "عز الدين الحازجي" المثقف اليساري المخضرم (من مجموعة آفاق/ برسبكتيف سبعينيات القرن الماضي) ونجله أستاذ القانون "جوهر بن مبارك".وكلاهما نشط بقوة في المجتمع المدني والجمعيات وبخاصة بعد الثورة ، و أيضا "رضا بالحاج" القيادي السابق في حزب "نداء تونس"(حزب السبسي) والوزير المكلف بملف الانتقال للديمقراطية في حكومة "السبسي" أيضا عام 2011 . وربما يستعيد "الشابي" رئيس الجبهة على هذا النحو ماض من التحالف متعدد الأطياف ضد الدكتاتورية قبل الثورة، تمثلت أبرز محطاته في تجربة "هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات" عام 2005. 

ومع هذا، تتعرض "جبهة الخلاص الوطني" لهجوم قاس من جانب ماكينة الرئيس "قيس سعيد"، و كذا من خصوم "النهضة" بين معارضي "سعيد". وينخرط في الهجوم على الجبهة ومن منطلقات متعددة تحالف الأحزاب الخمسة، و "عبير موسى" وإعلام الثورة المضادة، وكذا نخب توصف "بالعلمانية" و"بالفرانكفونية" غير محسوبة لا على هذا أو ذاك . وينزلق هذا الهجوم من حين لآخر إلى كيل الاتهامات دون دليل، والتحريض ضد قادة "الجبهة" المتحالفين حاليا مع " النهضة" وبخاصة "الشابي".

 لكن "جبهة الخلاص" وامتدادتها السابقة ظلت الأكثر وضوحا من اللحظة الأولى في وصف 25 جويلية بـ"الانقلاب" والأكثر جذرية (راديكالية) أيضا في معارضة نتائجه ودفاعا عن البرلمان ودستور 2014. وطرحت الجبهةمبكرا "خريطة طريق" للخروج من مأزق "قيس سعيد" وأزمة تونس. وتطورت مواقف مكوناتها الأساسية من الدعوة "لحوار وطني" جديد والاستعداد لتقديم تنازلات متبادلة ونقد الذات والاعتراف بأخطائها قبل 25 جويلية مع المطالبة بعودة البرلمان والقبول بتعديلات وتغييرات على قيادته وأدائه هو والنظام الانتخابي إلى المطالبة بتنحي الرئيس "سعيد" وبانتخابات رئاسية مبكرة . وبدورها تقدمت "الجبهة" الداعين لمقاطعة الاستفتاء وانتخابات 17 ديسمبر. وبعد  هذه الانتخابات طالبت باستقالة "قيس سعيد " معتبرة أن شرعيته قد انتهت، وبأن يتولى الرئاسة مؤقتا أحد القضاة المشهود لهم بالنزاهة والحيادية حتى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. 

 وتعد الجبهة وامتداداتها السابقة الأكثر قدرة على التعبئة والحضور الشعبي في الشارع وعلى الأرض. وهذا ليس بالمقارنة وحسب مع مكوني المعارضة الآخرين المتنافرين بينهما ومعها وهما: عبير موسى  وحزبها " الدستوري الحر" وتحالف الأحزاب الخمسة. بل وبالمقارنة مع أنصار الرئيس "قيس سعيد" . وفي كل اختبار قوة للشعبية في النزول للشارع تفوقت "جبهة الخلاص" بشكل حاسم وواضح على أنصار الرئيس و25 جويلية. وفي هذا السياق ، لجأ "سعيد" لتوظيف قوات وزارة الداخلية للتضييق على تعبئتها في الشارع، فقمعت وفضت بالقوة في المهد محاولة بدء اعتصام معارض للجبهة  في شارع "الحبيب بورقيبة" بين يومي 14 و 15 يناير 2022 بوسط العاصمة مع ذكرى فرار الدكتاتور "بن على". إلا أن الدعاية القوية القائمة على كون التونسيين وبالمطلق (وبزعم كون الشعب كتلة واحدة صماء) أصبحوا كارهين "للنهضة"وحلفائها وللأحزاب وللساسة كافة وبالمجمل ـ وبخاصة المحسوبين على  الثورة والعشرية اللاحقة عليها ـ تمارس حالة إنكار قصوى لأي وزن لـ"جبهة الخلاص الوطني".  

" الحزب الدستوري الحر" شبح البديل

 كان ويظل "لعبير موسى" المحسوبة على نظام الدكتاتور"بن على" بلا لبس أو مواربة أو مراجعة نصيب لافت ومقدر في التمهيد لإجراءات 25 جويلية 2021، و التي وصفها صاحبها بـ"الاستثنائية". جلبت معها إلى برلمان 2019 ممارسات شوهت سمعته، وانخفضت بمكانته أمام التونسيين بما لايقارن بسابقيه : المجلس التأسيسي وبرلمان 2014. وبفضل ماكينة الدعاية وأساليب التعميم والمغالطات، ألحقت الضرر بمجمل الحياة البرلمانية بعد الثورة. 

وواقع الحال أن "عبير موسى" وحزبها "الدستوري الحر " لم يكون لهما حضور يذكر خلال دورتي المجلس التأسيسي والبرلمان السابق على دورة 2019. ولكنها لفتت انتباه واهتمام ووجدت رعاية عندما اتخذت منهجا في الأداء السياسي والبرلماني تغلب عليه نزعة الانتقام والتهجم القاسي وخارج الضوابط والأعراف ضد "النهضة" ورئيسها رئيس البرلمان "راشد الغنوشي". ويصعب وصف هذا العداء والانتقام بأنه "معارضة سياسية أو برلمانية". فقد كان كل شئ مباحا من أجل إقصاء واستئصال وملاحقة من تصفهم ومعها إعلام الثورة المضادة محليا وإقليميا بـ"الاخوانجية" ومن أجل التحريض عليهم وعلى حلفائهم من غير الإسلاميين وملاحقتهم. 

وبدا من الواضح أن الهدف هو اصطناع استقطاب ثنائي جديد في مواجهة "النهضة". استقطاب طرفه الذي لاشريك له هذه المرة هو "عبير موسى" وحزبها. وتأسس اصطناع هذا الاستقطاب الجديد على مراجعة كبرى بين النخب وقطاعات من الرأي العام تنتقد تحول "الباجي قايد السبسي" الرئيس الراحل مؤسس حزب "نداء تونس" من طرف الاستقطاب الأصيل ضد " النهضة" بين أعوام 12 و 2014 إلى "توافق الشيخين السبسي والغنوشي" عقب انتخابات نهاية 2014. وهو "توافق" كانت له بوادره قبلها.

واستطاعت "موسى" التوسعة من شعبيتها وحزبها بظهورها بوصفها "المحارب الأقوى والأكثر راديكارية وهجوما" ضد (الاخوانجية) في هذا السياق، ولكونها قائدة سياسية إمرأة . وتأسس حزبها بالأصل وبداية خلال عام 2013 تحت عنوان "الحركة الدستورية" برئاسة "حامد القروي" رئيس الحكومة الأسبق في عهد الدكتاتور "بن على". ثم استأثرت "موسى" برئاسة الحزب في عام 2016 مع التحول للتسمية الجديدة "الدستوري الحر".

 ولم يكن للحزب ثقل ملحوظ لا في البرلمان ولا الحياة السياسية خارجه إلى نهاية عام 2019 . ولكن بين العامين السابقين لاحظت خلال إقامتي بتونس الاهتمام المبالغ فيه إعلاميا على  المستوىين الإقليمي والمحلي بتصعيد "عبير موسى"، وتقديمها كبديل لحزب  السبسي "نداء تونس"ولصنع استقطاب ثنائي جديد مع "النهضة". وهذا مع اصطناع استقطاب "علماني / إسلامي" مبالغ فيه، وذي "طابع هوياتي" يتجاهل الأولويات الأكثر حيوية وأهمية لتونس والتونسيين. وكان ملحوظا بالنسبة لي في هذه السنوات أن وسائل الإعلام المحلية بدروها ـ ومن بينها المملوكة للدولة ـ تستضيف "عبير موسى " بكثافة في برامجها، وعلى نحو لايناسب وزنها السياسي أو داخل برلمان (14 ـ 2019) ، وحيث لم يكن لها أو لحزبها أي تمثيل يذكر.

ووجدت هذه "الصناعة الإعلامية" تجاوبا بين قطاعات من التونسيين لم يرق لها تحول "نداء تونس" من طرف الاستقطاب ضد "النهضة" إلى "التوافق" في الحكم. وتعاظم هذا التجاوب بين قطاعات  من التونسيين لاحقا مع الصعود السياسي السلطوي غير المريح لـ "حافظ" نجل "السبسي" وسيطرته على مقاليد "النداء"، ثم تمرد رئيس الحكومة الأسبق"يوسف الشاهد" الإبن بالتبني للرئيس" السبسي " على أبيه السياسي ونجله "حافظ" مع ظلال بأن هناك دعم ما من "النهضة" لهذا التمرد . وهذا مع العلم أن انتخابات 2019 اختبرت مدى التضخيم والمبالغة في وجود تحالف بين "الشاهد" و "النهضة".

وبالطبع استفادت "عبير موسى" من توالى الانشقاقات بين "الندائيين". وكان أبرزها حزب "مشروع تونس" لـ"محسن مرزوق" ، ثم حزب "تحيا تونس" بقيادة رئيس الحكومة "الشاهد". وإذ سرعان ما اتضحأن أيا من هذه الانشقاقات لم يكن مؤهلا لاعتبارات عدة للعب طرف الاستقطاب الجديد ضد "النهضة".  وربما يتقدم هذه الاعتبارات مشاركة قيادات هذه الانشقاقات على نحو براجماتي في حكومات مع "النهضة"، علاوة على أن أيا من قادة هذه الأحزاب وليدة الانشقاقات عن "النداء" لم تتوفر له شراسة وعنف وحدة وعدوانية "عبير موسى " تجاه خصومها، وقدراتها في "الاستعراض" أمام الإعلام.

"موسى" معاداة "النهضة" والثورة معا 

 وفي خريف عام 2019 قفزت "عبير موسى" بحزبها إلى داخل البرلمان بقوة. وهذا بعدما ورثت جانبا من جمهور "السبسي" وحزبه "نداء تونس"، وإن كان النصيب الأكبر ذهب إلى "قلب تونس" ورئيسه رجل الأعمال المتهم بالفساد "نبيل القروي". وبهذا دخلت للمرة الأولى إلىالبرلمان ، وحصدت 17 مقعدا، وأصبح حزبها الخامس بين الأحزاب البرلمانية. ومنذ الجلسة الإجرائية الأولى أكدت على المجاهرة بالعداء للثورة ودستورها وللديمقراطية بالأساس. ولم يكن خافيا رغبتها في الانتقام من الإطاحة بالرئيس "بن علي". ويكفي الإشارة أنها رفضت تحت قبة البرلمان أداء القسم على دستور الثورة والوقوف إكراما لشهدائها.  ولم يكن الأمر يحتاج إلى تفسير أو اندهاش.  ولأن هذا الأداء البرلماني المبكر يتسق تماما مع خطابها السياسي على مدى سنوات.

وبالمقابل كان وظل فيما سبق ما يلقى استحسان خليط من التونسيين، بعضه ناقم من الأصل على "ثورة البرويطة" (نسبة لعربة يد محمد البوعزيزي) ويحتقرها ويهينها ورموزها، وبعضه الآخر أصبح ناقما على الثورة لأن السنوات التالية علي الإطاحة بالدكتاتور "بن علي" لم تنجز تحقيق شعاراتها. وفي هذا الإطار، بدت رئيسة الحزب "الدستوري الحر" متسقة مع نفسها على نحو يخالف تقلبات وتلونات العديد من الشخصيات السياسية المعروفة والمحسوبة على نظام ما قبل الثورة. ويحمد لها عند قطاعات من النخبة والجمهور أنها لم تتنكر لماضيها، وتمارس مجاراة ونفاق الثوة ومابعدها. 

وكانت "عبير موسى" بالأصل تشغل مرتبة وسطى في حزب بن علي "التجمع الدستوري الديمقراطي"، وحيث ظهرت "فيديوهات مسجلة " لها لاحقا وهي تهتف في مناسبات الحزب المنحل بحكم قضائي لإفساده الحياة السياسية بشعارات منافقة فجة من قبيل :"الله أحد الله أحد .. بن على ماكيفو حد"، وأخرى لهذه المحامية في شبابها وهي تفسد بالصياح وافتعال الضجيج اجتماعات لمحامين معارضين ، دفاعا عن السلطة وانتهاكاتها. إلا أن الصورة النمطية التى روجها إعلام قوى الإقليم والداخل الممول بسخاء حرصت على إخفاء غابة الأهداف التي خلف شجرة مناطحة "النهضة / لاخوانجية" بجرأة وبلا ضابط أو رابط من قانون أو لوائح  أو أعراف. وهكذا أصبحت هي "البطلة". وعلى هذا النحو ترددت أصداء"صورة عبير موسى" المرأة /القائدة الجريئة القوية متحدية الإسلاميين في العالم العربي خارج تونس أيضا. 

 لم تكتف رئيسة " الحزب الدستوري الحر" وكتلتها البرلمانية وأنصارها ومن يدعمها بتمهيد الطريق أمام الرئيس "قيس سعيد" و25 جويلية 2021 من داخل البرلمان. بل انطلقت قبل أسابيع في دعوات متتالية لمظاهرات ضد "الإخوان" في الشارع. و سرعان ما انتقلت إلى المطالبة بحل البرلمان ووقف مسار الانتقال إلى الديمقراطية بعد الثورة. وأحاطت وسائل الإعلام ـ وبخاصة عند الحكومات أعداء الثورة في المنطقة وأجهزتها ـ حركة "عبير موسى في الشارع باهتمام لافت يصل إلى حد المبالغات الدعائية. وهذا مع أنه سرعان ما اتضح أن قدرتها على التعبئة الجماهيرية مع نموها والنفخ فيها لاتقارن بخصومها، وبخاصة "النهضة". وبصرف النظر عما كانت تنتهى إليه كل دعوة منها للتعبئة على الأرض وفعليا، فقد تكفلت المبالغات الدعائية بإشاعة حالة ترقب بأن تونس تنتظر انفجارا كبيرا في الشارع.

 وكانت استطلاعات الرأي قد أفادت بأن حزب "عبير موسى" يتقدم في الشعبية على نحو لافت وسريع. وبالتالي أصبحت صاحبة مصلحة في حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة. منحت هذه الاستطلاعات حزبها المرتبة الأولى متقدما على حزب حركة "النهضة" اعتبارا من يوليو 2020 . وهذا مع التحفظ على هذه النتائج نظرا لارتفاع نسب من يرفضون الكشف عن نواياهم في التصويت، ولكون الثقة في مؤسسات استطلاع الرأي المحليةـ وأشهرها "سيجما كونساي" ـ اخذت في الانخفاض بعد ظهورها المبهر الواثق مع انتخابات 2014.

ولعل الفارق اللافت بين انخفاض القدرة على التعبئة الجماهيرية في الشارع وعلى الأرض من جانب ، وبين ارتفاع أسهمها وحزبها في بورصة استطلاعات من جانب آخر ، لا يمكن تفسيره فقط بمفعول ضخ الإعلام ومبالغاته محليا وإقليميا. بل هناك عوامل أخرى من قبيل اخفاق "عبير موسى" على مدى هذه السنوات في الجوانب التنظيمية وعجزها عن بناء تنظيم حزبي بالمعني الفعلي من أنصارها في مختلف أنحاء البلاد. ناهيك عن طابعها التسلطي في قيادة الحزب وغياب الديمقراطية الداخلية داخل "الدستوري الحر" . والحقيقة أن أي مقارنة في هذين الأمرين مع حزب "النهضة" تظل لصالح الأخير مع ما يعاب عليه من تسلط " الغنوشي" ومجموعته. 

"عبير" إلى معارضة "سعيد"

اتخذت " عبير موسى " في البداية موقف التأييد من 25 جويلية، مع التحريض على المضي سريعا في ضرب خصومها واستئصالهم. لكنها بعد إعلان الرئيس "قيس سعيد" خارطة طريقه في 22 سبتمبر 2021 (المرسوم 117) بهدف إعادة صياغة سلطات الدولة ومؤسساتها، حدث التحول الأبرز.  وانتقلت من صفوف "التأييد النقدي/ التحفيزي / التحريضي" مع التحفظ حول هذا الأمر أو ذاك إلى المعارضة الصريحة. ويقينا أدركت "موسى " أن "خريطة الطريق" هذه لاتضمن لها جنى ثمار جهودها على مدى سنوات، وبما يسمح بحصد نصيب لائق في السلطة عموما  وفي برلمان على نحو خاص. نصيب يترجم صعود شعبيتها و حزبها. وبدورها انتهت "موسى" إلى اتهام الرئيس "قيس سعيد" بدكتاتورية حكم الفرد وإلى الدعوة لمقاطعة استفتاء الدستور الجديد في 25 يوليو2022 وانتخابات 17 ديسمبر 2022. وأصبحت تجاهر بعدها بسقوط شرعية "قيس سعيد"، وتنادي هي أيضا بانتخابات رئاسية مبكرة.

ولعلها أدركت أن الرئيس "قيس سعيد" بامتلاكه مفاتيح السلطة وإحكام سيطرته على أجهزتها سحب أرضية تمثيل "الثورة المضادة" منها في الداخل وأمام المتربصين بها في الخارج. وكان آخر استطلاع لـ "سيجما كونساى" نشرته صحيفة " المغرب" التونسية بتاريخ 6 يوليو 2022 قد ذهب بحزبها وبالمرتبة الأولى في نوايا التصويت للبرلمان المقبل بعيدا وبنسبة 38,6 في المائة. وتليه " النهضة" بنسبة 18,7 في المائة. وبعدها توقف نشر هذه الاستطلاعات، والتي كانت تبرز أيضا تقدم "عبير" في نسب المرتبة الثانية بالنسبة لنوايا التصويت في الرئاسة بعد "سعيد ". بل وأيضا تفوقه في نوايا الانتخابات التشريعية على تمثيل إفتراضي لم يتحقق بعد بحزب من مؤيدي الرئيس "سعيد". 

وتحتل تعبئة "عبير موسى" وحزبها الجماهيرية المعارضة للرئيس "قيس سعيد" في الشارع وعلى الأرض مرتبة وسطى بين "جبهة الخلاص" وبين تحالف الأحزاب اليسارية الخمسة. وهي لايمكن بأي حال أن ترقى لزخم الأولى، ولكنها لاتهبط إلى ما تتسم به الثانية من ضعف.

المعارضات المتنافرة والعجز عن المراجعات

لا توجد أي مؤشرات على احتمال القبول المتبادل بين المعارضات الثلاث هذه (جبهة الخلاص الوطني .. وعبير موسى وحزبها وأنصارها.. و تحالف الأحزاب اليسارية الخمسة) تمهيدا لعمل مشترك. وهذا مع أنها جميعا تكاد تتفق منذ شهور عديدة قبل انتخابات 17 ديسمبر 2022 في مواقفها وعلى الكثير من ملامح الحل (خارطة الطريق).  والأرجح أن فرص التقاء "جبهة الخلاص" و تحالف الأحزاب اليسارية الخمسة ومع مكونات أخرى بعيدا عن "عبير موسى" وحزبها تبدو الأوفر احتمالا.

 لكن ما يظل يعرقل ذلك هو العجز عن إنجاز مراجعات حاسمة وذات أثر فعلي داخل مكونات الجبهة الرئيسية وأيضا الأحزاب الخمسة. ويشمل هذا العجز "النهضة"، وهذا على الرغم من أن الحزب/ الحركة تعرض للأزمة الأهم في تاريخه بعد الثورة بحلول انقلاب 25 جويلية. وكان لهذه الأزمة تداعيات داخل الحزب وفي صفوف قياداته. ومن هذه التداعيات المعلنة استقالة 113 قيادة دفعة واحدة أصدرت بيانا في 25 سبتمبر 2021 انتقدت فيه ما وصفته بـ" السياسة الخاطئة لقيادة الحزب". كما ارتفعت المطالبات من داخل "النهضة" بتنحى "الغنوشي" ومحاسبته على أخطائه في الحكم، وجراء تعطيله ومجموعته المقربة انعقاد المؤتمر العام الجديد للحزب ولو بدعوى ظروف الوباء، والتنكر لمبدأ تداول السلطة داخل "النهضة".

   كما يتعرض "الغنوشي" ومجموعته المقربة إلى انتقادات من "نهضويين" لتصعيده مجموعة من الموالين الموافقين على نحو يخالف لائحة الحزب ولقواعد الديمقراطية الداخلية. ومنذ انتخابات المجالس المحلية ربيع 2018 كنت قد استمعت إلى انتقادات بين "النهضويين" أنفسهم بشأن اختيار مرشحي الحزب بها . وهو أمر تكرر بشأن اختيار قائمات انتخابات برلمان 2019. وفي كل الأحوال، ظلت هناك أصوات "نهضوية" وعلى مدى سنوات تعارض خط القيادة في تحالفاتها مع قوى ورموز ما قبل الثورة وتنكرها لمطالب العدالة الاجتماعية والقضايا المعيشية للطبقات الشعبية والوسطى. إلا أن هذه الأصوات ظلت تتعرض للتهميش والاقصاء من " الغنوشي" والمجموعة المقربة منه. 

و يبدو أن قوى المعارضة السياسية للرئيس "قيس سعيد" في مجملها أخفقت وإلى مابعد انتخابات 17 ديسمبر 2022  ـ وليس فقط " النهضة" ـ في إنجاز المراجعات الملحة المنتجة. وظلت  بمثابة معارضات متنافرة، وبعضها إلى حد العداء والتناحر. وهي إذن ليست معارضة واحدة على الرغم من جسامة مايجرى. وتفتقد هذه المعارضات  (خارج عبير موسى) إلى الشروط التي تمكنها من كسب الأرض التي يخسرها الرئيس "قيس سعيد"، كي تنهى "الإنقلاب"، وتعالج أضراره وتصحح سلبيات ما قبله. ومن هذه الشروط التي مازالت مفقودة إلى جانب غياب مراجعات تقنع قطاعات واسعة من الرأي  العام بجديتها : وضع برنامج اقتصادي اجتماعي يقطع مع ما سبق من نمط (منوال) تنمية ويخلق الثروة ويعيد توزيعها .. والقدرة على بناء تحالفات مع قوى المجتمع المدني .. والتقدم بقيادة شابة نسائية مقنعة كرأس ورمز للمعارضة ضد محافظة ورجعية "قيس سعيد" وتسلطه . 

أما "عبير موسى" فقد تعود الخيار الأول والمفضل  لقوى الثورة المضادة في الداخل والخارج. وهذا إذا حانت لحظة فك الارتباط بين القوى الاجتماعية والسياسية وأجهزة سلطة الدولة الداعمة لمسار 25 جويلية (حلف 25 جويلية) وبين الرئيس "قيس سعيد" مع إدراك أنه قد تحول إلى عبء عليها. 

.. وبشأن المزيد عن احتمالات المستقبل وأيضا عن أزمة المجتمع المدني نخصص المقال السادس والأخير . ( يتبع ) 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم: كارم يحيى

(*) تنص المادة 80 من دستور 2014 على :" لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشعب وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب. .ويجب أن تهدف هذه التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال، ويُعتبر مجلس نواب الشعب في حالة انعقاد دائم طيلة هذه الفترة. وفي هذه الحالة لا يجوز لرئيس الجمهورية حل مجلس نواب الشعب كما لا يجوز تقديم لائحة لوم ضد الحكومة". وقد خرقت اجراءات الرئيس قيس سعيد في 25 جويلية 2021 صراحة وبوضوح العديد من جوانب هذا النص بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وإقالة الحكومة. ناهيك عن أنه لم يستشر رئيسي مجلس النواب والحكومة في فرض حالة الاستثناء.ولم يستشر المحكمة الدستورية والذي اسهم بالأصل في تعطيل تشكيلها بنفسه قبل أشهر. بل ألغي ضمن إجراءات 25 جويلية الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين،  والتي كانت تحل مؤقتا محل عمل المحكمة الدستورية . وفي كل الأحوال، هناك بالأصل جدل جدي حول صحة توافر اعتبارات وشروط  "حالة الخطر الداهم المهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها".

الحلقات السابقة

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (1 ـ 6) ملاحظات أولية عن بعد على انتخابات 17 ديسمبر 

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (2 ـ 6) غضب المرأة والشباب وفقدان الثقة في مسار 25 جويلية/ يوليو

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (3-6) هل يمكن فصل شرعية الرئيس عن مشروعه؟ ومن مهد الطريق لـ 25 جويلية؟

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس(4 - 6) كيف تشكل حلف "25 جويلية" وما هي مآلات مكوناته؟






اعلان