19 - 04 - 2024

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (3-6) هل يمكن فصل شرعية الرئيس عن مشروعه؟ ومن مهد الطريق لـ 25 جويلية؟

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (3-6) هل يمكن فصل شرعية الرئيس عن مشروعه؟ ومن مهد الطريق لـ 25 جويلية؟

ملاحظات أولية عن بعد على انتخابات 17 ديسمبر

هل سقطت شرعية الرئيس " قيس سعيد" ونظامه بعد الانتخابات تشريعية  التونسية 17 ديسمبر 2022؟.

  من مكر التاريخ أن تغري الرجل الأصوات التي حصدها في الجولة الثانية للرئاسة 13 أكتوبر 2022 ـ وتقدر بنحو 2,7 مليون ناخب وبنسبة 72 في المائة ـبتضخيم مبالغ فيه عن "شرعيته " و"مشروعيته"، وبشعور طاغ "بالزعامة" مع نزوع بلا حدود للانفراد بالسلطة والتوسع في الصلاحيات. صحيح هذا أعلى رقم من الناخبين وأعلى نسبة بينهم في انتخابات رئاسية بعد الثورة، وحيث كان المرحوم  الرئيس"الباجي قايد السبسي" قد حصد 1,73 مليون صوت وبنسبة 55,8 في المئة أمام منافسة الرئيس حينها الدكتور "المنصف المرزوقي" في 2014.

  لكن بلاشك كانت هذه الانتخابات، وبخاصة جولتها الحاسمة بين "السبسي" و"المرزوقي" في ديسمبر 2014 ، أكثر تنافسية مقارنة بما لحقها. وكان ثنائي هذه الانتخابات قد حصدا بمفردهما 72,8 في المائة من إجمالي أصوات المتنافسين في الجولة الأولى . وبالمقابل فإن "سعيد" لم يحصد في الجولة الأولى لرئاسية 2019 سوى نحو 620 ألف صوت وبنسبة 18,4 في المائة فقط مقابل منافسه في الجولة الحاسمة رجل الأعمال ورئيس حزب "قلب تونس"، الذي حاز على 525 ألفا وبنسبة 15,6 في المائة من إجمالي الأصوات التي ذهبت للمرشحين كافة.

التصويت "لسعيد" اختبار في الأخلاق

   نعم كانت الجولة الثانية لانتخابات رئاسة 2019 أقل تنافسية من نظيرتها عام 2014 لاعتبارات عديدة. والأهم أن ما أدى "للارتفاع الشاهق" في أصوات "قيس سعيد" بين الجولتين إلى 2,77 مليون صوت كانت هذه الثنائية المركبة التي جعلت الاختيار بين (الثورة / النزاهة) وبين ( الثورة المضادة / الفساد). 

حقا كان تأثير تحول التصويت للثورة إلى اختبار في الأخلاق عند قطاعات واسعة من التونسيين وبخاصة الطبقة الوسطى حاسما أمام صندوق الانتخاب عند الكثيرين. ولم يكن التصويت على أفكار "سعيد" القادم من خارج "السيستام" والنخبة السياسية والتي بدت للعديد من المراقبين "طوباوية" و"خارج السياق".

  كما لم يكن المرشح الأكاديمي المتخصص في القانون "الأستاذ قيس سعيد" من البداية مرشح الثورة. إلا أنه بالطبع بفضل الثورة ومسار الانتقال إلى الديمقراطية بعدها واستقلالية ونزاهة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات  (الإيزي) المنتخبة من البرلمان برئاسة "نبيل بفون" أمكن له ما كان مستحيلا قبل هذه الهيئة والثورة. وهو أن يصل إلى قصر الرئاسة بقرطاج متخطيا في الجولتين رئيس حكومة ورئيس برلمان ووزير دفاع، وصولا إلى "القروي" صاحب القناة التلفزيونية واسعة الانتشار "نسمة" رجل أعمال رأسمالية المحاسيبمنذ عهد الرئيس "بن علي" إلى عهد "السبسي".

  و لقد أتيح لي بالمصادفة أن أشاهد وأعاين بنفسي مدى حظوته عند "سي الباجي" عندما ذهبت لإجراء حوار معه "للأهرام" في منزلهبحي "سكرة" بالعاصمة ذات ليلة في نوفمبر 2014. حاول "نبيل القروي" التدخل في الحوار، فطلبت منه بلطف وحسم على الفور التوقف. واستجاب وظل صامتا إلى أن غادرت. وحينها سعت مرافقتي السيدة الفاضلة "عائدة القليبي" لتفسير قوة العلاقة بين الرجلين، أو ربما لتزيل آثار إنزعاجي من هكذا تدخل، برواية أطراف من ماض بعيد عن علاقة "السبسي" بعائلة "حامد القروي" أحد قادة "الدساترة "أيضا إلى جوار الزعيم "بورقيبة". وبالطبع لم اعترض حكاياتها بما كنت أعلم عن ملاحقة "القروي الكبير" في قضايا فساد، وبأنه كان وزيرا أول في عهد "بن على" ونائبا له في رئاسة حزبه "التجمع الدستوري" المنحل بقرار قضائي، وحتى  الثورة. 

لم أفسد أيضا امتناني لمساعدتها باستدعاء كون "الحامد القروي" أسس بعد الثورة تجمعا لأنصار النظام الذي قامت عليه باسم "الحركة الدستورية"، و التي تحولت لاحقا إلى "الحزب الدستوري الحر" بقيادة "عبير موسى "، وبأن " الحركة الدستورية" لها مرشح هزيل نافس "السبسي" على الرئاسة. 

 وفي كل الأحوال، وجد " قيس سعيد" تأييدا علنيا مع الجولة الثانية لرئاسة 2019 من أغلب القوى السياسية والأحزاب الأكبر ، وفي مقدمتها حزب حركة النهضة. وثمة هنا تصريح لرئيسه"راشد الغنوشي " عندما تحدث بثقة عن فرص "الانسجام" الأعلى مع " سعيد". لكن الرئيس الجديد ومن حوله سرعان ما اكتفوا بقراءة نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية من زاوية واحدة، وهي "التصويت العقابي" ضد الأحزاب والنخب السياسية،  وبأنها بمثابة "تفويض للرئيس/ الزعيم" لينفذ مشيئته بوصفها "إرادة الشعب". 

 لكن مكر التاريخ يعود بعد نحو ثلاث سنوات من فترته الرئاسية (5 سنوات) ليتحدى مع الاستفتاء على دستور"قيس سعيد" في 25 جويلية / يوليو 2022 بنسبة عزوف تقارب السبعين في المئة يمثلها 6,7 مليون ناخب ومشاركة نحو 2,6 مليون مطعون في صحتها مع اتهام (الإيزي) المعينة من الرئيس نفسه بالتزوير. ثم تأتى نتائج العزوف غير المسبوق لانتخاباته التشريعية 17 ديسمبر من نفس العام لتفيد، مع التنبه للمنحنى الهابط مقارنة بالاستحقاقات السابقة، بأن شرعية رئيس الدولة / الزعيم تتدهور بشكل درامي. وإذ لا يمكن في هذا السياق فصل شرعية الرجل عن المشروع. لكن يظل ما يحول دون استخدام مصطلح "سقوط الشرعية" بثقة تامة هو مايبدو من حيرة قطاعات من التونسيين إزاء غياب بديل مقنع جدير بثقتهم، في ظل المطاعن المأخوذة على معارضيه وحملة التشوية الضارية والمبالغات المتواصلة التي استهدفتهم والديمقراطية..والثورة التونسية. 

مالم يجرؤ عليه الرئيس "السبسي"

بالطبع يتحمل "قيس سعيد" بشخصه وبمنصبه مسئوليته في الإنزلاق بتونس إلى أزمة تضرب في شرعية مؤسستي الرئاسة والبرلمان، بل والسلطات الثلاث كافة، بإضافة القضاء. 

وواقع الحال، فإن الرئيس المنتخب ديمقراطيا بإشراف (الإيزي)  المنتخبة التي كانت والمحسوبة على "العشرية السوداء" بوصم أنصاره وداعميه في الداخل والخارج ، ألحق في الشهور الماضية أضرارا جسيمة بسلطات الدولة الثلاث (تنفيذية وتشريعية وقضائية) وقوض من مصداقيتها، كما حطم هيئات دستورية مستقلة أسهمت في الانتقال إلى الديمقراطية كالهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والمجلس الأعلى للقضاء المنتخب والهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين ، وبالطبع (الإيزي) . وكلها من مكتسبات الثورة والعشرية التالية عليها. 

باختصار فعل بهذه الهيئات مالم يجرؤ أن يقدم عليه سلفه الرئيس "السبسي" رحمه الله، والذي اكتفى بتصريح هنا أو هناك يعبر فيه عن عدم اقتناعه بها، أو بالمساهمة عبر مواقف سلبية غير مكترثة في تعطيل تشكيل المحكمة الدستورية. ويحضرني في هذا السياق، هجومهعلى هذه الهيئات المستقلة الوليدة في حوار نشرته  جريدة "الصحافة " التونسية صباح 6 سبتمبر 2017 ، وحين اعتبر أن دستور 2014 حرص على استقلال عمل هذه الهيئات إلى حد "تعطيل وشلل السلطات والتغول على الدولة". وفي تفسير هذا الموقف كان يجرى استدعاء ماضى الرجل كمسئول ورجل دولة في عهد الرئيس "بورقيبة" وبداية عهد الرئيس "بن على" وبالقول بأنه لم يتخلص بعد من عبء ماضيه في سلطات وحكومات استبدادية. وهذا على الرغم من أن العديد من المواقف الأخرى بعد الثورة أظهرت تقبله وانفتاحه من موقع رئيس الحكومة فرئيس الجمهورية على الديمقراطية و العصر. وأيضا ما يتمتع به من "روح رياضية مرحة" في مواجهة انتقاده، وحتى بشأن خسارته لدعوى قضائية نهاية يناير 2019 رفعها ضد مدون إلكتروني اعتبره رئيس الجمهورية نشر تحريضا يهدد حياته. وهو ما اعتبره تونسيون سابقة في العالم العربي.

حركة تصحيحية أم إنقلاب؟

 والحقيقة أن مناهضة الهيئات المستقلة والتحولات والعمليات الديمقراطية على هذا النحو لم يكن موقفا فرديا من الرئيس "السبسي". وتصريح الرجل في جريدة "الصحافة " يعبر عن تيار كامن داخل سلطة الدولة وجهازها ظل معاديا للانتقال إلى الديمقراطية، وغير مستسيغ لممارسة رقابة مستقلة علي هذه السلطة وهذا الجهاز، أو على الاستعداد بالقبول بما يسمى بـ"السلطة المضادة". ويبدو أن هذا التيار وجد ضالته بعد هذه السنوات في الرئيس "قيس سعيد" وتوجهاته الشعبوية التسلطية الرئاسوية. 

بالطبع لايمكن إنكار دور الشخص في إعادة انتاج حكم الفرد/ الرئيس/ الزعيم واسع السلطات وربما مطلقها مع مراحل الإنقلاب على الثورات كما في نموذج "البونابارتية" الفرنسية، أو بالنسبة لنماذج قريبة العهد داخل النطاق الجغرافي الثقافي لتونس. لكن يظل من الخطأ إغفال أدوار قوى مجتمعية ونخب سياسية بمساندة إقليمية ودولية في عملية إعادة الانتاج هذه، وكخيار يتبناه "السيستيم"، ويحظى بقبول ما بين المواطنين. وهذا مع الاخذ في الاعتبار أن الرئيس "قيس سعيد" قد انتقل ليصبح على رأس " السيستيم ". بل و"السيستيم" نفسه. وبعدما أصبح الواجهة والقيادة فيما جرى ويجرى. 

 وصحيح أيضا أن الرجل أخرج انقلابه على البرلمان والهيئات المستقلة والحريات بداية في صورة "حركة تصحيحية" لمسار ثورة تعثرت أو ضلت الطريق. حركة تصحيحية يطلبها الشعب ويؤيدها.  لكن ومن اللحظة الأولى كان واضحا أن شراع سفينة هكذا "تصحيح" تدفعه رياح القوى المعادية للثورة. بل أن "التصحيح" كان في جوهره انقلابا على الثورة والديمقراطية. كان "تصحيحا" بالقول والبروباجندا انقلب بالفعل إلى إنقضاض وإجهاز على الثورة وما حققته، بل وقطع الطريق على استمرار مسار الديمقراطية وفرصها. 

علامات مبكرة لانقضاض 25 جويلية

كان الأمر من البداية جليا على هذا النحو لمن يتابع ظهور هذه الوجوه  الداعمةالمروجة لإجراءات ومشروع "سعيد" في وسائل الإعلام محلية واقليمية. وكان حلف الثورة المضادة/ نظام ماقبل 2011 جاهزا لاحتضان إجراءات 25 جويلية والرئيس "سعيد" مساندا داعما. وثمة من التقط إشارات مبكرة قبلها لقرب هذا "الإنقضاض". ويمكن الاكتفاء هنا بالإشارة لعلامات منسوبة إلى الرئيس"قيس سعيد" نفسه مثل إعلانه في عيد تأسيس قوات الأمن الداخلي 19 أبريل 2021 إنه بوصفه رئيسا للقوات المسلحة بمقتضى الدستور يرأس أيضا هذه القوات (التابعة لوزارة الداخلية وهي جزء من الحكومة). وأيضا رفضه التصديق على تعديل تشريعي لتسهيل تشكيل المحكمة الدستورية في مايو/ يونيو 2020 ما أسفر عن اسقاط التعديل، والاستمرار في عرقلة إقامة المحكمة. 

 أما العلامات التي قرأها حلف الثورة المضادة خارج قصر قرطاج، فمنها تصاعد إحباط ويأس قطاعات واسعة من المواطنين، بما في ذلك من ارتفع سقف طموحها أملا في "تحسين أحوالها المعيشية مع الثورة". إحباط ويأس شمل الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وكذا السياسية والبرلمان مع الصور السلبية لمهاترات قادها قطبا الحزب "الدستوي الحر" لعبير موسى و"إئتلاف الكرامة" لسيف الدين مخلوف تحت قبة مجلس نواب الشعب. وقد كان من مكتسبات الثورة بث جلسات البرلمان مباشرة على الهواء دون رقابة، فيما يمارس هو الرقابة والتشريع على نحو يحسد التونسيين عليه شعوب وأمم ونخب من المحيط إلى الخليج. يضاف إلى هذا، أزمة حزب "النهضة" الإسلامي وخصومه في الآن نفسه. وهي أزمة متعددة الجوانب منها ما يتعلق بتعطيل الديمقراطية الداخلية وشيخوخة القيادة (وتحديدا رئيسه الغنوشي) وانتهازية التحالفات الحزبية وتقلباتها وعدم إعطاء المسألة الاقتصادية الاجتماعية الاهتمام الكافي والواجب.

وكل هذا وغيره أسهم في تعميق أزمة الثقة والمصداقية عند المواطنين إلى جانب مفعول حملات الثورة المضادة ذاتها التي لم تتوقف يوما بعد 14 يناير 2011. وهذا على الرغم من أن رموز الثورة المضادة وقواها ظلت في الحكم محصنة من العزل السياسي. بل ولها النصيب الأوفر من الهيمنة على القرار السياسي ومفاصل الدولة ومؤسسات الحكم. وهكذا مارست الثورة المضادة/ نظام بن اللعبة المزدوجة المكررة في تجارب عديدة لثورات مغدورة في منطقتنا من التحالف مع الإسلاميين وبعض خصومهم بين القوى الجديدة، ثم العودة إلى اقصائهم واستئصالهم جميعا. وفي الحالتين يظل الهدف واحد هو القضاء على الثورة وتقويض مكتسباتها من حريات وحقوق ومؤسسات وليدة. 

 وبالأصل فإن الديمقراطية الوليدة بتونس كانت مأزومة. وهذا مع أنها أنجزت أفضل حصاد من المكتسبات للناس على أصعدة الحريات والحقوق، بما فيها حتى الاجتماعية - الاقتصادية مقارنة بكافة دول انتفاضات وثورات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في المنطقة العربية. فقد عززت ثقافة اعتقاد المواطن وثقته ومجاهرته في الفضاءات العامة بحقوقه على الدولة بما في ذلك العمل، وهو ما اصبح منكورا ومهدرا في "دول وطنية" بعالمنا العربي رفعت شعارات الاشتراكية قبل عقود. بل وقدمت عشرية ما بعد الثورة العديد من فرص العمل والخدمات لم تكن متاحة أو متصورة قبلها. 

لكن يظل من الخداع القول بأن الثورة وقواها ومؤيديها كانوا قد انتصروا تماما في تونس، وأن تغييرا جذريا تم إنجازه على جبهة علاقة المواطن مع القوى الطبقية الاجتماعية  المهيمنة منذ ما قبل الثورة على الاقتصاد  وداخل جهاز الدولة الذي ظل تقريبا على حاله. بل سرعان ما أحيط بقداسة وتصورات غير موضوعية تحول من المنبع حتى محاولة "الإصلاح" لأدائه البيروقراطي وتعديل الموازين بين كوادره والمواطنين. 

مسألة السلطة والتغيير

 وظلت مسألة السلطة بمثابة الداء الذي يعرقل التغيير. صحيح دخل إليها وافدون جدد كما اتسعت حدود نخبة السياسية والحكم على نحو غير مسبوق على مدى عشرات السنين السابقة وتنوعت، وأتاح النظام شبه البرلماني غير الكامل ـ وعززه دستور يناير2014 مع حرية تنظيم الأحزاب والنقابات والجمعيات وإتساع الحريات في الفضاء العام والصحافة المتعددة ـ أكبر استيعاب وتمثيل ممكن للقوى السياسية والمجتمعية ولألوان فكرية وكتل وجماعات كانت محرومة من الشرعية جراء استبداد وفساد والنخبوية الضيقة الإقصائية لما قبل الثورة. وسمح لهذه القوى المتعددة وممثليها ورموزها المحجوبة قبل الثورة بحضور ما وللمرة الأولى داخل مؤسسات البرلمان والحكومة والرئاسة.

لكن الهيمنة الأعلى والأكثر نفوذا في صنع القرار ورسم السياسات بقيت بين أيدي قوى ورموز وكوادر النظام الذي ثار عليه الشعب. وحتى " التجمعيون"ـ نسبة  لحزب "بن على " المنحل ـ أثبتوا مع كل استحقاق انتخابي ـ وبخاصة بعد اقتراع التأسيسي 2011 ـ أن "ماكينتهم" الأكثر جاهزية دوما في السباق. و تعززها روابط وعلاقات تمتد في مختلف المؤسسات والمصالح. بل وتسلل "التجمعيون" إلى قائمات العديد من الأحزاب بمرشحيهم، بما في ذلك "النهضة" و"نداء تونس" الحزبين الأكبر خلال عشرية الثورة. وبالطبع فإن أحزابا يسارية غير مستثناة من هذا الحضور "التجمعي".

 ظلت مسألة السلطة وأزمتها في الإجابة على السؤال: لصالح من تعمل السلطة وترتب أولوياتها ولصالح من تتخذ القرار؟. فالمحصلة بقيت في المجمل دون انحياز يعوض الطبقات العاملة والفلاحية والوسطى مع العاطلين والعاملين في الاقتصاد غير الرسمي عن عقود غياب وضعف إعادة توزيع الثروة وعن الظلم الاجتماعي؟ وترجمت هذه الأزمة نفسها خلال العشرية التالية للثورة في الإبقاء تقريبا على نفس  سياسات النمو الاقتصادي والاقتراض من الخارج والافتقاد إلى العدالة الجبائية (الضريبية) ، وغيرها من مؤشرات أولويات صانع القرار.

 وبدلا من ذلك، عرقلت قوى ورموز النظام الذي ثار عليه التونسيون مساعى تطوير نظام الحكم ومؤسساته بالسرعة المطلوبة. واستغلت النقاشات الجارية لمعالجة بعض سلبيات النظامين (المختلط بين البرلماني والرئاسي) والانتخابي في الممارسة التونسية لتوجيه طاقة السخط نحو البرلمان التعددي ذي الصلاحيات لصالح إعادة انتاج "الرئيس القوي" مطلق السلطات، وضد فكرة "البرلمانية" من الأصل. بل واخذت هذه القوى والرموز الرجعية تجاهر رويدا رويدا  بطلب الانتقام من الثورة، وتسعى صراحة لاستعادة ماضي الاستبداد، وإلى حد التطرف في التمكين لنفوذ الفساد الاقتصادي السياسي (رأسمالية المحاسيب / نموذج حزب قلب تونس)، والنزوع نحو تعبيرات وممارسات أقرب للفاشية (الحزب الدستوري الحر)، وإعادة انتاج ظواهر المحسوبية العائلية في حقل السياسة والحكم (كنموذج حافظ نجل حافظ السبسي)، ولممارسات انتهازية وخطاب مرتبك مزدوج يخيف قطاعات من المجتمع كما عند اليمين أو يمين الوسط الديني ممثلا في "النهضة". 

وفي هذا السياق ، علينا أن نتذكر أن الرئيس "السبسي" امتنع قبل أشهر من انتخابات 2019 عن التصديق على تعديل تشريعي صدر متأخرا جدا وبشق الأنفس من البرلمان يمنع ترشح من يثبت مخالفته لقانوني الأحزاب والجمعيات بالنسبة لاستغلال الأموال والإعلانات في وسائل الإعلام وكذا الإشادة بالدكتاتورية والإرهاب وممارسات انتهاك حقوق الإنسان. حينها كانت "النهضة" في البرلمان تقود هذه المبادرة . ولكن متأخرا جدا، وبعدما اصطفت في المجلس التأسيسي ومن موقع الكتلة الأولى ضد "العزل السياسي" لرجالات نظام ثار عليه التونسيون (قانون تحصين الثورة الموؤود) . بل وعادت أيدت مبادرة الرئيس "السبسي" نفسه منح الفاسدين منهم بين رجال الإدارة العفو والمصالحة خلال برلمان (14 ـ 2019).(يتبع)
-------------------
بقلم: كارم يحيى   

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (1 ـ3) ملاحظات أولية عن بعد على انتخابات 17 ديسمبر

مأزق قيس سعيد أم أزمة تونس (2 ـ3) غضب المرأة والشباب وفقدان الثقة في مسار 25 جويلية/ يوليو








اعلان