03 - 10 - 2025

ما بعد حرب غزة | الصراع الأبدي ونظريات الحرب الدائمة

ما بعد حرب غزة | الصراع الأبدي ونظريات الحرب الدائمة

ثمة خلل جوهري في التصورين الإسرائيلي والأمريكي، ليس فقط فيما يخص شروط إنهاء الحرب في غزة، وإنما أيضًا في كيفية حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني، وسيكون لهذا الخلل تأثير بعيد المدى سواء بالنسبة لوضع الفلسطينيين والشعوب الأخرى في منطقة الشرق الأوسط، وربما يمتد التأثير لخارج المنطقة، ما لم يتم الانتباه إلى الخلل وتصحيحه. يتمثل هذا الخلل في التركيز الشديد على حماس وأيديولوجيتها باعتبارهما، الخطر الذي لا يهدد إسرائيل وحدها، وإنما يهدد غير المسلمين، لاسيما اليهود والمسيحيين، في المنطقة وفي أنحاء العالم، وفي المقابل نجد صمتا شديدا إزاء التيارات اليهودية المتطرفة التي أصبحت شريكًا أساسيًا وحاسمًا في الحكومة الإسرائيلية التي يترأسها بنيامين نتنياهو، على النحو الذي تكشفه مواقف بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، وإيتمار بن جفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي، ووزراء ومسؤولين كبار آخرين في الحكومة. ومن اللافت للنظر في خطاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام، التحذير من الخطر المحدق بالمسيحيين في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وفي فلسطين وفي بلدان الشرق الأوسط، فيما أشار نتنياهو، في كلمته التي ألقاها في الأمم المتحدة، رغم انسحاب غالبية الوفود من الجلسة، إلى سياسات حماس والسلطة الفلسطينية تجاه المسيحيين في فلسطين. 

الحديث انتقل من التهديد الذي تواجهه الحضارة الغربية بشكل عام، إلى الخطر الذي يتهدد المسيحيين والمسيحية، بشكل أكثر تحديدًا، دون أي حديث من جانبهما عن مسؤولية التطرف اليهودي، الذي أصبح ممثلوه شركاء يتمتعون بنفوذ في حكومة نتنياهو، والذين يتحملون المسؤولية المباشرة عن المحنة الراهنة التي يعانيها المدنيون في غزة، والتي قد تتوسع في ظل استمرارهم في الحكم إلى الضفة الغربية، وربما إلى مناطق أخرى خارج فلسطين. الهدف من التركيز على الخطر الذي تمثله القضية الفلسطينية على المسيحيين والمسيحية واضح، وهو استنفار الأحزاب اليمينية والشعبوية في الدول الأوروبية لمواجهة حكوماتهم التي اتخذت إجراءات عقابية ضد سموتريتش وبن جفير وضد إسرائيل. ومما يثير الانتباه أن كثيرًا من الأصوات المسيحية التي تركز على التطرف الإسلامي وخطره، لا يتحدثون عن التطرف اليهودي وتياراته، بل ربما كان العلمانيون واليسار والتيارات المدنية في إسرائيل أكثر إدراكاً لخطورة مثل هذه التيارات على مستقبل إسرائيل وعلى الفلسطينيين والمنطقة وعلى العالم كله من هذه الأصوات، سواء في بلدان الشرق الأوسط أو في أمريكا الشمالية وأوروبا. فمن الملاحظ أن صحيفة هاآرتس ومنظمات حقوقية ومدنية إسرائيلية تفرد مساحات كبيرة لرصد هذه التيارات والتنبيه لمخاطرها، التي لا تقتصر على الفلسطينيين والمنطقة فقط، وإنما قد تمتد إلى العالم كله، خصوصًا مع التركيز على أفكار الخلاص والحرب الدينية الدائمة بين اتباع الديانات المختلفة في العالم، لاسيما الديانات الإبراهيمية الثلاث. 

منطق الحروب الدينية الدائمة

في المقال الثاني الذي كتبته عن حرب غزة، (المشهد 11 أكتوبر 2023)، بعنوان "الحرب على غزة وتوسيع مبدأ تدفيع الثمن"، أوضحت أن المشكلة في هذه الجولة من الحرب تتمثل في أن من يقف في الطرف الإسرائيلي من المواجهة الآن ينطلق أيضًا من "رؤية مضادة تستند إلى عقيدته الدينية"، في حين أن "أن معرفتنا العامة بهذا الصراع وتاريخه وتطوراته، محدودة ومحكومة برؤى أيديولوجية ودينية" قد تتعارض مع الوقائع والمنطق، فضلًا عن أنها لا تساعد على إيجاد حل له،  لاستنادها إلى "مجموعة من الأوهام المستقرة في الأذهان" وركونها إلى "إيمان بالنصر في النهاية". مشكلة هذه الرؤى أن أحدًا لا يستطيع وضع تاريخ محدد للنهاية المرتقبة للصراع، خصوصًا في ظل الاعتقاد بأن الانتصار على إسرائيل "علامة من علامات الساعة في حرب من حروب نهاية الزمان". لكن ثمة فارق مهم بيننا وبين الإسرائيليين، يتمثل في أنهم "يعرفون ما يفعلون ويخططون ليس للخطوة الأولى وإنما للخطوات التالية". من المؤسف حقًا أن التطورات اللاحقة على مدى عامين تقريبًا تأتي تصديقا لما ذكرت في ذلك الوقت المبكر من الحرب، بينما كانت أغلبية الآراء غارقة في حلم قرب "زوال إسرائيل" وواقعة تحت تأثير نشوة "الضربة النوعية" التي وجهتها حماس لإسرائيل في السابع من أكتوبر، وحديث لا ينتهي عن المعادلات الجديدة في الصراع دون تفكير في التغيرات في البيئات الداخلية والإقليمية والدولية وتأثيراتها. 

ونبهت في مقالات تالية إلى خطورة التركيز على الطابع الديني للصراع وإغفال جوانبه الأخرى، سواء على القضية الفلسطينية أو على الأوضاع داخل دولنا، لكن أنصار حماس، الذين تعمي الأيديولوجية أبصارهم وبصيرتهم، أصروا بعِناد على أن الصراع صراع ديني بالأساس، غير عابئين بالكيفية التي يستغل بها نتنياهو وأنصاره هذا الطرح لتغيير طبيعة الصراع وتحويله إلى صراعات دينية ومذهبية داخل دول المحيط العربي ولتغييب الحقائق والتعتيم على تيارات التطرف الصاعدة داخل إسرائيل والتي تغير هي الأخرى من طبيعة الدولة وتوجهاتها. لقد أصبح الصراع نتيجة لذلك، صراعا بين نبوءات دينية وأفكار مطلقة ورؤى أيديولوجيا للتاريخ وسرديات كبرى ومغلقة ومستعصية على التفكيك والنقد. وجاء خطابا ترامب ونتنياهو في الجمعية العامة هذا العام لتكريس هذه الرؤية وإثارة مخاوف اتباع الديانات الأخرى، في المنطقة وخارجها. لقد كان السؤال الرئيسي لدى خصوم نهج التسوية السياسية والحلول السلمية للصراع، هل هناك من يقبل بالسلام في إسرائيل، الآن أصبح هذا السؤال حاضرًا، وبقوة، ليس فقط في معسكر خصوم السلام العرب، وإنما أيضا في معسكر أنصار السلام، وإن كان أنصار التسوية والحلول السلمية يرون أن هذا أمر مستحدث وناجم عن صراعات وانقسامات شديدة أدت إلى تحولات سياسية واجتماعية داخل إسرائيل، وأن الخطاب العربي والإسلامي، وكذلك طريقة إدارة الصراع من الجانب الفلسطيني، ساعد بدرجة ما في حدوث هذه التحولات.  

على الرغم من التناقضات الشديدة داخل المعسكر الديني وتيارات التطرف اليهودية في إسرائيل، إلا أنهم يتفقون حول الطابع الديني والعقائدي للصراع مع الفلسطينيين والعرب، وحول مآل الصراع. فالأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة في إسرائيل والتي تشمل أيديولوجيات قومية متطرفة، تؤمن بالتفوق اليهودي، ومعاداة العرب، وتدافع عن الفاشية والأصولية، ويضم هذا التيار أيضًا حركات أيديولوجية مثل الصهيونية الجديدة وتيار مائير كاهانا الذي كان حتى وقت قريب محظورًا عليه العمل السياسي بموجب قرار صادر من الكنيست. من المهم في هذا الصدد أن نعرف ما الذي يعنيه مصطلح "اليمين المتطرف" في إسرائيل الآن، والذي يُستخدم بدءًا من العقد الحالي، بشكل أساسي، لوصف دعاة توسيع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، ومعارضة قيام دولة فلسطينية، وفرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، والتي تعني عمليًا ضم المناطق الفلسطينية المحتلة لإسرائيل، والعمل على تهجير السكان الفلسطينيين خارج هذه المناطق بوسائل قسرية قد تصل إلى حد شن حروب على دول مجاورة. ولكن على الرغم من وجود نقاط اتفاقات وتقاطعات فيما بين مكوني هذا التيار، إلا أن لكن هناك تناقضات شديدة داخله، لاسيما بين اليهود الحريديم المعارضين لمشروع قانون الخدمة العسكرية والرافضين تجنيد طلاب المعاهد الدينية في الجيش وبين التيار المسيحاني الذي يقدم نسخة أحدث من تيارات القومية الدينية التي تجمع بين دراسة التوراة وبين الانخراط في الخدمة العسكرية، والتي تراه واجبا على طلاب المعاهد الدينية. 

لا ينخرط هؤلاء في الخدمة العسكرية أو في الأنشطة العنيفة ضد الفلسطينيين لأسباب تتعلق بالدفاع عن الدولة وإنما لأسباب دينية، فبحسب تقرير نشرته صحيفة هاآرتس، قدم لمحة تفصيلية عن مسيرة وأفكار الجنرال دافيد زيني، الذي يعتزم نتنياهو تعيينه رئيسا لجهاز الأمن العام (الشاباك). وأشار التقرير إلى أن زيني قال في حفل في ذكرى جنود الجيش الذين سقطوا في معارك، أقيم في عام 2019، "أعداؤنا هم أعداء القدوس، تبارك اسمه، وأن المدافعين عنا هم المدافعون عنه، وأي محاولة للفصل بين الاثنين مرتبطة بآلام المنفى". ويشير يائير نيهراي، وهو محامٍ يراقب ويرصد أنشطة الجماعة المسيحانية، أن تصريحات زيني "توضح أن الخدمة العسكرية أداة لتحقيق رؤية مسيحانية للعالم"، مشيراً إلى أن زيني يتصرف وفقًا لما يقوله الحاخام الذي يعتبره مرشدًا روحيا له، فزيني "يُقاتل من أجل السماء، من أجل أمرٍ أعظم، لا يدركه هو تمامًا، لكن حاخامه يدركه". ويسلط نهري الضوء على تعاليم الحاخام فيما يخص الفلسطينيين، مشيرًا إلى أنه يرى أن المهمة الأساسية للدولة يجب أن تكون طرد الفلسطينيين من أراضيهم. وأن الجيش الإسرائيلي يجب أن يكون "جيش غزو" - حتى في أوقات السلم، و"حتى لو لم تُطلق رصاصة واحدة" من الفلسطينيين. ويكشف الحاخام المتشدد أن الغزو يجب أن يستمر وأن يتوسع إلى أن يصل إلى تركيا، وفقًا لشريعة التوراة، ذلك لأنهم يعتبرون الفلسطينيين والمسلمين "تهديدًا وجوديًا إلهيًا"، الأمر الذي يعني أن الحرب وفق هذا المنظور لا تكون بالضرورة حرب دفاع مشروعة وإنما وسيلة لتحقيق غاية دينية، وبذلك تصبح حربًا دائمة ومستمرة إلى الأبد. لا يمكن لمثل هذه التصورات أن تؤسس لأي سلام بين إسرائيل وجيرانها أو لأي تعايش بين اليهود وغيرهم.

المشكلة تتمثل في تمكين مثل هؤلاء المتطرفين من خلال شغلهم مناصب عليا في الدولة، لاسيما في الجيش وفي أجهزة الأمن من خلال شراكتهم في الحكومة من شأنه أن يمنحهم سلطة تمكنهم في فرض تصوراتهم والسعي لتغيير الأوضاع بالقوة. ولا يقتصر تأثير هؤلاء على الفلسطينيين وحدهم بل يمتد إلى اليهود العلمانيين وغير المتدينين، وهذا ما يخشاه كثير في إسرائيل في حالة تعيين زيني رئيسًا للشاباك، الذي يتمتع بصلاحيات واسعة تشمل الاعتقالات إدارية، والسيطرة على شبكات المخابرات الواسعة، والقدرة على إجراء تحقيقات قاسية، وفرض قيود صارمة على الحريات الأساسية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالتنقل والخصوصية. ويتوقع البعض في حالة تعيينه أن يتحول الشاباك إلى شرطة سرية ستلاحق المتظاهرين المناهضين للحكومة والكثير من الجماعات اليهودية المعارضة لنتنياهو ولهم داخل إسرائيل نفسها. فزيني ينتمي لحزب نوعام الديني المتشدد الذي يتخذ موقفا متطرفًا من العلمانيين والمثليين في إسرائيل، أو ممن أسماهم آفي ماعوز، مؤسس حزب "نوعام" في محادثات تشكيل الحكومة الحالية "عناصر غريبة" قادمة من دول أجنبية، ويجب حماية "شعبنا ودولتنا" من تسللها، ودعا إلى إنشاء وكالة حكومية هدفها محو الهوية العلمانية لإسرائيل. ويتبنى هذا التيار المتطرف خططًا لما يرون أنه تقريب إسرائيل من الخلاص. 

إسرائيل كبرى ثيوقراطية

في الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جون كيري في أواخر ديسمبر عام 2016، بعد امتناع الولايات المتحدة عن التصويت، في سابقة هي الأولى، على قرار لمجلس الأمن يدين الاستيطان الإسرائيلي، قال إنه في حال تبني إسرائيل اختيار أن تصبح دولة واحدة، سيكون عليها الاختيار بين أن تكون "دولة يهودية" أو دولة "ديمقراطية"، مستبعدًا أن تكون دولة يهودية وديمقراطية في وقت واحد نظرًا لوجود الفلسطينيين الذي سيشكلون عندئذ نصف سكان الدولة. وعلى الرغم من تحذير كيري من أن إسرائيل إذا اختارت أن تكون دولة يهودية فقط فإنها "لن تنعم أبدا بالسلام" إلا أن نتنياهو اختار على ما يبدو المملكة اليهودية واستمرار الحرب، فهو يغازل معسكر اليمين المتطرف، في تصريحاته المختلفة منذ بداية حكومته، وقبل الحرب على غزة. من الواضح منذ البداية أن نتنياهو يقود انقلابًا داخل إسرائيل يؤسس لدول ثيوقراطية تتبني رؤية عالمية وأيديولوجيّة متعصبة، لاستبدال نظام الحكم الحالي في إسرائيل بنظام قائم على الشريعة اليهودية التقليدية، يكون دستوره التوراة، وتمتد سلطته إلى كامل أرض الميعاد التوراتية، من خلال وضع أنصار هذه الرؤية في مناصب قيادية في الحياة العامة، مع التركيز على الحكومة والجيش. 

والركيزة الثانية لهذا التصور، هي المضي قدمًا في مخطط ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة وتهجير الفلسطينيين، بالاعتماد على مزيج من القوات العسكرية والجماعات المدنية على النحو الذي كشفته الحرب في غزة، من خلال ما يسمى "قوة أوريا"، وهي وحدة تابعة لسلاح الهندسة القتالية، تتألف من جنود احتياط وموظفين مدنيين في الجيش، وتضم حوالي 100 عامل، كثير منهم من مجتمعات يمينية متشددة في الضفة الغربية، تم تجنيدهم من شركات بناء مدنية، ويدخلون غزة بملابس مدنية، من أجل السيطرة على المنطقة وتدمير كل شيء، معتقدين أنهم يعملون بأمر الله. الركيزة الثانية، هو تشكيل لواء جديد للحريديم في الجيش يعرف باسم "لواء هاشمونائيم"، وهو مشروع طموح اقترحه الحاخام ديفيد ليبل وزيني، خلال حرب غزة يهدف إلى السماح للجنود الحريديم بالخدمة في الجيش مع الحفاظ على نمط حياتهم بالكامل، بدون نساء، وبدون صهاينة متدينين، ومع التزام صارم بالشريعة اليهودية. وهو محاولة لتوسيع كتيبة مثل "نيتسح يهودا"، التي جنّدت الحريديم الذين غادروا المعاهد الدينية، وتشكيل لواء كامل من 3000 مقاتل حريدي. وأثار المشروع أثار غضب جماعات الحريديم. 

يسعى نتنياهو للدفع بزيني في مواقع قيادية في تحدي للجيش الذي منعه من الخدمة في المناطق المحتلة بسبب تطرفه تجاه الفلسطينيين من خلال الالتفاف على مؤسسات الدولة، بما في ذلك المحكمة العليا التي اتهمت أن نتنياهو بالتصرّف بدافع تضارب المصالح عندما أقال رئيس الشاباك السابق، رونين بار، بسبب تحقيق جهازه فيما يُسمى بقضية قطر جيت، ليدفع بزيني للمنصب من أجل مواجهة المحتجين اليهود المناوئين له ولتضييق الخناق على الفلسطينيين سواء في الأراضي المحتلة أو فلسطيني 1948 حاملي جنسية الدولة، متجاهلًا المخاوف واسعة النطاق بين أعضاء سابقين في الشاباك. وأثارت أنباء هذا التعيين مخاوف العلمانيين في إسرائيل. وتُعد وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني الإسرائيلية، المصدر الرئيسي للبيانات عن هذه التيارات المتطرفة.

نشرت هاآرتس في 9 أغسطس مقابلة مع نيهراي حذر فيها تضييق الخناق على الليبراليين اليهود بعد تفكيك معسكر اليسار، مشيرًا إلى أنه لن يتمكن أي ليبرالي من العيش في إسرائيل قريبًا، إذا سقط الجيش بالفعل في قبضة الأيديولوجية المسيحانية، وحذر من تقليل العلمانيين في إسرائيل من خطورة هذا التحول الزاحف بخطى ثابتة منذ صعود نتنياهو لقيادة الليكود ورئاسة الوزراء في عام 1995، والذي لعب دورًا كبيرًا في تمكين الأيديولوجية المسيحانية تحديدًا، ربما لكونه مولودا من أم غير يهودية. وتكمن أهمية آراء نيهراي في كونه جاء من هذا الوسط المسيحاني تحديدًا، فوالده حاخام مقرب من الحاخام تسفي يهودا كوك مؤسس "الصهيونية الدينية" والتيار القومي الديني، الذي أصبح مكونا رئيسيا في كل الحكومات الإسرائيلية منذ الانقلاب الانتخابي في عام 1977 الذي أوصل الليكود بزعامة مناحيم بيجين إلى السلطة. أشار نيهراي إلى الاختلاف الجوهري بين "الصهيونية الدينية وبين "الصهيونية المسيحانية"، التي يراها تهديدا للدولة، مشيرًا إلى أن الحاخام إيلي سادان الجنرال في جيش تسفي تاو - رئيس حزب نوعام – وضع برنامجًا تحضيريًا للجيش في مستوطنة إيلي بالضفة الغربية، هدفه الواضح هو التحريض على دينية في البلاد، وأنشأ مؤسسة تُعدّ أكبر مشروع لتقويض القيم الديمقراطية في إسرائيل، بنشر القيم المسيحية بين الشباب، التي تركز على معارضة اليهود العلمانيين والإصلاحيين والمحافظين ومجتمع الميم، واليساريين، ومبادئ العدالة والمساواة، الأمر الذي يقوض الركائز التي قام عليها القانون الأساسي والأسس الدستورية للدولة التي أنشئت في عام 1948، من خلال خطة للتمكين قائمة على الاستحواذ على المناصب في الجيش والمؤسسات الأمنية والمناصب العليا في القضاء، وتأسيس "قواعد توراتية" في المجتمع المدني، فيما يشبه خطط التمكين الهادئ التي تتبعها الجماعات اليمينية المحافظة في أنحاء العالم بما في ذلك الدول العربية والإسلامية.     

من الأهمية تسليط على الضوء على التيار المسيحاني اليهودي ورؤيته للصراع وشبكاته وارتباطاته وصعوده السياسي، الذي يترجم من خلال تولي متطرفين مناصب عليا في الدولة، هؤلاء المتطرفين هم الدعامة الأساسية لحكومة نتنياهو، وربما لأي حكومة إسرائيلية في المستقبل المنظور في ظل التغيرات الديموغرافية والاجتماعية التي شهدتها إسرائيل في العقود الأربعة الأخيرة والتي ترجمت بتلاشي معسكر اليسار ويسار الوسط في الوسط اليهودي في الدولة، وصعود اليمين الديني في الوسطين واليهودي والعربي أيضًا. هذا الصعود هو الذي دفع نتنياهو إلى التصريح في الاجتماع الأسبوعي للحكومة، قبل أسبوعين إلى اختيار الانتصار الحاسم في الحرب وتحمل العزلة الدبلوماسية التي قد تفرض على إسرائيل بسبب مواصلة الحرب في غزة وتصعيدها. لقد بدأت قوى كثيرة في العالم تنتبه لخطورة هذا التيار وتتخذ إجراءات ستؤدي إلى فرض عزلة دبلوماسية على إسرائيل على الساحة الدولية، لكن هذا التحرك لا يكفي ما لم تتخذ إجراءات عملية وتدابير قانونية لتقييد قدرة إسرائيل على شن حروب عدوانية على دول المنطقة.
--------------------------
بقلم: أشرف راضي

 



مقالات اخرى للكاتب

ما بعد حرب غزة | الصراع الأبدي ونظريات الحرب الدائمة