قبل سنوات لا تُعَدّ، كان للمُعلِّم هيبته وقيمته التي تدفعنا أحيانًا إن رأيناه في شارع خارج اليوم الدراسي، نعود للوراء ونمشي من شارع آخر احترامًا له وتقديرًا لمكانته، أما اليوم وقد سمعنا قبل أيام عن المُعلِّمة التي رفضت الغُش داخل لجنة امتحانات للثانوية العامة، فجازاها أولياء الأمور بالتنمُّر والتهديد، بل والهجوم والسُباب من أشخاص يُفترض أن يكونوا قدوة لأبنائهم.
في الوطن الذي كان يُضرب به المثل في مروءة أهله، وشجاعة أبنائه، أصبحنا اليوم نشهد مشاهد مؤلمة تدمي القلب وتُحيّر العقل، فالمُعلِّمة لم تفعل شيئًا سوى أن تمسّكت بمبادئ الشرف والأمانة، وقالت: "الغش حرام وليس طريقًا النجاح"، لكنها فوجئت بتحوّلها إلى خصم، وتعرضها لحملةٍ من السخط، وكأنها ارتكبت جريمة!
أي مجتمعٍ هذا الذي يرى في الغش حقا مكتسبًا، وفي الصدق والأمانة جريمة؟ متى انقلبت المفاهيم إلى هذا الحد؟ وكيف أصبح بعض الآباء والأمهات هم من يبررون الكذب، ويدافعون عن الغش، ويطالبون بأن يمنح أبناؤهم النجاح ولو زورًا؟
مَن السبب وراء تغيُّر القيم والمبادئ وانحدارها إلى هذا الحد؟ حتى عشرين عامًا مضت كان المعلم صاحب هيبة، وكانت المدرسة مصنعًا للقيم قبل أن تكون مَصنعًا للدرجات،وكان البيت يغرس في الطفل احترام العلم، وليس فقط حصد الدرجات، أما اليوم فقد انقلب الحال، وبات بعض أولياء الأمور يعتبرون أن الغاية تبرر الوسيلة، وأن الغش ليس خطيئة بل وسيلة "لإنقاذ مستقبل الأبناء"!
لكن أي مستقبلٍ هذا الذي يُبنى على الكذب؟ ما الذي نزرعه في نفوس أبنائنا حين نعلمهم أن الممنوع مباح إذا فعله الجميع، وأن الضمير عبء، وأن من يرفض الغش يُعاقب ويُنبَذ؟
ما حدث في هذه المدرسة ليس مجرد واقعة عابرة، بل هو عرضٌ خطير لمرض مستفحل في جسد المجتمع المصري، غياب القيم لم يعد استثناء، بل صار هو القاعدة؛ أصبحنا نُسمي النفاق "ذكاء"، ونبرر الغش بأنه "تيسير"، ونقبل الرشوة تحت مسمى "تسيير الأمور"!
حين تنهار المبادئ في المدرسة، وهي أول معقلٍ لتربية الأجيال، فاعلم أن الخطر أعمق من مجرد فشلٍ تعليمي؛ إنه انهيارٌ أخلاقي يهدد مستقبل الوطن نفسه.
كيف نُربي أبناءنا في هذا المجتمع المخيف؟ كيف نُربيهم على الدفاع عن الحق في زمن أصبحت البلطجة هي الصوت الأعلى والأوحد؟ كيف نُربيهم على أهمية العلم في زمن أصبح العلم فيه في المراتب الأخيرة بعد المال والشهرة والتريند؟ كيف نأمن عليهم في شوارع لم يعد فيها أمان لرد فعل من يُخطئ بحقهم؟ وكيف نُعلِّمهم أن الغُش حرام وسيظل هكذا في زمنٍ أصبح الغُش من سُبل تحقيق أعلى نسبة نجاح في المدارس أمام الوزارة!
الحل لم ولن يكُون أبدًا في مجاراة الخطأ لأن "الجميع يفعله"، بل في الوقوف إلى جانب من يتمسّك بالقيم ولو كان وحده، في أن نعلّم أبناءنا أن الشرف ليس ضعفًا، وأن النجاح لا يُؤخذ كذبًا، ولا يُنتزع بالغش.
المجتمع المصري لم يكن هكذا، كان مجتمعًا يُجلّ الصدق، ويخجل من الكذب، ويُقدّس العلم والمعلم، أما ما نراه اليوم، فهو انعكاسٌ موجعٌ لانحدارٍ يجب أن نتوقف أمامه جميعًا ونحاول جاهدين صدُّه.
يبقى صوت الحق ضعيفًا، لكنه لم يمت، وتبقى المُعلِّمة التي قالت "لا" شعلة في وسط هذا الظلام، فربما نعود يومًا، حين ندرك أن من يغشّ لم ينجح، وأن من يتمسّك بالشرف، لم يخسر أبدًا.
------------------------
بقلم: إيمان جمعة