28 - 03 - 2024

طه حسين والأزهر (4 من 4) فراق لا لقاء بعده

طه حسين والأزهر (4 من 4) فراق لا لقاء بعده

وعرف الفتى بجرأته على نقد التقليدى والعتيق من الآراء فسأله بعضهم عن رأيه فيما كتبه الكامل فى "المبرد" وهو: "وكان مما كفرت به الفقهاء الحجاج قوله والناس يطوفون بقبر النبى: "إنما يطوفون برمة وأعواد"، فقال طه: "إن الحجاج لم يكفر وإنما أساء الأدب"، وأنكر الطلاب ذلك، حتى فوجئ باستدعائه ورفيقيه لمقابلة الشيخ الأكبر حيث وجدوا لجنة كبيرة من الشيوخ الذين ينتقدونهم وطلاب يشهدون على آرائهم فى شيوخهم وغيرها، وكان قرار اللجنة محو أسماء هؤلاء الطلاب من سجلات الأزهر، فقصد الطلاب شيخهم بخيت المطيعى الذى كان معروفا بجرأته فى الحق، ولكنه رفض التدخل قائلا: "اسكت يا ابنى خلينا ناكل عيش". 

ولمواجهة تلك المحنة كتب طه حسين مقالا لاذعا ينتقد فيه الأزهر ومناهجه وشيخه جميعا وذهب به إلى صاحب الجريدة أحمد لطفى السيد، فقرأ المقال وفقال له: لو لم تكن قد فصلت من الأزهر لكان هذا المقال كافيا لفصلك، فإذا كنت تريد العودة للأزهر فدع الأمر لى ثم تبين للفتى ورفيقيه أنه لم يفصل ولكن الشيخ كان يهددهم فحسب، وراح الفتى بعدها يتردد على مقر الجريدة فيخالط الكثير من المثقفين والأدباء "من المطربشين" ويسمع منهم عن العلم الحديث وما يتيحه لطلابه من حرية فى مناهج الأدب والتاريخ والفلسفة وغيرها، وعرف من هؤلاء المطربشين بأمر الجامعة المصرية الأهلية، فتقدم لها ليدفع مصروفاتها جنيها كاملا فى السنة، وعلى رغم من أن دفع هذا الجنيه كان عسيرا على الفتى فإنه قد أحب الجامعة ومافيها من انطلاق وحرية، ويعجب أشد العجب بدرسه الأول فيها، وكان درسا عن الحضارة الإسلامية لأحمد زكى بك، يبدأه بالسلام عليكم ويتحدث من عند نفسه لا من كتاب قديم، وأصبحت أوقاته موزعة بين ثلاث أماكن دار الكتب فى الصباح، والأزهر فى وسط اليوم، والجامعة فى المساء، ومع هذا فقد كان يقضى وقته فى الأزهر وقلبه معلق بالجامعة حتى يذهب إليها ويسمع فيها درسا عن التاريخ المصرى القديم، ودرسا بعنوان أدبيات الجغرافيا والتاريخ يلقيه بالعربية محاضر إيطالي.

كل هذا والفتى مستمر فى كتابة المقالات فى صحيفتى اللواء والجريدة ينتقد فيها القديم والأزهر ومناهجه وطرائقه وشيوخه، حتى أصبح اسمه معروفا فى المجال العام، وفى نحو سنة 1911م، أنشأ محمد رشيد رضا مدرسة للدعوة والإرشاد وكان حفل تأسيسها فى فندق سافواى، ورغم معارضة معظم الشيوخ والطلاب الأزهريين لتلك المدرسة ولانحياز رشيد رضا للخديوى، الخصم اللدود لأستاذه محمد عبده، فقد حضر شيخ الأزهر وكثير من شيوخ مجلس إدارته هذا الحفل وقيل أنه قد دارت عليهم كؤوس الشمبانيا وقال بعضهم بل مجرد مياة غازية، فكتب طه حسين نقدا لاذعا لتلك الحفلة ضمنها أبيات شعرية من إنشائه تقول: 

رعى الله المشايخ إذ توافوا ... إلى سافواى فى يوم الخميس

وإذ شهدوا كؤوس الخمر صرفا... يدور بها السقاة على الجلوس

رئيس المسلمين عداك ذم ... ألا لله درك من رئيس

ورغم هذا ومع ضيقه بالأزهر ومناهجه وطرائقه العتيقة، فلم يكن أمامه إلا الظفر بالعالمية ليصبح أستاذا فقيرا يأخذ أرغفة الجراية ويجلس إلى عمود بالأزهر ويحصل على خمسة وسبعين قرشا إذا كانت عالميته من الدرجة الثالثة ومئة قرش إذا كانت الثانية ومئة وخمسين قرشا إذا كانت الأولى، وغير ذلك فلن يكون أمامه سوى قراءة القرآن على المقابر وفى البيوت.

وقد مر الفتى بمراحل تعليميه فى الأزهر بلغت نحو عشر سنوات، وهى ثلاث مراحل: المنتسب ثم المنتظر ثم المستحق، وكان الانتساب يتم كما سبقت الإشارة بعد اختبار حفظ القرآن وقد انتسب الفتى إلى رواق "الفشنية" ويتجاوز الطالب تلك المرحلة بكتابة "عرضحال" يقول فيه أنه انتسب فى الأزهر أعوام "كذا" وحضر دروس كذا وكتب كذا، ويشهد على ذلك اثنان من شيوخ الأزهر، وهكذا انتقل الفتى إلى مرحلة المنتظرين تلك التى كان على شيخ الرواق أن يمتحنه فيها بعد أن يعين له بعض الموضوعات، ولأن شيخ الرواق كان ابن شيخ كبير ويعرف طه حسين فقد سأله ونجّحه فى جلسة واحدة، وانتقل طه حسين إلى المرحلة الأخيرة التى تنتهى بحصوله على العالمية وهى مرحلة المستحقين، وفى سنة 1911 تقدم طه حسين للحصول على العالمية، فذهب إلى الأزهر، وحصل على "التعيين" وهو الموضوعات التى ينبغى أن يستعد بها للجنة الامتحان الشفوى، ويقول أنه قرأ وحفظ وراجع واستعد للامتحان فأحسن الاستعداد، حتى لم يبق بينه وبين الامتحان إلا سواد الليل ليفاجأ بالشيخ سيد المرصفى يزوره فى بيته بالليل طالبا منه أن يعتذر عن حضور الامتحان، فالنية قد بيتت لإسقاطه، مؤكدا له انه عضو فى اللجنة التى سوف تسقطه، وهى برئاسة الشيخ:" دسوقى العربى"، فقال طه حسين ولكنى سأحضر أمام لجنة برئاسة الشيخ "عبد الحكيم عطا"، فقال المرصفى رفض الشيخ عبد الحكيم عطا تدخل الشيخ الأكبر فى الامتحان فلن تنعقد لجنته، وذهب الفتى للجنة من صباح الغد، وسألته اللجنة السؤال الأول الذى قضى فيه نحو ساعتين ونصف، لقى فيه الفتى من المناقشة أشدها ومن الجدال أعنفه، وفجأة يدخل الشيخ الأكبر (الشيخ عبد العزيز البشرى 1909-1916 "من عندى")، ليقول لرئيس اللجنة: حرام عليك يا شيخ دسوقى إرفق به، ولكنه لم يرفق به وزاد شدة على شدة وعنفا إلى عنف، وانتهت المسألة الأولى، فقيل للفتى إذهب فاسترح، فخرج ليجد الشيخ الأكبر جالسا بباب اللجنة وكأنه ينتظر شيئا، ويطلب من أحد الشيوخ أن يأخذ الفتى ليسقيه فنجانا من القهوة، وفى انتظار هذا الفنجان، يأتي من يحمل محفظة الفتى إيذانا بأنه قد سقط وأن اللجنة لا تريد أن يتم مابقى له من درس. وكان تعليقه: "أنا لم أسقط ولكن هم الذين سقطوا"

هكذا انقطعت الصلة بين طه حسين وبين دروس الأزهر، ولم يعد يذهب إليه إلا للصلاة أوللقاء بعض أصدقائه أو من يحترمهم من شيوخه، ونظمت الجامعة الأهلية وتقررت فيها الامتحانات والشهادات، فتفرغ لها بكليته، وظل محتفظا بزيه الأزهرى "العمامة والكاكولة" والصورة التى تجمع طلاب الجامعة المصرية مع أساتذتهم، تضم طه حسين بزيه الأزهرى، وفى طريقه لبعثته إلى فرنسا سنة 1914، وعندما وصفه بعض الأجانب مرتديا زيه الأزهرى بأنه: "يحضر حفلة تنكرية"، فأصبح وقد خلع الزى الأزهرى وارتدى البدلة وكوّر كاكولته وعمامته وتقدم من حافة السفينة وطوح بها لتستقر فى قاع ذلك البحر العريض.
---------------------------
بقلم: د. كمال مغيث

الحلقات السابقة

طه حسين والأزهر : تمهيد: (1 من 4)

طه حسين والأزهر (2 من4)

طه حسين والأزهر، مناقشة ونفور (3 من 4)


مقالات اخرى للكاتب

الشيخ إمام عيسى فى ذكراه: أغانيه المتوهجة وعيا ووطنية أشعلت المظاهرات وشكلت الوجدان





اعلان