28 - 03 - 2024

طه حسين والأزهر، مناقشة ونفور (3 من 4)

طه حسين والأزهر، مناقشة ونفور (3 من 4)

عندما كان يضيق الأزهر بطلابه فانهم كانوا ينتقلون بحلقاتهم الى مسجدى محمد بك أبو الدهب إلى الغرب من الأزهر ومسجد الشيخ حسن العدوى إلى الشمال منه. 

وكانت حياة المجاورين جميعا شديدة الفقر، بل لقد استقر فى أذهانهم جميعا بأن الفقر هو الشرط الأول لتحصيل العلم والاجتهاد، وأنه لا تستقيم بلهنية العيش ورغده مع طلب العلم، فكانوا يأكلون وجبتين فقيرتين يوميا، فيقول الفتى انه وابن خالته كانا يدبران أمرهما ليوم كامل بقرش واحد مع الأربعة أرغفة جراية، يشتريان بمليمين ونصف سلطانيتين عميقتين من الفول النابت بالزيت وبنصف مليم حزمتين من الكراث، وفى العشاء إذا بقى لهما نصف القرش اشتريا بنصفه حلاوة طحينية ونصفه الآخر شرائح من الجبن الرومى، أما إذا طمعا أثناء النهار فى شيء من البسبوسة أو بليلة بنصف القرش، فلم يكن أمامهم سوى رغيفي الجراية والعسل الأسود، أما الوجبة الساخنة الوحيدة وهى وجبة اللحم مع البطاطس أو القرع فكانت عصر الجمعة من كل أسبوع.

وقد أحب طه حسين الشيخ محمد عبده "الأستاذ الإمام" وتمنى لقاءه، ولكن الشيخ مات صغيرا سنة 1905 قبل أن يتم الستين من عمره، وكان من الشيوخ الذين أحبهم الفتى الشيوخ: بخيت وسيد المرصفى وعبد الله دراز وأبو خطوة، ولكن معظم شيوخه كانوا قساة غلاظا ضيقى الصدر، وسأذكر هنا بعضا من مواقف الفتى مع الشيوخ فى سنواته السبع التى قضاها منتظما فى الأزهر، ففى درس البلاغة يسمع من شيخه: "لكل كلمة مع صاحبتها مقام"، فأراد الغلام مناقشته فقال الشيخ: دع عنك هذا يابنى فإنك لا تحسنه وإنما تحسن هذه القشور التى تقبل عليها فى الضحى، فأما اللباب فلم تخلق له ولم يخلق لك" وضحك الشيخ وتضاحك الطلاب ووجم الغلام، وأما تلك القشور فقد كانت كتاب "الكامل" للمبرد.

وشيخ آخر يفسر تنكير الرضوان فى "ورضوان من الله أكبر"، فناقشه الغلام فقال الشيخ: أسكت يا بنى وقانا الله شرك وشر أمثالك اتق الله فينا ولا تشاركنا فى هذا الدرس فتفسد علينا أمرنا"

وهاله أن يقول شيخ كبير فى درس الأصول عن الزوج وزوجه: فإذا قال لها: أنت طلاق أو أنت ظلام أو انت طلال أو أنت طلاة، وقع الطلاق ولا عبرة بتغيير اللفظ"، وذاك الشيخ الذى لا يكاد يسأل حتى يشتم، فإذا ألح السائل لم يعفه من لكمة فى وجهه إذا كان قريبا من مجلسه، أو برمية من حذائه إذا كان بعيدا وكان حذاؤه جافيا غليظا ملئت نعله بالمسامير،

وفى درس النحو فسر الشيخ بيت شعر لتأبط شرا: فأبت إلى "فهم" وما كدت آئبا .. وكم مثلها فارقتها وهى تصفر، وقال الشيخ كانت العرب تضع أصبعها فى فمها وتصفر، فسأله طه حسين عن مرجع الضمير "هى" فقال الشيخ: إنك وقح وقد كان يكفى أن تكون غبيا، فرد طه حسين: ولكن هذا لا يدل على مرجع الضمير، فرد الشيخ: انصرفوا فلن أستطيع أن أقرأ وفيكم هذا الوقح، وأوشك الطلاب أن يفتكوا بالفتى لولا أن أشهر زملاؤه من أهل الصعيد نعالهم لحمايته، وفى درس آخر وكتاب آخر لشيخ من الشرقية أخذ طه حسين يجادل الشيخ حتى قال: لن أمضى فى الدرس حتى يقوم ذلك الغلام، ولم يقم الغلام ولا أصحابه إلا عندما أشهرت عليهم نعال الشرقية، ولم تكن نعال الشراقوة بأقل خطرا من نعال الصعيد

ويتفاخر أحد شيوخه الأساتذة بأنه يستطيع أن يتحدث ساعتين دون ان يفهم أحد عنه شيئا، ولا يفهم هو عن نفسه أيضا، وكان فى مجلسه من الغرفة يسمع من أخيه وزملائه كثيرا من نقائص هؤلاء الشيوخ ومعايبهم، فهذا الشيخ يتجسس على زملائه ويكتب فيهم التقارير للأمن وللمشيخة، وهذا الشيخ تربطه علاقة مريبة بهؤلاء الطلاب ولا يكاد يستقر على كرسيه حين يحضر أحدهم حلقته، وكانت هذه الأحاديث تثير فى نفس الفتى كثيرا من الغضب والأسى وخيبة الأمل.

وأحد شيوخ المنطق والأصول يجادله الفتى ويلح فى الجدل حتى يضيق الشيخ فيقول للفتى: "أسكت يا أعمى ما أنت وذاك" فيغضب الفتى ويواجه الشيخ بحدة بالغة: "إن طول اللسان لم يثبت قط حقا ولم يمح باطلا"

وكان طه حسين شاهدا على جرأة وشجاعة أستاذه المرصفى ونقده للمناهج الأزهرية العتيقة ومع هذا فمع أزمات طه حسين مع الأزهر فوجئ به وهو يلتزم جانب الشيخ الأكبر بلا مناقشة ويقطع علاقته بالفتى المشاغب المثير.
----------------------------
بقلم: د. كمال مغيث

اقرأ للكاتب

طه حسين والأزهر : تمهيد: (1 من 4)

طه حسين والأزهر (2 من4)

مقالات اخرى للكاتب

الشيخ إمام عيسى فى ذكراه: أغانيه المتوهجة وعيا ووطنية أشعلت المظاهرات وشكلت الوجدان





اعلان