كيف يُعيد افتتاح المتحف المصري الكبير، خريطة النقاش حول هوية أصحاب الحضارة؟
تترقب الأوساط الثقافية والإعلامية العالمية، حدثًا يُصنف أنه الأضخم في تاريخ المتاحف المخصصة لحضارة واحدة، ولا يتوقف تأثير الافتتاح عند حدود السياحة والاقتصاد، بل يمتد ليشمل السجال الثقافي والفكري حول هوية الحضارة المصرية القديمة، خصوصًا في ظل تصاعد الخطاب "الأفروسنتريكي" في الغرب، الذي يسعى إلى إعادة تأويل التاريخ المصري من منظور إفريقي خالص.
خلفية عن الفكر الأفروسنتريكي
بدأت الحركة الأفروسنتريكية في الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرن العشرين، كحركة فكرية وثقافية تهدف إلى إعادة الاعتبار للهوية الإفريقية في مواجهة ما اعتبرته "مركزية أوروبية" للتاريخ والعلوم.
وتحوَّلت مع الوقت إلى تيار واسع يستخدم التاريخ والفن والسينما لإبراز إسهامات الأفارقة في الحضارة الإنسانية، إلا أن هذا التيار دخل في منطقة الجدل حين بدأ بعض منظريه يدّعون أن مصر القديمة كانت حضارة إفريقية سوداء خالصة، وأن المصريين المعاصرين ليسوا امتدادًا مباشرًا لتلك الجذور.
فقد اعتمدت الحركة على منصات التواصل الاجتماعي لنشر محتوى بصري مؤثر من خلال نشر مقاطع وثائقية قصيرة وصور معدلة بالذكاء الاصطناعي، والتي استخدمت فيها رسوم لتوت عنخ آمون ونفرتيتي بوصفهما ملوكًا سودًا.
كما ساهمت بعض المنصات الغربية في تأكيد تلك السردية، من خلال إنتاج منصة نتفليكس لمسلسل "كليوباترا السمراء" عام 2023، كوسيلة لتثبيت فكرة أن التاريخ المصري أُختطف من إفريقيا.
ونظمت الحركة على مدار الأعوام القليلة الماضية، مؤتمرات ومحاضرات في الجامعات ومراكز الفكر في الولايات المتحدة، بعنوان "Return to the Black Pharaohs"، و "Decolonizing Egyptology" لتأكيد أن دراسة مصر القديمة يجب أن تُقرأ من منظور إفريقي خالص.
هذه الادعاءات أثارت رفضًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية المصرية والعالمية، الذين وصفوا هذا الطرح بأنه محاولة لتسييس التاريخ، مؤكدين أن الحضارة المصرية نشأت على أرض مصر وتشكَّلت بعقول مصرية خالصة، رغم تفاعلها الطبيعي مع محيطها الإفريقي والمتوسطي، دون أن تفقد طابعها وهويتها المستقلة التي ميزتها عبر العصور.
المتحف المصري الكبير سرد مصري رسمي للتاريخ
لا يُقدَم المتحف المصري الكبير فقط كصرح أثري وسياحي، بل كمشروع هوية وطنية يهدف إلى إعادة تقديم تاريخ مصر القديمة بلسان مصري أمام العالم كله وبأدوات علمية حديثة.
يضم المتحف أكثر من 50 ألف قطعة أثرية بينها المجموعة الكاملة للملك توت عنخ آمون، وقارب الملك خوفو، وتماثيل ضخمة للرموز المصرية القديمة.
ويُعد المتحف بمثابة رد عملي ومادي من الدولة المصرية، على سرديات الأفروسنتريك التي تمادت خلال السنوات القليلة الماضية من خلال قنوات عدة، في محاولة إثبات ادعاءاتها، إذ يُقدم المتحف الرواية المصرية الرسمية للحضارة، مستندًا إلى أدلة أثرية وأنثروبولوجية تؤكد تنوع الأصول البشرية لسكان وادي النيل عبر آلاف السنين، دون تحيز عرقي أو اجتماعي.
كيف يؤثر الافتتاح على حملات الأفروسنتريك؟
التغطية الإعلامية العالمية التي سيحظى بها افتتاح المتحف، ستُعيد تعريف الوعي الجمعي حول ملامح المصري القديم، من خلال صور توثِّق القطع الأثرية الأصلية.
هذا المشهد البصري يُضعف سرديات الأفروسنتريك التي اعتمدت كثيرًا على تصورات فنية غير دقيقة أو صور منزوعة من سياقها التاريخي.
يُعيد المتحف لمصر حق السرد بعدما ظل النقاش العالمي حول أصول المصريين يُدار من خارجها خلال الأعوام القليلة الماضية، والآن وبفضل العرض العلمي الدقيق والتقنيات الحديثة في افتتاح المتحف، باتت الرواية المصرية أكثر حضورًا وتأثيرًا من أي وقت مضى.
حتى لو حاولت الحركات الأفروسنتريكية استثمار زخم الافتتاح لترويج محتواها المزيف عبر المنصات الرقمية، إلا أن ذلك قد يُواجه بردود علمية حاسمة من مؤرخين ومؤسسات متخصصة، مستندين إلى ما يعرضه المتحف من حقائق موثقة.
كما أن افتتاح المتحف في هذا التوقيت يمنح مصر ورقة قوة ثقافية ناعمة، فهو لا يقدم التاريخ فقط، بل يؤكد ملكيته ورعايته من الدولة المصرية نفسها، ويقدم مصر كصاحبة إرث حضاري عابر للحدود والأعراق، ويُعيد رسم ملامح النقاش حو لمن يملك الحق في رواية تاريخ المصريين القدماء.
افتتاح المتحف المصري الكبير؛ أعطى القاهرة أفضلية المبادرة، إذ سبقت حركات الأفروسنتريك بخطوة؛ وأغلقت باب الجدل على أرض الواقع من خلال الأدلة الماثلة أمام العالم، بينما تستعد هذه الحركات لإعادة تدوير خطابها في محاولة لمجاراة السرد المصري الرسمي.
--------------------------
تقرير: إيمان جمعة






