مظاهر التفاوت الاجتماعي في مجتمع يفترض فيه المساواة
- القس يوساب عزت: البعض يدخلون الكنيسة بقلوب مشتاقة.. لكنهم يخرجون مجروحين من نظرة طبقية
- ماهر عزيز: الكنيسة ليست مجتمع ملائكة.. بل بشر يحاولون أن يكونوا أنقياء وسط الضعف البشري والخذلان
من المفترض أن تكون الكنيسة مكانًا تمحى فيه الفروق الطبقية وتذوب فيه الحواجز الاجتماعية، لكن الواقع في كثير من المدن المصرية يشير إلى أمر آخر.
بصورة خفية. تتسلل الطبقية إلى داخل الكنائس، لا عبر التصريحات المباشرة أو السياسات الرسمية. بل من خلال تفاصيل صغيرة.. نظرات ولهجات ومواقع الجلوس وفرص الخدمة والأحاديث التي تدور بعد الاجتماعات..
فهل بات البعض يشعر بالغربة في بيت الله؟
هل أصبح الانتماء إلى الكنيسة مشروطًا بلغة معينة أو مظهر معين أو خلفية اجتماعية محددة؟
(الكنائس ليست متشابهة.. لكنها ليست متساوية)
التنوع بين الكنائس أمر طبيعي. فكل كنيسة تتشكل وفقا لموقعها الجغرافي والطابع الاجتماعي للمجتمع المحيط بها ومستوى التعليم والمعيشة لأبنائها. لكن ما لم يناقش كثيرًا هو أن هذا التنوع أحيانًا يتحول إلى تمييز ضمني.
في بعض الكنائس الراقية بالمدن الكبرى، يبدو وكأن هناك "كودًا غير مكتوب" للانتماء: طريقة كلام معينة وشكل ملابس وقدرة على دفع اشتراكات عالية للأنشطة وأحيانًا المشاركة في مؤتمرات باهظة التكلفة.. في المقابل، يشعر بعض أبناء المناطق الشعبية حين يزورون هذه الكنائس، بأنهم "غير مرغوب فيهم" دون أن يقال ذلك صراحة.
(حين لا يكون الكل متساويًا)
الكنيسة في جوهرها ليست مجرد مكان للصلاة، بل هي مجتمع حي.. لكن ما الذي يحدث حين يشعر بعض الأفراد أنهم غرباء داخل هذا المجتمع؟
بعض الخدام من خلفيات بسيطة يحكون عن صعوبات في "الاندماج" في بعض الكنائس. ليس بسبب قلة الالتزام الروحي، بل لأنهم لا يتحدثون بلغة "الوسط"، أو لا يعرفون "الناس الصح".
في بعض الاجتماعات، تبدو الواجهات محسومة: من يخدم و من يقود الترانيم ومن يظهر على المنصات. ليس دائمًا وفقًا لمعايير روحية، بل أحيانًا بحسب الخلفية الاجتماعية. وطبيعة العلاقات الشخصية، و"قابلية الظهور"..
( الانتماء المشروط والاغتراب الصامت)
يعيش كثير من الشباب المسيحي صراعًا صامتًا: "هل أنتمي فعلًا لهذه الكنيسة؟ هل ينظر لي كمجرد متفرج؟ هل وجودي يحرج الآخرين؟"
هذه الأسئلة لا تطرح علنًا، لكنها تترك أثرًا عميقًا. عندما يشعر الجو العام للكنيسة شخصًا ما بأنه أقل، فإنه لن يغضب بالضرورة، لكنه سيتراجع.. بهدوء.. قد يغيب عن الاجتماعات، ثم يقل حضوره للقداسات، وربما يبحث عن كنيسة أخرى أو ينسحب تمامًا من الحياة الكنسية..
( دور الكنيسة في مقاومة التفاوت)
الكنيسة لا تصنع الطبقية، لكنها تتأثر بها إن لم تكن يقظة. الدعوة المسيحية في جوهرها تقوم على المساواة الجذرية: "ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع."
لكن هذا لا يحدث تلقائيًا. بل يحتاج إلى وعي داخل جسد الكنيسة، بأن كل فرد يشعر بكرامته، وأهميته، وحقه في المشاركة، بغض النظر عن خلفيته.
- المطلوب: فحص القلب قبل فحص المظهر
القضية ليست في شكل الكنيسة أو حجمها أو ترتيبها، بل في قلبها.. الأسئلة التي يجب أن تطرح داخل كل كنيسة ليست عن عدد الأنشطة ولا جودة الخدمة فقط، بل: هل يشعر "الأضعف" بأنه محبوب هنا؟
هل نترك مساحات حقيقية للناس المختلفين؟
هل نتحدث بلغة مفتوحة أم مغلقة؟
هل نحن فعلاً "جسد واحد"؟
الطبقية لا تعالج بالشعارات، بل بإعادة النظر في تفاصيل صغيرة لكنها حاسمة: من يرحب بالناس على الباب؟ من يشارك في تقديم الاجتماعات؟ من يحكي قصته دون خجل؟ ومن يختفي دون أن يلاحظ أحد غيابه؟
(التفاوت الطبقي)
القس يوساب عزت، أستاذ الكتاب المقدس بالكلية الإكليريكية والقانون الكنسي بالمعاهد الدينية، يصف وجود التفاوت الطبقي داخل المجتمع الكنسي بأنه أمر مؤلم، لأنه يتنافى مع جوهر الإيمان المسيحي، الذي يرى الكنيسة جسدًا واحدًا لا مكان فيه للتمييز..
من واقع خدمته، يؤكد أن الطبقية داخل الكنيسة قد تظهر بوضوح أحيانًا، من خلال طريقة التعامل مع الأشخاص بحسب مستواهم المادي، أو في المناسبات، أو حتى في توزيع الأدوار داخل الخدمة.. هذه الممارسات، وإن لم تكن معلنة، فإنها تخلق شعورًا بعدم المساواة والانتماء لدى بعض الأفراد.
ويستند القس يوساب إلى نص واضح من رسالة يعقوب يدين هذا التمييز، حيث يقول:
"فَإِنْ دَخَلَ إِلَى مَجْمَعِكُمْ رَجُلٌ بِخَاتِمٍ ذَهَبٍ فِي لِبَاسٍ بَهِيٍّ، وَدَخَلَ أَيْضًا فَقِيرٌ بِلِبَاسٍ رَثٍّ، فَنَظَرْتُمْ إِلَى اللاَّبِسِ اللِّبَاسَ الْبَهِيَّ وَقُلْتُمْ لَهُ: اجْلِسْ أَنْتَ ههُنَا حَسَنًا. وَقُلْتُمْ لِلْفَقِيرِ: قِفْ أَنْتَ هُنَاكَ، أَوِ اجْلِسْ ههُنَا تَحْتَ مَوْطِئِ قَدَمَيَّ. فَهَلْ لاَ تَمْيِيزُونَ فِي نُفُوسِكُمْ، وَتَصِيرُونَ قُضَاةً أَفْكَارِهَا شِرِّيرَةٌ؟" (يعقوب 2: 2-4)
ويحذر من شعور الغربة الذي قد ينتاب البعض داخل الكنيسة بسبب مستواهم الاجتماعي أو مظهرهم أو لباسهم، حيث يقول:
"ناس كتير بتدخل الكنيسة ويكون عندها شوق حقيقي، لكن بسبب نظرات الناس أو تعليق بسيط على لبسهم أو هيئتهم، ممكن يحسوا إنهم غرباء. وده ضد روح الإنجيل اللي علمنا المحبة غير المشروطة"..
ويذكر بكلمات المسيح نفسه حين لام الفريسيين على اهتمامهم بالمظاهر الخارجية، قائلاً:
"الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، لأنكم تنقون خارج الكأس والصحفة، وهما من داخل مملوآن اختطافًا ودعارة" (متى 23: 25)
ثم يؤكد: "الكنيسة مش مكان لإصدار الأحكام، بل حضن مفتوح للي لابس لبس بسيط أو حتى تقليدي أو مش على الموضة".
وعن الفروقات بين الكنائس في المناطق المختلفة، يقول إن الاختلاف في الشكل أو الإمكانيات لا يعني اختلافًا في الروح. يوضح ذلك قائلًا:
"أحيانًا نعم، بيكون في اختلاف من حيث الإمكانيات والشكل الخارجي للخدمة، لكن مش بالضرورة في الروح. الكتاب المقدس بيشجع على وحدة الروح حتى في تنوع الجسد".
ويستشهد بقول بولس الرسول: "فَإِنَّهُ كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ وَاحِدٌ وَلَهُ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ... كَذَلِكَ الْمَسِيحُ أَيْضًا" (1 كورنثوس 12: 12)
ثم يضيف: "ممكن تلاقي في الكنيسة الشعبية حرارة الإيمان وبساطة القلب، وفي الكنيسة الراقية تنظيم أكتر. المهم إن الكل بيخدم في جسد واحد، وده لازم نحرص عليه".
وعن فكرة الكنيسة كحضن شامل لكل الفئات، يقول القس يوساب: "المفروض طبعًا، الكنيسة تبقى صورة حية من أحضان المسيح اللي فتحت للجميع، لكن الواقع أحيانًا بيكون مختلف".
ويرى أن المشكلة ليست في تعليم الكنيسة، بل في التطبيق العملي. فتعاليم الإنجيل واضحة، كما في قوله: "لاَ يَكُونُ بَعْدُ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ" (غلاطية 3: 28)
ويؤكد: "لازم نفتكر دايمًا إن الكنيسة هي مكان الراعي الصالح اللي بيسيب التسعة والتسعين عشان خاطر واحد تايه".
ويحكي عن حالات شابة انسحبت بالفعل من الخدمة بسبب شعور بعدم الانتماء، قائلاً:
"شفت شباب حسوا إنهم مش على مستوى الناس الموجودين، لا من حيث اللبس ولا المظهر، وحسوا إن الكنيسة مش ليهم، وده يوجع جدًا".
ويذكر بقول المسيح: "لا يُخْرِجْ أَحَدًا خَارِجًا" (يوحنا 6: 37)
ثم يختم بالقول: "الكنيسة لازم دايمًا تكون هي الأب اللي بيجري ويحضن، مش الأخ الأكبر اللي بيرفض يرجع أخوه".
وعن طريق كسر هذا الحاجز الطبقي داخل الكنيسة، يرى القس يوساب أن البداية تكون من التعليم والقدوة. فيقول:
"نعلم في مدارس الأحد والاجتماعات عن المساواة في المسيح، ونعيش ده فعلاً في تعاملاتنا. الكاهن والخادم لازم يرحبوا بكل الناس بنفس القلب. الكنيسة لازم تكون المكان اللي فيه الغني والفقير بيصلوا جنب بعض، ويشربوا من ذات الكأس ويتناولوا من ذات الجسد".
ويختم بكلمات بولس الرسول التي يعتبرها الأساس: "وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ، فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ" (2 كورنثوس 5: 17)
ثم يضيف: "يعني كل الحواجز القديمة لازم تسقط، ونعيش فعلاً ككنيسة واحدة، جسد واحد، قلب واحد".
(الرواد ليسوا طبقة)
يعلق الدكتور ماهر عزيز، استشاري البيئة والطاقة والتغير المناخي وخادم بالكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إن في كل كنيسة توجد بلا شك مجموعة من الأثرياء الذين يقدمون عطاياهم لحل مشكلات الكنيسة، وهؤلاء غالبًا ما يكونون قريبين جدًا من الآباء الكهنة، ويحظون بالصدارة في أي موقف. ويضاف إليهم المهندسون الذين يخدمون المباني، والمحاسبون الذين يديرون الشؤون المالية. لكنه يرى أن هذا القرب لا يجعل منهم "طبقة"، بل يصفهم بأنهم "روّاد".
وبرؤية ناقدة وواقعية، يقول إن من يدخل كنيسة راقية بملابس بسيطة أو خلفية اجتماعية متواضعة، قد يُقابل بنظرات استغراب وتساؤل ضمني: "ما الذي أتى به إلى هنا؟"، وقد يحاول أحد التلطف معه لمعرفة حاجته، لكن في الوقت ذاته لن يُمنع من الصلاة أو لقاء الكاهن. ويصف الفرق بين الكنائس قائلاً إن الخدمة في المناطق الشعبية تُقدَّم بروح من البساطة والعشم والدفء الإنساني، وبإمكانات محدودة لكنها فعالة ومليئة بالتعاطف الحقيقي. أما في الكنائس الراقية، فتُقدم الخدمة بطريقة منظمة ومخطط لها بإمكانات أكبر، لكنها قد تحاط أحيانًا بمظاهر المجاملة السطحية، وإن كانت صادقة.
ويرى أن الأشخاص الذين يُدعون للعظات والمحاضرات يُعاملون باحترام مميز بصفتهم قادة روحيين وفكريين، وأن بعض أمناء الخدمة يحظون بتبجيل خاص. لكنه يؤكد أن أغلب الحضور لا يتعرضون لتمييز، بل قد ينال من يبدو أكثر تواضعًا أو رقة حال اهتمامًا إضافيًا.
ويقر بوجود حالات لشباب تركوا الكنيسة، لا بسبب العقيدة، بل بسبب المعاملة الجافة أو الغرور من بعض الخدام أو الكهنة. فيقول إن هناك من طُرد من الكنيسة بفعل خادم "صار خادمًا في غفلة من الزمن"، أو بسبب كاهن متجبر تدخل فيما لا يعنيه. وهناك من غادروا إلى كنائس بروتستانتية بعد أن فقدوا شعورهم بالقيمة داخل الكنيسة القبطية. وبعضهم صُدم بتهم هرطقة ألقيت عليهم ظلمًا لأنهم قرأوا وفهموا وتعمقوا في الكتاب المقدس، لكنهم اصطدموا بمن وصفهم بـ"الخدام الحافظين مش فاهمين".
ويتوقف أمام حالات من التكفير والعداء تولّدها عقلية من يسميهم "حماة الإيمان"، فيقول إن لغتهم الهجومية الهابطة جعلت بعض الشباب "يكفرون بالكنيسة الأرثوذكسية غير آسفين عليها".
ويُحلل ظاهرة تفضيل البعض في المسؤوليات والظهور، قائلاً إن الدوافع متعددة: أحيانًا بسبب الموهبة، وأحيانًا لمحاولة رفع الثقة بالنفس، أو بسبب الصداقات والعلاقات الشخصية، أو لتعزيز التحزب والشللية، أو حتى للاستلطاف أو الاستغلال. ثم يختصر المشهد كله بجملة شديدة الوضوح: "مجتمع الخدام ليس مجتمع ملائكة، لكنه مجتمع بشر يحاولون أن يكونوا أنقياء لأجل خدمة صالحة للمسيح، ولكن الضعف البشري يحاصرهم."
أما عن رؤيته للكنيسة التي يحلم بها، فيتمنى أن يراها قوية في الروح، ثابتة على الإيمان الحقيقي بإنجيل المسيح، لا بتفسيرات بشرية موروثة. كنيسة لا تتعصب ضد كنائس الله الأخرى، وتتحرر من الخرافة والتمجيد الزائد للإكليروس، وتُدار ماليًا بعدل وشفافية، وتحل مشكلات الأحوال الشخصية برحمة وإنارة روحية.
كنيسة تسعى فعليًا للوحدة، لا مجرد التظاهر بها، وتُعيد النظر في التعليم والخدمة والرهبنة على ضوء الإنجيل لا التقاليد المهترئة.
(من الكنيسة.. تبدأ المصالحة)
إذا كانت الكنيسة هي ملجأ الإنسان في عالم مليء بالتفاوتات، فلا يجب أن تعيد إنتاج نفس العالم داخلها. العدالة ليست فقط موقفًا اجتماعيًا، بل ضرورة روحية. والانتماء ليس رفاهية، بل جزء من الإيمان.
الكنيسة التي لا يسمع فيها الفقير صوته، ولا يشعر فيها البسيط بالأمان، تحتاج أن تراجع رسالتها. ولعل البداية تكون من سؤال بسيط وصادق: "هل يشعر كل من يدخل هذا الباب بأنه مرحب به؟"
إن لم يكن، فلنعد فتح الباب... من القلب.
--------------------------------
تحقيق: مادونا شوقي
من المشهد الأسبوعية
الطبقية الصامتة داخل الكنيسة