29 - 03 - 2024

شاهد على العصر (2)

شاهد على العصر (2)

تحدثنا عن بعض العادات والتقاليد والألعاب الشعبية التى مارسناها وأثرت فى التكوين النفسى والوجدانى، بل مازال لها بعض الوجود فى الذاكرة، ولكن كان هناك أيضا مناخ آخر وهو التجمعات الليلية لأولاد الحتة أى أكثر من درب (حارة).

كانت القوصية مركزا أقرب إلى القرية مثل كل المراكز فى أوائل الخمسينات، فلا كهرباء ولا مياه ولا مستشفى ولا نادى أو ساحة شعبية، بل لم تكن هناك وفرة من المدارس بعيدا عن المدارس الخاصة والتابعة للكنائس. 

فى هذا الواقع كنا نتجمع فى المساء فى أحد الأماكن، المظلمة بالطبع، إلا عندما يكون القمر موجودا فيضفى جوا ساحرا يمهد لتقبل الحكايات التى يتسابق كل منا فى سردها، تلك الحكايات المتوارثة خاصة من الجدات. كانت حكايات أقرب للخيال والأساطير والخرافات التى كانت تسود مجتمعا يعاني من الجهل ويسيطر عليه المرض وفى ظل فقر لا يرحم. كانت الحكايات مليئة بأفكار العفاريت التى تظهر فى الظلام وعند المقابر فى شكل حيوانات، فيقول الحاكى أن.والده وهو قادم من الغيط بعد العشاء أمام المقابر وكان يحمل ربطة ربيع (برسيم) وجد حمارا بلا صاحب فنظر يمينا وشمالا فلم يجد أحدا، فوضع البرسيم على الحمار، فوجد نفسه وما معه فى الأرض لأن الحمار هذا كان عفريتا. ثم يدخل الآخر فى قصة الصاروخ، والصاروخ هو عفريت من يموت قتيلا، ويظهر هذا العفريت ليلا مكان قتل هذا القتيل وبنفس مواصفات القتيل. ولكن لم نكن نجعل الليلة تنتهى فى هذا الجو العفاريتى المخيف والذى كان يجعلنا بالفعل نحلم بهذه الأشياء. فنجعل من يجيد ويحفظ الحكايات يتحفنا بحكاية بساط سحرى أو الفانوس السحرى. وهذه الحكايات كانت تجعلنا نسرح بكل خيالنا ونحلم بتحقيق أحلامنا الطفولية عن طريق هذا البساط وذاك الفانوس، وكانت كلها تدور حول الأكل والملبس أو امتلاك القدرة الجسدية لهزيمة أى أحد، على اعتبار أن أغلب العابنا كانت عبارة عن معارك ومبارزات. ولكن وفى ظل هذا الواقع يخرج علينا علاء الدين بفانوسه السحرى، ونجد فى القوصية وفى ذلك الزمان سينما، يا للهول سينما فى ظل هذا التخلف؟ نعم سينما النصر التى افتتحت عام ١٩٥١ فى وقت كان الجهل والأمية الكتابية والثقافية تضرب بأطنابها كل البلاد بلا استثناء. 

هنا أصبح هناك رافد ثقافى وترفيهى فى القوصية بكل المقاييس والمعايير، وكانت مظاهر هذه النقلة هى ذهاب الكثير من الطبقات الفقيرة بل الطبقات بكل تنوعاتها إلى السينما. مثلا كنت أذهب مع والدى وخالى اللذان كانت السينما قد أصبحت تمثل لهما حالة إدمان. بل كنا فى أوقات كثيرة تذهب معنا والدتى وخالاتى بل جدتى لأمى (ستي) . ويا سلام  حين كنت أعيش مع ستى لأيام وأبيت عندها، لكى آخذ حريتى فى السهر مع أصدقائى، وكانت ستى تعيد حكاية الفيلم وتركز على الحكم المستفادة منه. وتتصعب على سمير عبد الله الذى ضربته العصابة لكى لايتزوج شادية فى فيلم (عاصفة فى الربيع). ولاننسى تضامن والدتى مع ليلى مراد فى فيلم (شاطئ الغرام) عندما رتبت لها تحية كاريوكا المقلب حتى تستحوذ على حسين صدقى . 

هناك الكثير والكثير لما قامت به سينما القوصية من إحداث حالة توعوية وتثقيفية وثقافية بشكل غير مباشر مع طبقات ماكانت لها علاقة بكل هذا.

أوائل الخمسينات كان يجب أن أذهب إلى مدرسة، لم يتصادف أن زاملنى فى الدراسة أحد من أقرانى فى المنطقة السكنية العشوائية التى نشأت فيها، حيث تأثر أغلبهم بمهن آبائهم ولم يذهبوا للتعليم، كما تركت مهنة والدى (بقال افرنجى) أثرا علي. فبالرغم من مشاركتنا لكثير من عادات الأكل فى ذلك الوقت حيث لم تكن الأغلبية تستطيع تناول اللحوم مثلا، ناهيك أن الطيور المربَّاه فى المنزل كانت للبيع تسد بثمنها الاحتياجات. 

كانت هناك أكلات شعبية تسد وجبات طوال الأسبوع حتى يأتى يوم الخميس (يوم السوق وكان كأنه عيد) وهو اليوم الذى تتناول فيه الأغلبية، باستثناء الفقراء المعدمين، وجبة عشاء من اللحوم، تلك الوجبة التى كان ينتظرها الجميع مع فارق الاستعدادات المسبقة للمتزوجين. ولذلك كنت تمر فى شوارع وحوارى القوصية منذ العصر وتشم رائحة طشة الملوخية فى الصيف ورائحة تقلية القلقاس فى الشتاء. 

أما الأكلات الشعبية بل قل الفقيرة، هى الشكلة (دقيق مع لبن ويغلى على النار ليتماسك لزوم التغميس بالبتاو) والعصيدة (نفس الشئ ولكن بدل اللبن عسلا) إضافة لمش القطة (وهي الملوخية بدون لحمة) إضافة لأكلة العدس أبو جبه، خاصة يوم خبيز البتاو، حيث يجتمع أهل الحارة منذ الفجر أمام فرن أحد المنازل (وكان لدينا منزل فى الحارة للفرن وتربية الدواجن وكان مركز تجمع ليوم الخبيز) تأتى الخبازة فى الفجر وتتتابع (القطع) وهى كمية الدقيق الخاصة بكل منزل. تستمر العملية حتى العشاء حيث تتكاثر أواني العدس والفول المدمس فوق وبجوار فوهة الفرن، إضافة لشوى البطاطا على بلاطة الفرن. وتنتهى الحفلة باستحمام الخبازة أمام الفرن، والغريب أن يتم ذلك أمامنا ونحن اطفال ولم نشعر بالغرابة إلا بعدما كبرنا. 

فى ظل هذا الجو، كان هناك واقع آخر أعيشه وهو بقالة والدي، كانت بقالة يونانى حسبما تعلم والدى مع الخواجة اليونانى. فبالرغم من الظروف العامة للقوصية التى كانت اقرب للقرية منها للمدينة، وبالرغم من حالة الفقر التى تسيطر على الأغلبية، كانت هذه البقالة بها أنواع الشوكولاتة والملبن المحشى وأنواع الجبن، إضافة للمكسرات بكل أنواعها وأشياء أخرى كثيرة، الشئ الذى جعلنى فى حالة توازن أن أعيش واقعا مختلفا يمثل طبقتين. واقع المنزل ومع أقرانى ولهم ظروفهم المادية التى اشاركهم فيها بكل معنى الكلمة، وواقع آخر يقع فى إطار تجريبى للتعامل مع أشياء لاتتوافق مع انتمائى الطبقى . 

هنا كان لابد أن أذهب إلى المدرسة، كان التعليم حين ذاك يعتمد على الكتاتيب التى تعلم حفظ القران والقراءة والكتابة للأطفال المسلمين مع وجود أطفال مسيحيين حسب العلاقات الاجتماعية فى المنطقة التى بها الكُتَّاب (بضم الكاف). إضافة لمدارس فى الكنائس تقوم بتحفيظ القداس والألحان الكنسية مع القراءة والكتابة، وكانت فى الغالب للأطفال المسيحيين. ولكن كانت هناك مدرسة تابعة للكنيسة الكاثوليكية يتعلم فيها الطرفان. 

أما فى المجال الأوسع والذى يمكن أن نصفه بالمدرسة فلم يكن سوى مايسمى بالقسم الليلى وهو بمثابة محو أمية للصغار والكبار، ثم كانت مدرسة امير الصعيد عام ١٩٤٣ وهى مدرسة خاصة فتحها (حنا الناظر وهو من قرية السراقنا ومعه إخوته الذين يطلق عليهم رهبان التعليم) . وكانت مدارس أنشأها الباشوات نظرا للصراع الطبيعى بين هؤلاء (مدرسة جاد الرب. ومدرسة زكريا مهران) وكل هذه المدارس خاصة اى لاتعتمد شهاداتها الابتدائية أو الإعدادية فيما بعد الا بأداء امتحان هذه الشهادات فى مدارس حكومية مثل (رزقة الدير الابتدائية أو ديروط الإعدادية). 

ذهبت إلى مدرسة جاد الرب وبعدها إلى مدرسة كنيسة المعمدان وكانت تابعة لجمعية مسيحية (جمعية المساعى الخيرية). ثم ذهبت إلى مدرسة زكريا مهران والتى تعلمت فيها وحفظت الفاتحة والتى حفَّظها لى الشيخ (عبد الله الدكر) بعد ضربى بعصا غليظة على أم رأسى. وبعد كل هذه المدارس المتنوعة والتى لم أعرف لها رأسا من رجل ذهبت أخيرا إلى مدرسة أمير الصعيد الذى هو الملك فاروق، والتى سميت بعد ذلك بمدرسة الاتحاد، وانخرطت في السنة الثالثة الابتدائى النظام الجديد بعد إلغاء الابتدائية القديمة التى تحولت إلى الإعدادية. 

هنا أحسست بتغيير جذرى ، أصبحت فى مدرسة بها مدرسين متخصصين فى موادهم وليس مدرسى الكشكول (كل المواد) . هناك ناظر لايلبس الجلباب وفوقه الجاكته ولكن يلبس أفخم البدل وأحسن الكارافتات.. هذه المدرسة خاصة وكنا ندفع مصاريف قروشا بالطبع نظرا للمستوى المادى العام . 

قلت إن حنا وإخوته هم رهبان التعليم، نعم فهم لم يتزوجوا ووهبوا أنفسهم لهذه الخدمة، تعلمنا الأدب والنظافة والنظام مع الشعر والخطابة والتصوير ..الخ كل ذلك فى ظل ظروف لاتتوافق مع مدرسة بهذا الإدراك، كان حوش المدرسة هو الشارع والمدرسة ذاتها عبارة عن عدة منازل مؤجرة، فالمقر الرسمى بجوار دير الراهبات وهناك دور ارضى وعلوى فى منزل عبد الملاك متى، وهناك مايسمى بالنادى وكان مقر غرفة الاشغال (رسم وتصوير وحفر بالصلصال والطين) . وكانت الحقول والحدائق أحد الاماكن التي نحصل بعض الحصص. 

بدأت الدراسة فى مدرسة الاتحاد عام ٥٤/٥٥ فى فصل تحت سلم منزل عبد الملاك متى، كان زملائى من كل قرى القوصية يعتبرون من أبناء الأعيان فى ذاك الوقت ؛ لأنهم يأتون إلى المدرسة من قرى التمساحية (المرحوم سمير عبد التواب) ومن قرية فزارة ( المرحوم محمد رضوان) ومن بوق وبنى ادريس. بالطبع أغلبهم كان يأتى إلى القوصية راكبا حمارا وهو وسيلة المواصلات التى لايقدر عليها غير القادر ماديا؛ فحمار الحقل غير حمار الركوب الذى يجب أن يكون عليه بردعة ذات قيمة تتناسب مع مكانة صاحبها، إضافة إلى مرافق للتلميذ لكى يحجز الحمار فى الوكالة (لوكاندة الحمير). 

شعرت بنقلة نوعية فى حياتي، لبست القميص والبنطلون بديلا للجلابية، فى الوقت الذى كان تلاميذ المدارس الأخرى يلبسون المريلة وكنا نعتبرها لباس البنات. شعرنا ومنذ اللحظة الأولى بحياة غير الحياة من حيث التعامل والنظافة والتعليمات والإرشادات التى لا تقتصر على حصة بذاتها ولا على مدرس بعينه، ولكن مع الجميع وفى كل الحصص تتخلل العملية التعليمية حالة تربوية تتخطى الواقع المجتمعى حينذاك وعلى كل المستويات الطبقية، الشئ الذى ولَّد لدينا حالة حقيقية من الندية والمساواة وان كانت فى المدرسة فقط . 

هنا كان التأثير العميق والعريض للمدرس والمدرسة فى تشكيل الشخصية، وحتى الآن بلا مبالغة لا أنسى شياكة ووجاهة مدرس التربية الزراعية (الأستاذ بيطويسى) ولا الأستاذ فايز مدرس التربية الفنية الوجيه الذى كنا نشبهه بأنور وجدى. أما الأستاذ زكريا كيرلس من بنى إدريس فكان يجبرنا على حصة إضافية فى الجغرافيا الساعة السادسة صباحا!  وكان الأستاذ لويس أخو حنا الناظر صاحب المدرسة  له فضل كبير على القوصية مدى الأجيال. الأستاذ لويس لا نراه فى الشتاء أو الصيف إلا ويلبس البدلة والكرافتة، وكان يلفت نظرنا دائما بياض القميص الناصع الذى يلبسه، لدرجة أنه كان يقول دائما ليس عيبا أن تلبس فانلة مقطعة ولكن العيب ألا تكون نظيفة . ناهيك عن التفتيش اليومى على الأظافر وتلميع الحذاء ونظافة الشعر. 

أما الناظر حنا الذى أعطى النِّظارة قيمة غير مسبوقة، فكان يفاجئ الفصل فى أى ميعاد ويفتح الأدراج (كان كل تلميذ له درج مغلق وقفل خاص به لحفظالكتب والكراريس والأدوات) وياويل من يجد درجه غير مرتب؛ أى الكراريس فى جانب والكتب فى الجانب الآخر والأقلام والمسطرة والاستيكة ..الخ فى الامام. 

وفى مرة كتبت أسمى على الدرج بالحفر وشاهد ذلك فكنت أضرب في كل زيارة له للفصل وكان يقول: هو ده الدرج اللى ورثهولك أبوك؟ ذلك لأمرين الأول أن هذا منفعة عامة ولا يجب أن يتم التعامل معها بهذا الأسلوب، والثانى أن الأدراج ملكية خاصة له والمدرسة بما فيما، فهى حياته الخاصة والعامة، ولذا فقد استحقوا أن يطلق عليهم رهبان العلم. 

كان الناظر أول من أسس مدرسة تناظر المدارس الخاصة التبشيرية مثل الأمريكان بأسيوط ولكن، وهذا هو الأهم، بإمكانيات يحدوها الايمان بالرسالة التعليمية ولذا يذكر المثل (الشاطر بغزل برجل حمار)، كان الناظر صاحب الرسالة يتابع ويباشر تلاميذه فى المدرسة وخارج المدرسة، يمر ليلا على المنازل لمتابعة المذاكرة خاصة فى سنوات الشهادة الإبتدائية والتى كانت تتم فى ديروط، كان يذهب مع تلاميذه ويؤجر لهم أماكن الإقامة مع متابعة لهم طوال أيام الامتحان. فهل هذا ناظر أم مدرس ام مربى أم أب يريد أن يشاهد أبناءه فى أحسن المراتب؟ 

أما على الجانب الآخر، فقد كان الناظر حنا شخصية عامة بمعنى الكلمة، كان له حضور فى المجال العام. ويشارك في يوم مشهود بالقوصية كل عام يعتبر عيد القوصية القومى. فى هذا اليوم يقام احتفال رياضى فى البربا (وهى من أهم المناطق الأثرية فى المنطقة وليس فى القوصية فقط) يحضر فيه المأمور وضباط المركز والشخصيات العامة من أبناء القوصية ومن العاملين فيها وكانوا فى الغالب الأعم من خارج القوصية. 

يبدأ الاحتفال بالتجمع أمام مدرسة حنا الناظر فتصطف الكشافة بملابسها العسكرية المميزة يتقدمها رئيس الكشافة من الطلبة فى زى خاص رافعا عصا مميزة أيضا ووراء الكشافة القسم المخصوص بملابسه البيضاء واضعا شارات المدرسة ويحيط بالطابور المدرسون وفى الأمام حنا الناظر. فى أحد السنوات كانت هناك مدرسة ابتدائية أخرى أراد ناظرها منافسة الاتحاد فحاول أن تتقدم مدرسته الطابور وهنا ثار الناظر حنا وقرر الانسحاب من الاحتفالية، فتدخل المأمور والشخصيات العامة معتذرين حتى وافق حنا الناظر على التراجع. 

كان الاحتفال فى البربا تقدم فيه الشرطة استعراضات من عساكر الخيالة راكبين خيولهم ممسكين سيوفا يحاولون اختطاف قلع نخيل بها ومن يأخذ القلع بسيفة يكون منتصرا، إضافة إلى الاستعراضات التى تقوم بها الكشافة والقسم المخصوص وفقرة التحطيب المشهورة  مع فقرة الرقص بالحصان على أنغام الموسيقى البلدى لأولاد مهاود.   

هذه حال المدرسة التى حصلت منها على الابتدائية، وكان مقابل نجاحى أن قضيت الإجازة الصيفية عند عمتى بالقاهرة (وكانت تقيم أمام مسجد عمرو ابن العاص بمصر القديمة) . وهذه حكاية أخرى. 

هذه صورة فى الثالثة من عمرى أبدو يمين الصورة بجوار أمى بالخلخال، والأخرى فى القوصية بالبيجامة فى سن الخامسة.
----------------------
بقلم: جمال أسعد عبدالملاك*
* سياسي وبرلماني مصري

الحلقة الأولي من شهادة السياسي والبرلماني جمال أسعد عبد الملاك على العصر

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يريد الشعب (٧)





اعلان