بدا محمود ساهماً على العشاء. تنتظره زوجته كل ليلة ليتعشيا معاً. يعود في حدود السابعة مساءً من مكتبه في شارع محمد فريد. محاسب ناجح ومغامر، ترك عمله الحكومى وأسس عمله الخاص محققاً اسماً وشهرة جيدين في عالم الشركات. بينما تعد المائدة يستمتع بدش دافئ يزيل به شيئاً من هموم وضغوط العمل. "العشاء المقدس" كما اعتاد تسميته. لا يسمح عمله ولا مواعيد دراسة أولادهما بالجامعة أن يتحلقوا حول المائدة سوى في هذه الوجبة التى صارت آخر خطوط الترابط الأسرى. بدا مشغولا فبادرته مستفسرة عَلَّها تكشف ما به، فأجاب
- أبداً. كمال صديقى. يبحث عن زوجه منذ فترة ويلح فى مساعدته
- وزوجته؟!
- لا أدرى؟! .. لكنى استشعر توافقاً بينهما حول الموضوع. ألمح إلى ذلك
- عينى عليك يا نورا
- طلب مساعدتى
كانت زوجته قد تعرفت على نورا منذ سنوات طويلة في رحلة نيلية جمعتهما من القاهرة للأقصر، اتصلت علاقتهما قليلاً ثم لم تلبث أن انقطعت إلا من أخبار متقطعة تسمعها بين حين وآخر. كعادتها، انشغلت زوجته بأعمال البيت عن طلب صديقه فصار يُذكِرها بالإشارة مرة وعن عمد مرات أخرى فتعتذر حيناً وتَعرِض عليه، عبر شاشة هاتفها المحمول، صور لسيدات ترملن أو طُلقن أو عَنِسْنْ، حيناً آخر. تحدثت عن مزايا كل منهن واعتبارات ذكرتها بعضهن، أملاً في جذب مزيد من الخُطاب، فيما بدت طلباتهن ساذجة تدعو للرثاء والشفقة. استبعد بعضهن ووعد بعرض البعض على صديقه.
ذات يوم، وبينما كان يتناولان الشاى تطرق الكلام إلى الحديث عن الجيران وسكان العمارة، ألقى الجريدة جانباً كمن تذكر شيئاً فجأة، ثم قال
- أحلام؟ ..
- أى أحلام؟
- أحلام جارتنا في الدور الثالث !!
- ما بها؟
- هل تزوجت أم ما زالت أرملة؟
فأجابت وكأنها استوعبت ما يرمى إليه واستحسنته، (هل تقصد كمال ... عروسة لكمال؟ .. أى والله !!)، فأمن على كلامها. بعد يومين عرضت عليه صورتها. افتر ثغره عن ابتسامة وشكرها على صنيعها ثم سألها عن رد أحلام حين عرضت عليها فكرة الزواج وانفرجت أساريره حين أخبرته ترحيبها ثم عقبت (ما زالت صغيرة)، هز محمود رأسه مؤيداً فيما راح خياله يمضغ صورة أحلام على مهل.
ما زالت تحتفظ بجمالها رغم وفاة زوجها منذ عدة سنوات. تركها وحيدة بلا أطفال. تخطت الثلاثين بقليل. أحياناً، يلقاها في المدخل صدفة، فيلقى السلام مولياً إياها شطر وجهه. لم ينظر في وجهها كما رآه يوم المصعد والآن في صورتها المضيئة على الشاشة. تفضح شفتاها أنوثتها وينم وجهها عن جمال فطرى يخفى ويخبر عن مكنونها الشيء الكثير.
راوح في الأيام التالية رسولاً بين كمال من جهة وزوجته وأحلام من جهة أخرى. يبلغ زوجته الرسالة فتعود بالإجابة من أحلام، أو يرافقها ليعرض عليها ويستفسر منها وينقل إلى صديقه. ثم يصمت اليومين أو الثلاثة فإذا سألته (هل من جديد؟)، أجابها أن كمال لم يحسم أمره بعد.
في لحظات وحدته وشروده يستشعر شيئاً خفياً، غاب عنه منذ سنين. عاوده الحنين. تغيرت زوجته وتغير. اختلفا على قائمة الأولويات. لم يجن من جهوده المضنية لتنبيهها، باللين مرة وبالشدة مرة أخرى، سوى علاقة غير منتظمة يؤطرها التوتر فآثر السلامة ونسيان الأمر، فضلت دور مديرة المنزل وأيقن نسيانها دور الزوجة. راح يدفن آلامه في عمله، يعطيه كل وقته ويستنفذ فيه جهده.
على خلاف باقى الصور نسخ صورة أحلام إلى قسم خصوصياته على الهاتف، يسترجعها من حين لآخر، يتأملها، يمشى بأصابعه على ملامحها. صارت تُلح على تفكيره ويلهو بها خياله في وحدته. تمنى أن يفاتحها فيما يفكر فيه، أن يصارحها، يخبرها أنه اخترع قصة كمال المزعوم ليعرف رأيها في الزواج. ود لو أخبرها أن كل الأسئلة التى نسبها إلى كمال إنما هى أسئلته هو. هل تغفر له. هل تقبل منه. هل تظل على رأيها عندما تعرف أنه هو كمال وأن لا كمال سواه.
أى عذاب هذا. وأى فخ رمى نفسه فيه. وقع في هواها منذ التقيا فى المدخل، هى قادمة من عملها وهو ينتظر الحارس ريثما يغلق باب المصعد المعلق في الدور السادس. تجاذبا الحديث وتمنى في داخله أن يتعطل المصعد وتمنى ألا يأتى مطلقاً، ثم إذا ما استقر وفتح الحارس بابه داعبه ثم صعدا معا، اكملا حديثاً ما لبث أن بتره توقف المصعد فى الطابق الثالث، فخرجت مودعة ليكمل صعوده إلى شقته متقوقعاً في شرنقة حضورها، مستنشقاً بقايا عطرها. ما زالت صورتها تلك محفورة بداخله. بهية. شهية، فيما بدا هو تائهاً لا يدرى من أين يمضى.
ذات صباح، مرت أحلام على جيرانها مودعة بينما العمال منهمكون في نقل أثاث بيتها إلى السيارة الجاثمة أمام مدخل العمارة. أكدوا عليها استمرار التواصل وأكدت عليهم بدورها. سألت نفسها، (أين كانوا حين كنت بينهم، حتى يتذكروني وقد غادرتهم). سلمت عليهم من باب الواجب ليس إلا. ليالى طويلة قضتها بين جدران شقتها وحيدة تتلقى كلمات الاعتذار عبر الهاتف وبرامج التواصل الاجتماعى عن عدم قدرتهم مصاحبتها في أحد المشاوير أو حتى شرب فنجان قهوة معها في شقتها، حجج روتينية مكررة تصلح لكل زمان ومكان، شغل البيت، مذاكرة الأولاد، تعب مفاجئ، وغيرها مما لا ينضب معينه لكل غير مهتم.
في الحى الجديد، راحت تراجع مع أختها الكبرى إلهام ترتيب الأثاث، باعت غرفة نومها واشترت أخرى جديدة وغيرت بعض القطع. انسابت موسيقى هادئة في الشقة المتلألئة. رغم صغر مساحتها، بدت جميلة متناسقة. حاولت قدر جهدها أن تنتهى من وضع لمساتها الأخيرة على الشقة. اقتربت الساعة من السابعة مساءً ودعتها أختها على الباب. وشوشتها فضحكت وضربتها برفق على كتفها. هنأتها وتمنت لها ليلة سعيدة بعد ما قرصتها بلطف في خدها. نظرت في عينيها وهمست بتوسل "أدعى لي"، فأجابتها بصوت أم أقرب منه إلى أخت كبرى "ربنا يهنيكم".
أغلقت الباب. وضعت باقة الورد في منتصف غرفة الاستقبال واتجهت إلى غرفة نومها. أخرجت قميصاً تآمر مع جسدها على إظهار مفاتنة، بعضاً من مساحيق هنا، وكحل وعطر هنا وهناك. رن جرس الباب. تسارعت نبضات قلبها. ألقت نظرة سريعة على جسدها في المرآة فاطمأنت. نظرت من ثقب الباب. ثم فتحت. دخل محمود ملقياً تحية المساء. وقعت عيناه على بوكيه الورد. قرأ الكارت "ألف مبروك للعروسين ... إلهام". نظر نحوها في حب وحنان، بادرته قائلة "أخيراً. صار لنا بيتنا الخاص"، نظر نحوها صامتاً مبتسماً، "أشعر أننى الآن حرة وأن لا عيون تراقبنى". همس في أذنها "مبروك"، أجابته بخجل مصطنع وغنج فطرى "مبروك لينا"، فى الخلفية كانت الشمعتان اللتان أوقدتهما حول باقة الورد تحترقان وتذوبان دون صخب.
---------------------
قصة: محمد مصطفى الخياط
[email protected]
اللوحة للرسام الفرنسي “ديلفن اونجلرا”