كادت كلمات الرئيس عن ثورة يناير، تتطابق مع كلمات وزير داخلية مبارك المُدان بالاختلاس.
بدا فخامته وكأنه يزيح عن صدره مشاعر مكبوتة .. اجتهد لإخفائها من قبل .. مع أنها لم تكن خافيةً بالمرة .. فكما أن (الصَبُّ تفضحه عيونه) .. فإن الكارِه (بمفهوم المخالفة) يفضحه لسانُه وتصرفاتُه .. تحرر الرجل أخيراً من عباءاتٍ أثقل جسدَه بارتدائها ولَم يعد يطيقها بعد أن دانت له المقادير (أو هكذا يظن) .. عباءة الناصرية مع الناصريين، واليسارية مع اليساريين، واليمينية مع اليمينيين، والصوفية مع الصوفيين، .. وهكذا .. أما عباءة يناير فظل يرتديها طوال الوقت .. وهى عباءةٌ لو تعلمون ثقيلةٌ.
الرجل الذى طلب من المصريين من قبل ألا يستمعوا إلا لما يقوله .. يظن أن بمقدوره أن يؤلف تاريخاً غير الذى عايشوه .. ولأنه امتلك الميكروفون ظنَّ أنه امتلك الحقيقة.
إن الثورات لا تحتاج إلى صك الاعتماد أو ختم النسر من أحد .. لا سيما إذا كان من أعدائها.
الحقيقة عايشها ملايين المصريين فى ميادين الثورة .. ذكرتُ مثالاً لها من قبل عندما ظللتُ أتنقل بين الأغطية البلاستيكية التى احتمى بها آلاف الفقراء القادمين من خارج القاهرة .. الذين لم ينخرطوا فى العمل السياسى من قبل ولكنهم ضَجُّوا بالفساد الفاجر فلما أومضت شرارة الثورة تدفقوا على الميدان وتمسكوا به كملاذٍ أخيرٍ لإنهاء الكابوس الجاثم .. ولم يكن فى حسبانهم أن يستمر الاعتصام .. كان فى جيبى أكثر من أربعة عشر ألف جنيهاً من فاعل خيرٍ لتوزيعها على أولئك الأرزقية .. الذين كانوا يقتاتون على قُرَص الجبن والعجوة التى يوزعها فَعَلةُ خيرٍ أخرون .. كلما تأكدت من استحقاق أحدهم وانتحيتُ به جانباً لأدُس فى يده هدية إخوته الميسورين خارج الميدان، رفض بشدة وطفرت من عينه دمعة تعفف .. وتكرر نفس المشهد وطفرت نفس الدمعة من مئات العيون .. من بعد صلاة العشاء إلى أن عُدتُ بعد الضحى لعيادة الدكتور عبد الجليل على مشارف الميدان .. عُدتُ بالمبلغ كاملاً لم ينقص منه جنيه واحد.
كانت أيام الثورة هى المرآة الحقيقية لهذا الشعب العظيم .. كان ميداناً بلا خطيئةً .. وتناقلت الدنيا صور جورج ومينا وغيرهم واقفين يحرسون إخوتهم المسلمين أثناء صلاتهم .. وتابع الجميع كيف أن كنيسةً واحدةً فى مصر لم تتعرض لاعتداء رغم انسحاب الحراسة الأمنية عنها .. أول شعبٍ فى التاريخ يثور وهو يغنى، ويرسم على الأرض والجدران، ويضحك ويؤلف النكات والإفيهات على ظالميه بدلاً من أن يعدمهم أو يسحلهم ... أما الخلط المتعمد بين الثورة وأعدائها فكذبٌ وجريمة .. فالشعب الثائر لم يخرب مبنى، وإنما الذى فعل ذلك هو العصابات المنظمة (أو الموجهة) التى استغلت الغياب المريب للأمن .. والشعب الثائر الأعزل لم يطلق رصاصة .. وإنما تلقى الرصاص فى صدره وعيونه فى ميادين التحرير وأُلقيت عليه أسطوانات الغاز المشتعلة واستشهد ثمانمائة من أبنائه .. أشار تقرير تقصى الحقائق الأول بأصابع الاتهام بوضوحٍ لقاتليهم .. والشعب الثائر لم يهدم الدولة وإنما اصطف شبابه درعاً بشرياً يحمى المتحف المصرى من لصوص الآثار من أركان النظام السابق.
ثم إن هذه الثورة لم تحكم يوماً لكى تُحاسَب على ما آلت إليه الأوضاع فى مصر الآن .. لا الثورة هى التى فتحت باب الاستدانة على البحرى .. ولا هى التى سلمت مقادير مصر للبنك والصندوق الدوليين .. ولَم تبع مصنعاً رابحاً ولا خاسراً .. ولَم تهدر الموارد المحدودة على مشاريع لا طائل منها .. ولَم تخنق الحريات وتُخرس الأقلام والإعلام .. ولَم ترتكب المذابح الجماعية والفردية .. ولَم تملأ السجون بمعارضيها .. ولم تصدر قانوناً فضائحياً لرد الاعتبار للصوص المال العام .. ولم تؤمم الانتخابات الرئاسية (وكل الانتخابات) لصالح مرشحٍ بعينه .. ولم تُهندس برلماناً كوميدياً ليس له شبيهٌ حتى فى أكثر النُظُمِ شموليةً .. والأهم أنها لم تفرط فى شبرٍ واحدٍ من الأرض المصرية.
إن الثورات الشعبية شئٌ نادرٌ فى التاريخ الإنساني .. لكن الثورة المصرية أطهرها وأجملها وأكثرها تحضراً على الإطلاق .. وما يحدث لها من رِدَّةٍ وانقضاضٍ حدث لكل الثورات من قبل .. بل إن الثورة الفرنسية حدث لها ما هو أقسى .. لا الثورات تستمر ولا الثورات المضادة أيضاً .. الذى يبقى فى النهاية من الثورات قِيَمُها ومبادؤها .. الحرية والإخاء والمساواة فى فرنسا .. والكفاية والحرية والكرامة الإنسانية فى مصر.. ولو بعد حين.
هذه الثورة لا يضيرها أن يكرهها القتلة ووزراء السخرة ولصوص المال العام وتجار الآثار وعبيد (الرز) والروليكس فهذا من طبائع الأشياء .. ولكن العار والوحل يلطخان من يختار أن يصطف مع هؤلاء على نسقٍ واحدٍ.
---------------------
(يحيى حسين عبد الهادى- ٦ نوفمبر ٢٠١٨)