منذ انفجار قضية اختفاء الصحفى "جمال جاشقجى" داخل القنصلية السعودية فى اسطنبول، ثم تكشف تفاصيل مقتله، كانت التسريبات الإعلامية هى البطل الأساسى وراء المعلومات التى تسربت عن القصة، وبدلا من أى تصريح رسمى مباشر من السلطات، انطلقت المعلومات واحدة وراء أخرى عبر صحيفتين تركيتين يُعرف على نطاق واسع قربهما من الحكومة، والأكثر من ذلك أنه قبل هذه القضية كانت تغطية الصحيفتان تتهمان بعدم المهنية خاصة فى القضايا التى تخالف وجهة النظر التركية الرسمية.
على مدار أيام طويلة كانت صحيفتا "ينى شفق" و"صباح" هما المصدر الأساسى لكل المعلومات التى تسربت حول تفاصيل القضية، وكان لافتا للنظر أن صحفا دولية كبرى مثل "واشنطون بوست" التى كتب فيها خاشقجى على مدار عام كامل، و"نيويورك تايمز" اعتمدتا فى لحظات كثيرة على المعلومات التى نشرتها للمرة الأولى تلك الصحيفتان.
وبحسب الخبراء، فإن "ينى شفق" و"صباح" هما أكبر وأقرب صحيفتين فى تركيا للحكومة والرئيس أردوغان، وفى السنوات الأخيرة قامت الصحيفتان بتوفير تغطية شاملة -غير نقدية- لجميع أنشطة أردوغان، وقامتا بدعمه فى الانتخابات والاستفتاء، كما تكتب قائمة طويلة من كتاب الأعمدة البارزين المؤيدين بوضوح للحكومة فى الصحيفتين، مع إبعاد الكتاب المنتقدين أو المشككين.
وتشتهر الصحيفتان بالعديد من القصص التى تتحدث عن نظريات المؤامرة الدولية التى تستهدف تركيا وأردوغان، ورغم ذلك كله، نشرت "ينى شفق" عنوانا عريضا فى صدر صفحتها الأولى يقول: "العالم كله يتحدث عن ينى شفق" ومعه صور لنماذج من الصحف الدولية التى اقتبست من معلومات الصحيفة التركية.
من ناحية الملكية، تبدو صلات الصحيفتين أكثر وضوحا بالحكومة التركية، حيث تنتمى صحيفة "صباح" إلى مجموعة "توركفاز ميديا" التى تضم أيضا قنوات ATV و A Haber، كما تمتلك أيضا عددا من الصحف الصغيرة. ومنذ عام 2013، أصبحت "توركفاز ميديا" تحت مظلة مجموعة "زيرف" القابضة، وجزءا من مجموعة "كاليون". قبل ذلك كانت مملوكة لـ"تشاليك" القابضة تحت رئاسة وزير الخزانة والمالية الحالى، "بيرات البيرق" صهر أردوغان. وكلا من مجموعتى "كاليون" و"تشاليك" فازتا بالعديد من العقود لتنفيذ مشروعات بنية تحتية فى مجالات الطرق والطاقة لصالح الحكومة التركية فى السنوات الأخيرة.
أما صحيفة "ينى شفق" (الفجر الجديد) فيملكها منذ عام 1997 مجموعة "البيرق" (لا علاقة لها ببيرات البيرق)، ويرأس تحريرها "إبراهيم كاراجول" منذ عام 2012، وهو شخصية بارزة فى المجتمع التركى، حيث تظهر صورته غالبا بين الصحفيين داخل الطائرة الرئاسية أثناء سفريات أردوغان الخارجية. واكتسب شهرة واسعة عبر العديد من مقالات الرأى التى تتحدث عن إدعاءات خرافية حول مؤامرات تستهدف قيادة أردوغان للعالم الإسلامى!
وقبل الشهرة العالمية الكبرى التى اكتسبتها كلتا الصحيفتين فى تغطية قضية "خاشقجى"، اتُهمت كلا من "ينى شفق" و"صباح" بنشر الكثير من التقارير الإخبارية الملفقة فى عدد من المناسبات. خلال مظاهرات Gezi المعارضة للحكومة فى 2013، نشرت "ينى شفق" مقابلة مع المفكر الأمريكى الشهير "نعوم تشومسكى" دافع فيها بقوة عن أردوغان. ونشرت فيما بعد ما قالت أنه المراسلات الأصلية باللغة الإنجليزية الخاصة بالحوار مع تشومسكى، والتى تضمنت الكثير من أخطاء القواعد النحوية الانجليزية، إلا أن تشومسكى أكد أن المقابلة المنشورة " تتضمن افتراءات، ولم تكن ترجمة دقيقة أو مخلصة لردودى المكتوبة". أيضا، وخلال احتجاجات 2013، قامت صحيفتا "صباح" و"ينى شفق" باتباع خطوات جريدة "ستار" المؤيدة للحكومة فى نشر قصة "غريبة" حول سيدة شابة تدعى تعرضها لتحرشات جماعية من المتظاهرين.
وقالت المرأة، أن عصابة مكونة من نحو 70 شخصا نصف عراة، يرتدون بنطلونات جلدية قاموا بالتبول عليها وعلى طفلها وسط احتجاجات شوارع اسطنبول!. لاحقا، تم كشف حقيقة هذه السيدة والتى اتضح أنها زوجة ابن عمدة البلدية من حزب العدالة والتنمية الحاكم، ووعد المسئولين بتقديم صور من واقعة التحرش وإتاحتها للنشر العام، ولكن هذا الأمر لم يحدث أبدا. أما المحررون الذين كتبوا القصة الأساسية للمرة الأولى فقد اعترفوا لاحقا أن القصة بأكملها ملفقة.
مثل هذه الحالات المختلفة، ألقت ظلال من الشك على تغطية الصحيفتين فى حادث خاشقجى، إلا أنه على العكس من التغطيات السابقة كان من الواضح أن التسريبات الحكومية كانت دقيقة هذه المرة، لدرجة أن الصحيفتين اللتان اتهمتا كثيرا بترويج أخبار كاذبة نجحتا هذه المرة فى الاختبار.
وبالإضافة لبروز ما يمكن أن نطلق عليه "صحافة التسريبات"، كانت قضية "خاشقجى" مركزا لحروب وصراعات الأخبار الزائفة على الشبكات الاجتماعية كما رصد موقع Poynter، خاصة وأن هذه القضية تميزت بالأبعاد السياسية المتعددة الأمر الذى جعلها فرصة ملائمة لطوفان من المعلومات المضللة التى اجتاحت شبكة الإنترنت.
خلال أيام قليلة من اختفاء الصحفى، نشطت العديد من نظريات المؤامرة التى تبناها فى الأغلب سعوديون، والتى كان على رأسها الحديث أن السيدة التى ادعت أنها خطيبة خاشقجى لم تكن كذلك فى الحقيقة، بل إنها كانت أحد أطراف مؤامرة تستهدف تشويه سمعة المخابرات التركية والأمريكية والسعودية. وسقطت أسماء كبيرة فى فخ التغطية المتعجلة مثلما حدث مع وكالة "رويترز" للأنباء التى بثت خبر إقالة القنصل السعودى فى تركيا، والذى تبين أنه خبر ظهر فى موقع أخبار كاذبة ادعى أنه موقع إخبارى سعودى شهير.
بينما قامت عشرات الحسابات بترويج فيديو أمريكى لأحد معتنقى نظرية المؤامرة الذى ظهر فى الفيديو وهو يرتدى "مصفاة" فوق رأسه. فى تلك الأيام هددت الحكومة السعودية أى شخص يقوم بنشر "الأخبار الكاذبة" عبر الإنترنت بالوقوع تحت طائلة قانون العقوبات.
ولكن المثير، أن أكثر المعلومات المضللة حول القضية جاءت من حساب مزيف يزعم أنه مخصص لفحص الحقائق. حمل هذا الموقع اسم "حراس الشرق الأوسط"، وظهر حسابه على تويتر منذ سبتمبر فقط، قام هذا الحساب بزعم فحص التقارير الإعلامية المتداولة ومنها نشر صورة لخاشقجى مع خطيبته وادعى أن صورة الخطيبة أضيفت إلى الصورة الأصلية كجزء من المؤامرة التى تستهدف تشويه صورة السعودية.
إلا أن خبيرا فى تحليل الصور، أكد أن الصورة التى نشرها "موقع التحقق" هى صورة مزيفة ومصنوعة، وبعدها أوقف تويتر هذا الحساب. وبصرف النظر عن عناصر المعلومات الخاطئة الكلاسيكية التى تتعلق بالأخبار المتداولة، فإن الإعصار الذى صاحب هذه الحادثة هو مثال جيد على الكيفية التى يتزايد بها المضللون ومرجوا الأكاذيب باعتبارهم "مدققين للمعلومات" لخداع الجمهور عبر الإنترنت.
قبل عدة أسابيع، أرسل "لورانس لوير" وهو باحث مساعد فى جامعة دوسبيرج-ايسين بألمانيا بريدا الكترونيا "شبكة تدقيق المعلومات الدولية" ICFN يطلب منهم بعض الأمثلة من "مواقع التدقيق" المزيفة، وحصل على عدة إجابات مثيرة. أولا، هناك مواقع "تحقق" ساخرة، مثل ذلك الموقع الذى يديره مروج الأكاذيب الأمريكي "كريستوفر بلير" والذى يدعى No Fake News Online، وهذا الموقع كان ثمرة موقع شبيه يسمى NFNO والذى يستهدف موقع Snopes كجزء من عداوة مستمرة بين الموقعين. ثانيا، جاءت محاولات إضعاف مصداقية المواقع الحقيقية للتحقق من المعلومات.
ففى السويد، قام أحد مروجى نظرية المؤامرة بإنشاء موقع شبيه لموقع Faktiskt وذلك قبل إطلاق الموقع الشرعى بأسبوعين. ولم يكتف الموقع المزيف بانتقاد عمل الموقع الأصلى فى فحص الحقائق، ولكنه ذهب بعيدا لاستنتساخ اللوجو وبعض المقاطع من البياناتآ الصحفية الأصلية.
ثالثا، والأكثر شيوعا، هى المحاولات الحزبية لاستخدام مصطلح "التحقق من المعلومات" بعيدا عن معناه الحقيقى لإثبات نقطة معينة، أحد الأمثلة على هذا الوضع موقع الأخبار الزائفة The California Republican الذى تديره حملة المرشح الجمهورى ديفن نونيز، والذى نشر "تحقق معلوماتى" من "مقال رأى" معارض للمرشح.
وهناك الكثير من النماذج الشبيهة التى يمكن ملاحظتها فى عدد من البلدان مثل كرواتيا وإيطاليا وإيران. وأخيرا، هناك المزيد من أدوات "التحقق" المزيفة، ففى 2017 نشر معهد بوينتر تقريا عن موقع تركى يدعى أنه يحقق المعلومات ونشر الكثير من المقالات التى تنكر حدوث إبادة جماعية للأرمن.
ورغم ذلك، تتزايد المحاولات للحد من انتشار الأخبار الزائفة، فمنذ أسبوعين اجتمع فى بيونس آيرس بالبرازيل أكثر من 60 خبيرا فى هذا المجال من أكثر من 38 منظمة فى 17 دولة لتبادل أفضل الخبرات وتشكيل جبهة موحدة لمواجهة هذا الخطر المتزايد، كما أكد بحث حديث متعمق قامت به وحدة مكافحة الأخبار الزائفة فى صحيفة لوموند أن التفاعل عبر فيس بوك مع مواقع الأخبار الزائفة يتراجع بشكل واضح. فى الوقت نفسه، أفاد تقرير نشرته الجارديان البريطانية أن البرازيل تكافح ما أسمته "تسونامى" المعلومات المضللة التى انطلقت الشهر الماضى مع انطلاق الانتخابات الرئاسية هناك، حيث قام فيس بوك بحذف العديد من الصحفات التى تنشر الأكاذيب، ولكن مؤسسة برازيلية مستقلة أكدت قيام المستخدمين بمشاركة ونشر معلومات زائفة 1.17 مليون مرة فى الأسبوع الأول من الانتخابات الرئاسية.
بينما أقر برلمان بنجلاديش قانونا يعاقب بالسجن على كل من ينشر "البروباجندا" حول حرب 1971 التى استقلت بها بنجلاديش عن باكستان، كما يمنع هذ القانون أيضا نشر المحتوى "العدوانى أو المخيف" الأمر الذى أثار المخاوف من إمكانية استخدام هذا النص لحصار الصحافة. هذا السرد يعطينا فكرة سريعة عن الحرب المعلوماتية التى تدور عبر شبكة الإنترنت، والتى تبلغ ذروتها مع الأحداث والقضايا الهامة أو المثيرة للجدل، الأمر الذى يضع على عاتق الصحفيين المزيد من الضغوط للتحقق من كل معلومة مهما بدت صغيرة قبل استخدامها فى التغطية الصحفية للقصة التى يعملون عليها، حتى لا تكون النتائج سلبية، وأحيانا كارثية.
______________
تقرير - إيهاب الزلاقي
حصري للنيوزليتر