يـُـعتبر المُـشير سوار الذهب (1934- 18أكتوبر2018) من النماذج النادرة فى تاريخ الشعوب، فإذا كانت القاعدة أنّ الحاكم (خاصة فى الدول الاستبدادية) لايستقيل فإنّ الاستثناء رفض الاستمرار فى السلطة، بالرغم من أنّ تقاليد المنظومة السياسية فى وطنه.. كانت تسمح له بالاستمرار.. ولكن سوارالذهب تمسّـك بوعده عندما تسلم السلطة عقب إنتفاضة إبريل 1985 التى أطاحتْ بالرئيس جعفر النميرى.. وبعد انتخابات عام 1986 سلم السلطة إلى حكومة الصادق المهدى المُـنتخبة.. وقرّر التفرغ للعمل الدعوى حيث شغل منصب رئيس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية.
وبغض النظر عن إتجاهاته الأيديولوجية (وهذا من حق أى إنسان) فقد كان يستطيع البقاء كرئيس للدولة.. وفى نفس الوقت يقوم بالتنسيق مع شركائه من ذات إتجاهه الأيديولوجى.. ولكنه احترم نفسه.. واحترم المنصب الذى استمد أهميته وجلالة شأنه من (قداسة الوطن)
وإذا كان التاريخ الحديث أثبت بعض النماذج (من المدنيين) رفضوا الاستمرار فى السلطة، بالرغم من حب الشعب لهم (مهاتير محمد- نموذجـًـا) وبعض النماذج النادرة فى أوروبا وأمريكا اللاتينية، فإنّ التنازل عن السلطة فى نظام عسكرى، مثل حالة السودان، يجعل من سوار الذهب، أقرب إلى الزاهد المُـتصوف.. ويؤكد أنّ تدينه كان عن إيمان حقيقى.. وليس قناعـًـا يتخفى وراءه.. كما فعل ويفعل كثيرون.
وإذا كان سوار الذهب قـدّم استقالته طواعية، فإنّ النموذج (النقيض) عمر البشير الذى قاد إنقلابـًـا ضد حكومة الصادق المهدى المُـنتخبة.. وفى 30 يوليو 1989 جلس على عرش السودان.. وبينما لم تــُـوجـه لسوار الذهب تهمة قتل الجماهير.. ولم يتعرّض للمثول أمام المحكمة الجنائية الدولية، حدث العكس مع البشير.. وكانت البداية مأساة 6مليون إنسان من إقليم دارفور.. وبدأ الصراع بين هؤلاء البشر وحكومة السودان منذ عام 2003.. ووفق ما ذكرته منظمة هيومن رايتس ووتش أنّ قوات الحكومة السودانية وإحدى الميلشيات الإثنية (الجنجويد) خاضتْ حربـًـا مع جماعتيْن مسلحتيْن هما حركة تحرير السودان وحركة العدالة والمساواة.. وفى سياق هذه الحرب قامت القوات الحكومية بشن حملة منهجية من التطهيرالعرقى ضد المدنيين.. وبين عاميْ 2003 ، 2005 أقدمتْ الحكومة وقوات الجنجويد على إحراق وتدمير مئات القرى والاغتصاب والاعتداء على آلاف النساء.. وأكــّـدتْ المنظمة أنّ استمرار تدهور الوضع فى دار فور يرجع إلى دعم الحكومة للميليشيات الإثنية والسماح بانتهاك القانون الدولى دون خوف من عقاب.. وقد أدى ذلك إلى هروب أكثرمن 2 مليون شخص إلى الدول المجاورة وقتل حوالى450 ألف إنسان، ناهيك عن العراقيل التى تضعها الحكومة أمام فرق الإغاثة والمنظمات الإنسانية لتوصيل المساعدات لنحو 3 مليون إنسان ظلوا فى دارفور.
وإذا كان البعض يحلو له التشكيك فى تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، فإنّ 31 منظمة حقوقية (عربية) أعربتْ يوم 16 سبتمبر 2004 عن قلقها إزاء ما يحدث من إبادة لأهالى دارفور.. وأنّ سياسة الحكومة أدّتْ إلى تفاقم الكارثة، خاصة وأنها لم تحترم إتفاقية أنجمينا لوقف إطلاق النار مع جماعتىْ المعارضة.. وأكد بيان المنظمات العربية أنّ تضامن منظمات حقوق الإنسان فى العالم العربى مع ضحايا دارفور يأتى دفاعًا.. وإنصافــًـا للضحايا المدنيين وانتصارًا للقانون الدولى.. وطالبوا فى نهاية البيان أنْ يُدعـّـم مجلس الأمن الإتحاد الإفريقى بزيادة عدد قواته. وتشكيل لجنة تحقيق دولية من الأمم المتحدة لتحديد المسئولية عن انتهاكات حقوق الإنسان فى دارفور.. وأنْ تــُـوقف الحكومة السودانية المضايقات التى تمارسها ضد نشطاء المجتمع المدنى والصحفيين.. وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين بسبب معارضتهم سياسة الحكومة ضد أهالى دارفور.. وأنْ تضع الحكومة حدًا للإفلات من العقاب.. وأنْ تــُـقـدم المتورطين فى انتهاكات حقوق الإنسان وقتل المدنيين للمحاكمة (مجلة سواسية مركزالقاهرة لدراسات حقوق الإنسان عدد59) وشكــّـك بعض السياسيين فى جدية الحكومة السودانية، لأنها خرقتْ إتفاقية أنجمينا لوقف إطلاق النار فى 8 إبريل 2004 بضرب مناطق جبل مرة ووادى صالح بعد أيام من التوقيع كما أنها أوقفتْ تدفق العون الإنسانى سواء تـمّ ذلك من القوات المسلحة (الحكومية) أومن الجنجويد الذين دمجتهم الحكومة السودانية فى قوات الدفاع الشعبى وحرس الحدود وفى القوات المسلحة (سواسية عدد70 ،71)
من هم الجنجويد؟ عرّفهم الكاتب السودانى عبدالرحمن عوض بأنّ الكلمة مأخوذة من قاطع طريق من عرب دارفور اسمه حامد جنجويد قام بالحرابة مع عصابته ضد القرى الافريقية من حرق ونهب عام 1885.. ولما نشأ تحالف بين 37 قبيلة عربية فى دارفور عام 87 إتهمتْ الحركة الشعبية لتحريرالسودان حكومات الصادق المهدى والبشير برعاية هذه القبائل العربية، التى بثتْ الرعب فى قلوب الأطفال والنساء الأفارقة (صحيفة القاهرة5/2/2008) المسكوت عنه فى الإعلام العربى أنّ القبائل العربية قتلتْ مئات الألوف من الأفارقة المسلمين الموحدين بنفس ديانة العرب.. فلماذا يقتل مسلمون موحدون مسلمين موحدين مثلهم؟ لأنّ القاتل عربى والقتيل إفريقى.. ولم يشفع الدين الواحد الذى يعتنقه القتيل والقاتل أنْ ينزع من الأخير رواسبه العنصرية العدوانية.. وهذه العنصرية عبـّـرعنها أ.فهمى هويدى حيث سخر من الذين اهتموا بدارفور.. وأصيبوا بالسكتة حين تعلق الأمر بالعرب والمسلمين، من فلسطين إلى شيشينيا (جريدة الشرق الأوسط 5 يوليو 2006)
وقفتْ حكومة البشير مع المجرمين ورفضتْ تسليمهم إلى المحكمة الدولية الجنائية. ولخّص أ.مازن شقورة (تونسى الجنسية) الخبير بالأمم المتحدة فى بيروت كمراقب لحقوق الإنسان لمدة قاربتْ 14شهرًا فى دارفور الوضع هناك قائلا ((إنه نزاع بين رعاة عرب ومزارعين أفارقة)) (نقلا أ.رجب سعد– سواسية عدد69)
إنّ المقارنة بين سوار الذهب وعمر البشير تضع أمام الباحث (صاحب الضمير الحى والعقل الحر) مفارقة حب السلطة (والأدق حب التسلط) حتى لوكان الجلوس على كرسى العرش تجاوز الثلاثين عامًـا.. وبين الزاهد فى السلطة (وبالتالى فى التسلط) وهى مفارقة تحتاج لعالم نفس على مستوى سيجموند فرويد أو يونج أو إريك فروم، لتحليل عقلية المُـتشبث بالسلطة..وقد أبدع شعبنا نكتة طوال الثمانية عشر يومًـا فى شهرطوبة/يناير 2011 عن سر رفض مبارك الرحيل.. والنكتة تتساءل: هوّه مبارك بيستخدم أى نوع من الغرا؟