22 - 08 - 2025

قراءة في قائمة "بوكر 2018" المختصرة (1 من 2): 6 روايات تختلف فى الزمان والمكان وتتفق فى نهر الأحزان

قراءة في قائمة

إطلالة على المشهد

تأسست الجائزة العالمية للرواية العربية والمعروفة اختصاراً "جائزة البوكر"، عام 2007 فى أبو ظبى بدعم مشترك بين الإمارات ومؤسسة بوكر البريطانية، لتكتسب مكانة مميزة على الصعيدين الثقافى والأدبى فى الوطن العربى مصدره حيادية التحكيم ومعاييره الجادة. والجائزة تعريب للأصلية، Booker، التى تمنح منذ عام 1968 لأحسن الروايات المكتوبة باللغة الإنجليزية سواء فى المملكة المتحدة أو دول الكومنولث التابعة لها. على ذات النهج، هناك جائزة البوكر الروسية عام 1992 للكاتبين بذات اللغة، وجائزة كين للكتابة الإفريقية Caine Prize for African Writing، وتمنح لأفضل القصص القصيرة فى إفريقيا شريطة ان تكتب بالإنجليزية، وفاز بها العديد من الكتاب الأفارقة من السودان، وكينيا، ونيجيريا وجنوب إفريقيا.

من خلال الشراكة الإماراتية الإنجليزية، فُتحت أبواب التكريم والشهرة للروائيين العرب، والذين عرفت الجائزة بينهم اختصاراً باسم (بوكر العربية). عبر السنوات الأحد عشر الماضية، فاز كتاب متميزون، ونافس عليها آخرون لا يقلون تميزاً. من هنا تكتسب روايات القائمة المختصرة قيمة عالية لا تقل عن الرواية المنتخبة من بينها للفوز بالجائزة. فطبقاً للشروط، يُعلن عن القائمة الطويلة، والتى تضم عادة ستة عشر رواية فى يناير من كل عام، بينما تُعلن القائمة القصيرة، لا تزيد عن ست روايات، مطلع الربيع، ثم تعلن الرواية الفائزة.

كُتاب كثيرون فازوا بالجائزة، من مصر بهاء طاهر عن روايته واحة الغروب ويوسف زيدان عن عزازيل. من السعودية عبده خال عن ترمى بشرر ورجاء عالم عن طوق الحمامة ومحمد حسن علوان عن رائعته موتٌ صغير. ومن المغرب محمد الأشعرى عن القوس والفراشة، ومن الكويت سعود السنعوسى عن روايته الأشهر ساق البامبو.

يحصل الفائز بالجائزة على مكافأة مالية قدرها خمسين ألف دولار، بينما يحصل كل مرشح للقائمة القصيرة على عشرة آلاف دولار. ترشحت هذا العام ست روايات للقائمة القصيرة، الحالة الحرجة للمدعو ك. لعزيز محمد – السعودية، حرب الكلب الثانية للكاتب إبراهيم نصر الله – الأردن/فلسطين، الفائز بالجائزة، الخائفون للروائية ديمة ونوس – سوريا، ساعة بغداد للكاتبة شهد الراوي – العراق، وارث الشواهد لوليد الشرفا – فلسطين، بالإضافة إلى رواية أمير تاج السر، زهور تأكلها النار، والذى سبق له الترشح عام 2011 بروايته صائد اليرقات.

ست روايات من ست دول عربية، لكل منها صبغتها، أحزانها الخاصة، حبكتها الدرامية، مفرداتها، جغرافيتها وتاريخها. ست روايات تختلف فى الزمان والمكان وتتفق فى نهر الأحزان المتدفق من الخليج إلى المحيط. تقمص فيها الكُتاب دور الرواة، ثلاث بصيغة المذكر، وثلاث بصيغة المؤنث، ديمة وشهد، يضاف إليهما حكى أمير عن زهور أكلتها نيران ثورة المتقى بلسان خميلة، بطلة روايته.

فى العام الماضى، أفردنا أكثر من مقال لكتابات محمد حسن علوان، القندس، وأى قلب ملكوا، وكذلك رواية سعد محمد رحيم (مقتل بائع الكتب) فى مقارنة بينه وبين ما كتبه توفيق الحكيم فى عصفور من الشرق والطيب صالح فى روايته موسم الهجرة إلى الشمال، ثم مقال آخر فى وداع سعد بعد رحيله (وداعاً سعد محمد رحيم). 

فى هذا العام، نستعرض سوياً روايات القائمة المختصرة، دون ترتيب مقصود، فالكتابة عن رواية قبل أخرى لا يعنى تميزها قدر ما يعنى كتابة مقال عن كل عمل، ثم بعد ذلك نُعَرِج إلى إطلالة عامة على مشهد روايات البوكر.

زهور تأكلها النار 

أمير تاج السر

يمتلك أمير موهبة كبيرة فى الكتابة وقدرة فذة على جذب القارئ إلى عالمه الخاص ومفرداته السحرية المعجونة بتراث وخصوصية الأرض والمكان، تماما كما فعل خاله الرائع الطيب صالح، أهم روائى سودانى. أصدر أمير عدة روايات منها توترات القبطى، والتى تعد مجازاً الجزء الأول لرواية زهور تأكلها النار، فكلاهما عن فترة الثورة المهدية، 1881، الأولى بلسان ميخائيل أو سعد المبروك، بعد الثورة، بينما تحكى الثانية عن أثرها على النساء بلسان خميلة المولودة لأب سودانى شديد السمرة وأم إيطالية شقراء ناصعة البياض، عبرا معاً عن لقاء الجنوب والشمال، فكانت هى نقطة اللقاء.

نشأت خميلة لعائلة قبطية محافظة في مدينة السور بغرب السودان، والمحاطة بكثير من نكرات القرى، يسودها الفوضى والتخلف والجهل. يحكمها وال تركى عجوز ومتعجرف. كعادة الأغنياء، أرسلها والدها، تاجر الذرة الشهير، لتدرس علم الجمال فى مصر عادت بعدها إلى مدينتها لتقع في حب ميخائيل رجائى، محاسب بديوان المدينة، والذى يتقدم لخطبتها فيما بعد. 

تبدو المدينة، رغم بعدها عن العاصمة، فريدة بمزيجها الإنساني وأجناسها المتباينة، حاكم تركى، أم إيطالية، صائغ يهودى، وبعض البوذيين، وسكان تتباين مشاربهم وعاداتهم، مغنون، وشعراء، وقس وشيخ يرعى كل منهم ابناء طائفته، ومبشرة فرنسية، ومستشرقون عبروا المدينة، جيوفاني الإيطالي، وملهم عبيدو السنغالى، وهاساى تينو الإثيوبى، وساحر هندى. أخلاط من ثقافات وديانات ومذاهب انصهرت فيما بينها فما عدت تدرى أصل عاداتهم وتقاليدهم.آ آ  

تمضى الأيام على وتيرتها ورتابتها، مدينة تختزل الكون وخطيبة مزهوة بخطيبها يقضيان الأيام في فرش البيت والإعداد للزفاف ومناقشة تفاصيل العُرس. من يغنى. من ينشد. من يطهو. أى أصناف تقدم. قائمة المدعوين. تفاصيل كثيرة لكنها جميلة. 

على غير عادته، يزورها ميخائيل صباحاً، ويخبرها ان ثمة ثورة قد اندلعت في المدن المجاورة بقيادة رجل يدعى (المتقى) يتبعه جياع اطلق عليهم الجهاديين، ينتهكون القرى، بيوتاً وحقولاً. يشترون الغفران بالدم. قسموا البلد إلى معسكرين، الإيمان ويمثله المتقى وتابعوه، والكفر ويمثله كل من لا ينضم إليهم، حتى لو كانوا مسلمين. 

يوماً بعد يوم تنذر الأحداث بكارثة. تنتشر الفوضى كأفعى تزحف في ثقة، أو عنكبوت ينسج بيته على خرائب البوم. قتلى في الشوارع بلا سبب. رجال يختفون ثم تأتى الأخبار بانضمامهم إلى المتقى. سُبيت النساء دون تمييز وأُسر ميخائيل ضمن مئات الرجال، فيما اختفى والد خميلة من دون أثر أو خبر. مُنحت كل امرأة اسماً جديداً يتناسب ودعوة المتقى، سميت خميلة نعناعة، وأُطلقت اسماء أخرى على فتيات ونساء المدينة، الخنساء، اسماء، رُقية، وغيرها. 

تحكى خميلة كيف أحرقت نار المتقى زهور/نساء المدينة والحياة الجديدة التى صنعتها ثورته. جنة موعودة، تختصر فى سبايا يُكافئ بهن الثوار ثمناً لإخلاصهم. انتصارات تقاس بما يُهدم من مظاهر الحضارة الحديثة وحذف مفرداتوعادات ألِفها بنى البشر منذ سعوا على هذه الأرض، تقاليدهم، عاداتهم، أعرافهم، أفراحهم، أحزانهم، تحول كل شيء إلى ماض ملعون يسعون إلى بتره خلافاً لوصفه بالجاهلية.

نجح أمير فى سرده شبه الذاتى بلسان خميلة لتبعات ثورة المهدى فى السودان وكأنه يتحدث عن عالم اليوم باستبدال أبو بكر البغدادى، وأسامة بن لادن، وأيمن الظواهرى بالمتقى. للأسف رغم مرور عشرات السنين ما زل الوطن العربى عصياً على تلافى ذات المسارات الخاطئة، حريصاً على إعادة التجربة والاكتفاء بتغيير الأسماء.


الحالة الحرجة للمدعو ك. - عزيز محمد

بحرفية تخطو الرواية السعودية فى فضاء الأدب العربى. فى العام الماضى فاز محمد حسن علوان بجائزة البوكر عن روايته موت صغير، فيما نافس عزيز محمد، هذا العام.بمهارة غير مُخلة يشير عزيز إلى تأثره بالكاتب التشيكى فرانز كافكا، مبرراً ظلال القلق فى روايته. لم أقرأ كافكا واكتفيت بما سمعته عن أفكاره السوداء، خاصة بعد قراءتي رواية الدفتر الكبير للمجرية آجوتا كريستوف المكتظة بالسادية فقررت الانصراف عن كافكا ومن والاه مكتفياً بملح الأيام.

تدور الراوية عن شاب، ك.، نشأ فى أسرة متوسطة الحال يرعاها الجد بعد وفاة الأب. تزوجت اخته من ثرى وسعت لزواج أخاهما الآخر من فتاة ثرية أيضاً. تنظر الأسرة إلى الشاب كفرد كسول بليد المشاعر إلا أمه التى ما فتأت تندب حظها وتغسل أحزانها بدموعها. أيضاً، تتسم علاقته بزملاء العمل بالتوتر، فمن ناحية يبغض العمل ومن ناحية أخرى ما زالت خبرته محدودة مع عمله الجديد.

مؤخراً، ينتابه إحساس دائم بالإجهاد والزهد فى الطعام حتى غاب عن الوعى ونقل للمستشفى ليكتشف أصابته بمرض خبيث فى الدم لتبدأ رحلة العلاج، ثلاثة أيام متتالية كل أول شهر يتناول فيها علاجاً كيميائياً يدمر خلاياه، السليمة والسرطانية، بعدها يمنح الجسم فرصة إعادة البناء. عاش عذابات تبعات العلاج جسمانياً ونفسياً وتداخل الواقع بالأحلام. قضى فترات طويلة بنصف وعى وعاش فى مناطق رخوة من الوجود والغيبوبة. يتأمل الاطباء والممرضات ويتعجب كيف لا يغيب طابعهم الإنساني عنهم، فما أن ينتهوا من فحص مرضاهم حتى ينهمكوا فى مشاكلهم الخاصة، دروس الأولاد وارتفاع الأسعار وعناء المواصلات.

اعتاد، ما اتيح له القدرة، أن يسجل يوميات عذاباته، ردود فعل الاطباء، الممرضات، الأقارب، الأهل، الزوار، زملاء العمل، رئيس المصلحة تجاه مريض السرطان. كما انتهزها فرصة ليُسمعهم كل ما كان يود قوله لهم سابقاً ومنعه الحياء. الآن يسمعونه مذعنين وصامتين، يلتمسون له العذر يرجعون أفعاله إلى مرضه والدواء. حاول الجميع حثه على مزيد من الإيجابية مع مرض قل من ينجو منه.

فى نوبات غضبه يتمرد على الأدوية، ومواعيد الجلسات، يسخط عليه الجميع وتبقى أمه منقوعة العينين فى بحيرات دمع لا تعرف الجفاف صيفاً أو شتاءً. تفاقمت حالته الصحية وصار العلاج بالإشعاع حتمياً. صار أقرب إلى شبح. يصيبه الدوار من بضع خطوات. محبط. يلهو به المرض على أرجوحة اليأس والرجاء وإن جاهد كى يسجل يومياته ما استجمع قدرته وغالب تشوش ذهنه.

طالت اقامته فى المستشفى وتغيرت عليه الممرضات. الآن يشرف على علاجه ممرض من شرق آسيا، خمسينى العمر، ولأسباب لا يعلمها نشأت بينهما مودة، ببطء يستجيب للدواء. تحسن طفيف، لكنه ملحوظ. صباح يوم مشرق، ينصحه الطبيب بالسفر لليابان لبدء مرحلة من العلاج المناعى. نمط جديد من العلاج ما زال قيد التطوير، لكنه ساعد فى شفاء العديدين فيحزم حقائبه يحدوه العشم فى رحمن رحيم.

وارث الشواهد – وليد الشرفا

تدور أحداث الرواية بين نابلس وحيفا وبعض القرى الفلسطينية. يسترجع الراوى أحداث أسرته وقريته. قتل اليهود أبوه، مدرس التاريخ ودفنوه مع كتبه في إشارة إلى طمر التاريخ الفلسطينى وضياع الحقيقة. كونه بلا أخوه يطلق عليه الجيران لقب الوحيد.

مجازاً، تقسم الرواية إلى أربعة اقسام، الأول بلسان الوحيد. والثانى، يرويه صديقه بشارة، طبيب من عرب اسرائيل يقابله في امريكا فتنشأ بينهما صداقة وطيدة يبحث على إثرها عن أصوله الفلسطينية. بينما تحكى ريبكا جونسون، زوجة الوحيد وأم ابنته ليلى، القسم الثالث، كاتبة مسرحية تحكى عن زوجها ومأساته، ترى فيه مسيحاً/مخلصاً ينتظره العالم على شغف. ثم القسم الرابع، بلسان جوليانا، ابنة بشارة، نشأت ضمن اجيال يحملون جنسية إسرائيل ويتكلمون لغتها، يحتفلون باحتفالاتها ويأسفون لانكساراتها.

في الزنزانة القابعة على حدود البلدة يتذكر الوحيد الانتفاضة. خوف أمه عليه. نظرات جده. لحظات الوداع. ابتلاع الكلمات مع الدموع. رغم قسوة البعاد، فضلت أمه سفره للدراسة عن فقده مثلما فقدت أباه فيسافر إلى خاله ويقرر دراسة تاريخ الأساطير بعد ما عاش زيف الحاضر المكتوب بلغة القوة والجبروت. تتداعى الأفكار ويتذكر، شوارع الطفولة. الكنافة النابلسية الساخنة ولونها المتجمر. ابتهالات المسجد في العيد ورمضان والقباب الخضراء. ضجيج حياة الصباح. صوانى الشاى والقهوة. رائحة الخبز بالزيت، حتى رائحة التراب يذكرها ويشتاق إليها. 

بينما يحكى بشارة عن الناصرة والبيت الذى يضرب الموج جداره الغربى. عن شجرة الزيتون التى تُقبل فروعها شباك الدار. يقطفون ثمارها ويعصرون همومهم مع حباته. الزيتون ليس نهر زيت بل شريان حياة يتدفق في حنايا روح الفلسطينين. يحمل بشارة الجنسية الإسرائيلية كما خدم بعض أقاربه في جيش الدفاع. بعد لقاءه بالوحيد يعيد مراجعة أفكاره يعيد اكتشاف أصوله الفلسطينية ومحاولات تهويد المدن وطمس هويتها. تغيير اسماء الشوارع والميادين. استيلاء منظم على بيوت وتاريخ الفلسطينين. سُمى شارع عز الدين القسام آ بشارع العتصمئوت وتعني الاستقلال بالعبرية. استقلال اسرائيل. يتذكر بشارة ويضحك مدندناً، الأرض بتتكلم عربى الأرض الأرض الأرض".آ  

سرق اليهود حجارة المنازل وبنوا بها بيوتهم ومقاهيهم ومحال سُكرهم. يتجول الوحيد في المدينة الغريبة رغم أصولها العربية. يدخل دورة مياه. يواجهه حجر نُقش عليه اسم جده وسنة انشاء منزله، 1922. يثور. يحاول فصل الحجر عن الحائط. تمنعه الشرطة. يشتبك معهم. يصاب شرطى بإصابة بالغة تُفضى إلى موته فيُقبض عليه. 

يحاول بشارة مساعدة صديقه، يزور نابلس، يتشمم شوارعها وحوانيتها. يفطر كنافة نابلسية مع القهوة. يبحث عن الجذور. يعيد اكتشاف ذاته. يشترى صور صلاح خلف، وديع حداد، غسان كنفانى، كمال ناصر، خليل الوزير، وائل زعيتر، صبرى الشريف، اسماعيل الشموط، ناجى العلى، وغيرهم ممن ولدوا في القرى والمدن الفلسطينية حيفا، يافا، عكا، صفد، نابلس، وماتوا/اغتيلوا خارج الوطن وبقيت شواهد قبورهم تنتظر عودتهم. آ 

تستدعى الشرطة بشارة أكثر من مرة للشهادة. يؤكد للمرة الألف براءة الوحيد وأنه لم يكن يخطط لقتل الشرطى، سافر مودعاً زوجته وابنته لرؤية أمه وزيارة قبر جده ووالده، ثم العودة لأمريكا ثانية، مُرجعاً ما حدث إلى عنف الشرطى. هددوه، وتوعدوه، فرفض التخلى عن صديقه. وضعوه تحت الإقامة الجبرية ثم اعتقل بتهمة التواطؤ مع الوحيد وتأييد المخربين وتعليق صورهم فى بيته. 

تدون ابنته، جوليانا، وقائع المحاكمة، ينطلق بشارة فى دفاعه عن الوحيد وبيان عنصرية إسرائيل، يصرخ فيه القاضى ليصمت، يهدده بسحب جنسيته الإسرائيلية. فى هدوء يجيبه بشارة ساخراً (ماذا سأخسر إن فعلت؟ سأعود فلسطينياً نقياً).

بقلم: د.محمد مصطفى الخياط

[email protected]