تجوب الشوارع العتيقة وتقيم مَعرضاً مفتوحاً لسلاحها الحضاري
أزياؤنا الفلسطينية مصبوغة بهويتنا .. وتنتظر العودة
بدون مبالغة أو تحيز .. الثوب الفلسطيني أجمل أثواب العالم المُطرَّزة
بالإبرة والخيط تناضل المرأة الفلسطينية الاحتلال، وتُطرِّز مشاعرها وهويتها لتصون الذاكرة
الاحتلال البغيض يسعى جاهداً لنهب الإرث والتاريخ والهوية وأطباق الطعام والكوفيَّة
ولأنها معجونة بمطلب الحرية ولا شىء إلاها؛ فقد حررتْ إبداعها مِن قَيد المعارض العالمية، والجدران، والجلسات المُنمقَة، والجمهور المُنتقَى؛ واتخذت الشوارع العتيقة مسْلكاً وسبيلاً؛ وبيئةً حيةً تشهد بأن هاتيك الأزياء خرجتْ مِن رَحمها، قدَّمتْ عروضها في الشوارع بين الناس؛ وجوار "كنيسة المهد"؛ وتحت المآذن؛ ليشهد الحجر والمَدرعلى أنامل نسائها اللاتي طرَّزن بسلاح الإبرة والخيط والذهب والفضة والمرجان وطنهن؛وبساتينه؛ومشاعرهن؛ وحنينهن؛ وشوقهن المُخبَّأ خلف دموع المآقي، فتسوَّرتْ مِحراب الذاكرة الفلسطينية العصيّة على المحو والاندثار؛ الأبية على احتلالٍ بغيضٍ يسعى جاهداً للهيمنة الثقافية؛ ناهباً الإرث والتاريخ والهوية.. بل وأطباق الطعام والكوفيّة!
أثوابها قُدَّتْ غُرزُها مِن وهجِ قصة قرية أو مدينة عريقة، مصبوغة بالدفاع عن تراث أثواب الأجداد والذي يعني: "أنّا موجودون على هذه الأرض، مغروسون في ماضيها وحاضرها، ونتحدى احتلالها".. هكذا تعلن الناشطة الفلسطينية وعارضة الأزياء "مها السقا" الفائزة بالجائزة الأولى لمنظمة السياحة العالمية، مدير مركز التراث الفلسطيني الذي أسسته بنفْسها إبّان الانتفاضة، حيث جمعت كل الملبوسات قبل عام 48 لأجل صيانة الذاكرة الفلسطينية، ويحوي 200 لوحة أثرية؛ ومشغلاً يضم 400 امرأة فلسطينية يُصمِّمن ويُطرِّزن ثوب العروس وزي طلاب المدارس والقديس والرئيس، تحدَّتْ سلطة الكيان الصهيوني عام 1993 والذي دخل موسوعة جينيس القياسية بثوب فلسطيني من تراث عروس "بيت لحم" المعروف باسم " ثوب الملك" على أنه إرث يهودي! ولم تهدأ حتى أخرجته من الموسوعة بما أُوتيت من براهين وإثباتات؛ وأدخلت ثوباً صممته بدلاً منه.
معاركها أدخلتْها الموسوعة بثوب طوله 33 متراً وعرضه 17 متراً.. جمعتْ فيه زخارف من يافا؛ وبيت لحم؛ والخليل؛ وحيفا؛ والمجدل؛ وغزة وغيرها مِن المدن والقرى الفلسطينية، وكان وراء ذلك حادثة لا تنساها، فقد فوجئ شاب فلسطيني على متن الطائرة بمضيفة إسرائيلية ترتدي زياً فلسطينياً، فقال لها: "هذا ثوْب سِتّي"، فسخِرتْ منه قائلة: "لو كان ثوبكم لارتدته نساؤكم في الشارع والجامعات".. أثار الرد حفيظة الشاب؛ وطلب مِن "مها" أن تصمم أكبر ثوب يكون مطرزاً بالألوان والتصميمات الفلسطينية، وبالفعل عُرض المُنتَج في ملعبٍ لكرة القدم نظراً لكبر مساحته، واعتبرتْ دخولها الموسوعة تتويجاً؛ ومحطةً هامة في نضالها ضد الاحتلال الذي لا يكل ولا يمل من سرقة التراث الوطني.
في رسالة واضحة بأن الفلسطيني موجود مذ آلاف السنين تهتم في تصميماتها بزخارف الحضارة الكنعانية ورموزها؛ كالنجمة المُثمنة؛ وزخرفة القمر؛ ورأس الحصان؛ وزهر برتقال يافا، وكذا بالحطة والعَلم الفلسطيني، وبمجرد النظرلثوب المرأة الفلسطينية تَعرف من أين تنحدر؛ فمنطقة يافا ثوبها من الكتان الأحمر أو البيج المطرز بالأحمر، ولغزة الأحمر المائل للبنفسج، والأحمر المائل للبني فلمدينة الخليل، أما اللون النبيذي فلرام الله ويافا، كما يمتاز ثوب رام الله بزخرف النخل العالي ورأس الحصان والمشط، ولبئر سبع الأحمر القريب من البرتقالي.
معارك "مها" لا تنتهي؛ فالكوفيَّة الملونة كانت إحداها؛ فقد دأبت سلطات الاحتلال على تصميم كوفيَّة -بخبث- بألوان العلم الإسرائيلي مصحوبة بنجمة داوود، وأَغرقت بها الشوارع؛ فتحدّتْ ونزلتْ بنفسها للمحال والباَعة لمحاربتها ووقْف بيعها وشرائها، وقادتْ حملةً للتمسك بالكوفيَّة الفلسطينية بألوانها المعروفة، وذات معرض بأمريكا؛ شاهدتْ لوحة مرسومة منذ العام 1922 لفتاة ترتدي زياً فلسطينياً، وتذكرت مها أنها تملك ثوباً لجدتها يشبهه تماماً يعود لعام 1885، ومن فورها قامت بشراء اللوحة لعرضها بمتحف مركزها؛ لكنها حزنتْ بعد أن تبين أن اللوحة غير أصلية، ومازالت تسعى للبحث عن النسخة الأصلية.
ترى أن أجمل ثوب عروس هو ثوب"بيت دجن" الذي يمتاز بالكتان الأبيض؛ والتطريز الكثيف على الصدر والجوانب، ويزين الرأس الغطاء المحمل بقطع العملة الفضية، وقد حظي الثوب باهتمام عالمي فائق لتفرّده وروعته، أما أجمل الأثواب فهو ثوب"بيت لحم" -مسقط رأسها- ذلك اللباس الكنعاني؛ الذي يتميز بزخرف الخمس نجوم على الصدر، ونقش الساعة على الأكمام والجوانب، ويُلبس فوقه "التقصيرة"؛ وهي تُشبه المعطف القصير الذي يُظهر جوانب الثوب، وعليه غطاء الملك "الشطوة"؛ وهي قطعة مِن مَهر العروس مزينة بالعملة الذهبية والفضية وخرز المرجان.
في جولاتها مذ نعومة أظفارها مع والدها السياسي الذي زار 16 دولة عارضاً القضية الفلسطينينة؛ تفتَّح وعي الصغيرة على العمل التطوعي؛ سيَّما وأن والدتها كانت مرشدة اجتماعية، ولمَّا رافقت الوالد في زياراته للقرى؛ لفتَ نظرها ثوب الفلاحات الرائع، ومِن هنا كان الثوب سلاحها الحضاري لنصرة قضيتها. ومازالت تتبنى قضية تغيير الزي المدرسي للطالبات؛ واستبداله بزي يجمع الحضارة والتراث بألوانه وتطريزاته للحفاظ على الهوية من الاندثار، واختارت اللون الأرجواني الكنعاني والكحلي المميز لثوب يافا وغزة، وتسعى لتقوم الطالبات بتطريزه بأنفسهن في حصص الفنون، وقد لاقت فكرتها استحساناً لافتاً على مستوى الطالبات ومسؤولي التربية والتعليم.
--------------------------
تقرير- حورية عبيدة