لم أهتم بموضوع إختفاء الصحفى السعودى خاشقجى، لكثرة المقالات التى تناولتْ إختفاءه فى مقر قنصلية السعودية بتركيا..ونظرًا لأنّ معظم تلك المقالات كانت بعيدة عن الموضوعية، حيث طغتْ الأيديولوجيا (سواء سياسية أودينية على التناول الموضوعى) وهوالأمرالذى برز بشكل أكثر وضوحـًـا فى الفضائيات، وعلى سبيل المثال فإنّ قناة الجزيرة، نظرًا للخصومة بين السعودية وقطر فإنّ القناة القطرية استغلتْ موضوع خاشقجى بأسلوب إعلامى يـُـشير بلا مواربة إلى إدانة السعودية ومسئوليتها عن إختفاء خاشقجى.. ونفس الشىء فعلته القنوات التى تــُـبث من تركيا ويعمل بها مصريون وعرب أصحاب توجه أصولى.
وكان عزوفى عن الكتابة مع بداية إختفاء خاشقجى، وعيى بأنّ ما يحدث أشبه بمسلسل بوليسى تافه، فشل كاتب السيناريو السعودى فى إحكامه..ولم يفعل- طوال أحداث المسلسل- إلاّ الإدلاء ببيانات النفى.. ولم يـُـفكــّـرمخرج تلك الميليودراما فى السؤال الذى دار فى عقول الأحرار: إذا كان جمال قد خرج من القنصلية السعودية سالمًـا، فلماذا لايظهر فى وسائل الإعلام؟ وإذا كان قد قــُـتل- كما تزعم وتــُـرجـّـح الفضائيات المعادية للسعودية- فأين جثته؟
ويوم السبت13أكتوبر2018- وأنا أكتب هذا المقال- سمعتُ فى القنوات التى تــُـبث من تركيا، أنّ خاشقجى جلس مع القنصل السعودى بتركيا(محمد العتيبى) ثم دخل المكتب مجموعة من الشباب مفتولى العضلات- أقرب لأجساد أبطال المصارعة الحرة- واقتادوا خاشقجى بالقوة وبمظاهر العنف- إلى حجرة مجاورة لمكتب القنصل.. وأنهم قطــّـعوا جسده.. ودفنوه فى حديقة القنصلية.. وأنّ القنصل يعيش فى حالة رعب.. واعتكف فى منزله.. ويخشى الرجوع إلى القنصلية..إلخ.آ
هذه النهاية المأساوية، على المستوى الإنسانى (بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع توجهات خاشقجى السياسية) تجعل العقل الحر يتذكرمآسى حدثتْ فى الماضى القريب (رغم الاختلاف فى التفاصيل) كما حدث مع المناضل الشيوعى اللبنانى (فرج الله الحلو) الذى ذاب جسده فى الأحماض الكيماوية، بمعرفة المخابرات السورية.. وبأوامر من عبدالناصر (فخرى لبيب: الشيوعيون وعبدالناصر- ج1- شركة الأمل للطباعة والنشر- عام1990- ص59، 552) وكما حدث مع الصحفى الأهرامى رضا هلال الذى اختفى فى عهد مبارك ولم يظهر حتى وقتنا هذا، الأمر الذى رجـّـح رواية وضعه فى الأحماض الكيماوية.
المشهد الأخيرفى أحداث (مأساة إختفاء أوقتل خاشقجى) شجـّـعنى على الكتابة لأتناول زاوية لم يتطرّق إليها الإعلام (سواء السعودى أوالتركى) ولم يتطرّق إليها معظم من كتبوا عن إختفاء خاشقجى (سواء كانوا مع النظام السعودى أومع النظام التركى) بإستثتاء الباحث والشاعر المغربى محمد بنقدور الوهراتى، الذى ذكر أنّ المخابرات السعودية والمخابرات التركية، مرتبطتان بأبيهما الروحى.. والأدق بأمهما الروحية (المخابرات الأمريكية) وذكر أنّ خاشقجى من المحسوبين على مؤسس المخابرات السعودية الأمير تركى بن فيصل.. والذى تـمّ تهميشه بشكل ملحوظ فى العهد السعودى الجديد.. فهل دفع خاشقجى ثمن انصياعه فى اتجاه تأسيس مركزآ استشارات ودراسات، حول القضايا المهمة فى الشرق الأوسط، تكون تركيا هى مركزه.. وأردوغان هو الراعى الرسمى له؟ وهل أدى خاشقجى ثمن مغامرته فى لعب دور رأس الحربة، فى التعبير عن جهة أخرى داخل المخابرات السعودية، وأزيحتْ من مركزها.. وتـمّ تهميشها بإرادة الحاكم السعودى الجديد.. وأنّ السعودية كانت ترصد تحركات 80 شخصية سعودية، مشاركين فى مركز الأبحاث المقترح، فهل يعقل (فى دولة بوليسية/ قمعية مثل السعودية) أنْ تصمت ولاتتحرك؟ وهل كان على النظام السعودى الاكتفاء بالنظرإلى أنقرة.. وهى تشكل نواة معارضة.. ومن أبناء سعوديين داخل تركيا؟
وأضاف ذلك الشاعرالمغربى (صاحب العقل الحر) أنّ خاشقجى ((داسته أرجل التدافع الاستخباراتى..وسواء استطاعتْ المخابرات السعودية أوالتركية وقف مشروع إنشاء مركز الأبحاث، فإنّ (مجرد) محاولة تشكيل استخبارات جديدة (فى شكل مركز للأبحاث) قد تكسّـرتْ، حتى ولو كان الصـُـناع من طينة اللاعبين الكبار أمثال محمد بن سلمان وأردوغان وترامب.. ولكن بعد اختفاء جمال أو قتله، هل سيختفى مركز الاستشارات، الذى كان من المُـفترض أنه سيضم معارضين سعوديين؟ ومن المؤكد أننا لن نجد الجواب عند قناة الجزيرة، التى تتمسك بجريمة قتل مفترضة أو يقينية، لغاية فى نفس يعقوب.. وتتبنى قضية خاشقجى بإستماتة وشماتة.. وكأنه مواطن قطرى مفقود، لمجرد النيل من السعودية، فهل يستحق خاشقجى كل هذه الضجة؟ (هسبريس12أكتوبر2018)آ
أعتقد أنّ تحليل الشاعر المغربى لمس- بشكل عميق ودقيق- أهم وأخطر آفة، تــُـصيب كل من يقترب من سلطة الحكم فى أى نظام استبدادى.. وقد أخبرتنا كتب التاريخ (فى مختلف العصور) أنه على من يقترب من سلطة العرش، عليه أنْ يعى أول وأهم شرط: ممنوع معارضة السلطة.. ومنزوع منك (حق الاختلاف) وعليك أنْ تتطابق مع منظومة الحكم (تطابق المثلثات) وأنك مجرد (ترس) فى آلة الحكم. أما لو انحرفت – ولوبمقدار ضئيل وسطحى وهامشى- فمصيرك الهلاك.
والأمثلة عديدة لعلّ أشهرها ما حدث مع ابن المقفع الذى أمر الخليفة المنصور بقتله..ونفذ الأمر والى البصرة، الذى أمر بتقطيع الجسد.. ووضع كل قطعة فى النار ويراها تحترق وهو ينظر إليها..والسؤال: لماذا أمر الخليفة بقتل ابن المقفع، لأنّ الأخير(بحسن نية وبطبيعة طفولية/ فطرية) كتب رسالته الشهيرة (رسالة فى الصحابة) وأرسلها للمنصور.. وبدأها بمدحه وأنه أفضل من الأمويين.. وهكذا وقع ابن المقفع العظيم فى (فخ نصيحة الحاكم) فدفع ثمن سذاجته.
وفى العصر الحديث تمتلىء كتب التاريخ بالكثير من الأمثلة- سواء من الغرب أو من الشرق- عن عمليات التصفية المعنوية.. والتصفية المادية لكل من اقترب من كرسى عرش الملوك أو عرش رؤساء الجمهوريات.. ولعلّ أشهر الأمثلة ما فعله القذافى وصدام حسين، حيث أنّ الأخير لم يكتف بقتل خصومه السياسيين، الذين كانوا من المقربين منه.. ولكنه قتل زوجىْ ابنتيه.. ويتــّـم أحفاده كما فعل مع حسين كامل وشقيقه صدام كامل.. وأعدم أحد وزرائه عام 1978 فى فترة الخلاف مع النظام السورى حول ما عـُـرف باسم (الميثاق الوحدوى) وذكر شهود الواقعة أنّ صدام ركــّـز عينيه فى عينىْ الوزير وقال (أنا أعرف الخائن من عينيه) وأخرج مسدسه وأطلق عليه الرصاص فى رأسه وبين عينيه (نقلا عن الباحث والشاعر الفلسطينى الكبير أحمد أبو مطر فى كتابه: سقوط دكتاتور- عام2004- ص42، 80)
وهكذا يكتوى ويحترق بنار السلطة، كل من تصوّر أنه سينعم بحلاوتها إلى الأبد.
-------------------------
بقلم: طلعت رضوان