12 - 05 - 2025

وزارة الهجرة وترسيخ الهوية المصرية

وزارة الهجرة وترسيخ الهوية المصرية

قرأتُ خبرًا أذهلنى وأسعدنى عن مبادرة وزارة الهجرة وشئون المصريين بالخارج (مشروع اتكلم مصرى) بهدف الحفاظ على الهوية الوطنية والثقافية للأطفال المصريين بالخارج.. وموجـّـهة للبالغين أيضـًـا.. وذلك فى إطار خطط الوزارة لربط أبناء مصر بالخارج بوطنهم من خلال تعليمهم التحدث (باللهجة) المصرية بجانب العربية، من أجل ترسيخ الهوية المصرية.. وأضافتْ د. نادية مكرم عبيد أنّ المبادرة تتضمن (فيلم كرتون) على موقع الوزارة.. وقالت أمين عام المجلس القومى للأمومة والطفولة (عزة عشماوى) أنّ (مبادرة اتكلم مصرى) محورية وليست لتعليم اللغة فقط.. وإنما لترسيخ المبادىء والقيم المصرية للحفاط على الهوية المصرية (جريدة الشروق المصرية- 9أكتوبر2018) 

وأود أنْ أعترف أنّ هذا الخبر لم أكن أتوقعه، فى مناخ ثقافى أظهرالعداء لكل من يكتب مُـدافعــًـا عن الخصوصية الثقافية لشعبنا.. وأنّ تلك الخصوصية لا ينفرد بها شعبنا فقط.. وإنما هى أهم مقومات أى شعب.. كما قال علماء الأنثروبولوحيا.. ومن بينهم- على سبيل المثال كلود ليفى شتراوس الذى ذكر أنّ الحضارة تعنى تعدد وتعايش الثقافات بكل تنوعها.. وأنّ أية حضارة لايمكن أنْ تــُـشكـــل تحالفــًـا بين الثقافات إلاّ إذا احتفظتْ كل ثقافة بأصالتها (التنوع البشرى الخلاق- المجلس الأعلى للثقافة- عام1997- ص29)  

ومن بين أسباب فرحتى بالخبر أنه كسر تشاؤمى وهزم توقعاتى عن الأمل فى الدفاع عن خصويتنا الثقافية، خاصة بعد أنْ رصدتُ كتابات كثيرة أعلن فيها أصحابها (معاداة المصرية) Anti- Egyptianism وسر فرحتى أكثر تبنى وزارة الهجرة هذا المشروع الجريء (اتكلم مصرى) بالرغم من اختلافى مع استخدام تعبير (لهجة مصرية) لأنّ هذا التعبير غيرعلمى، بمراعاة أنّ كلام شعبنا فى الحياة وتعاملاته اليومية (لغة) وليست (لهجة) حيث قسـّـم علماء اللغويات أية لغة إلى كلمات (= الطوب) وبنية Structure ومعنى ذلك أنّ العبرة ببنية اللغة.. وأنّ هذه البنية تختلف من شعب إلى شعب، حتى ولوكان يستخدم نفس الحروف.. وعلى سبيل المثال فإنّ السؤال فى اللغة العربية يأتى فى بداية الجملة: ما اسمك؟ بينما فى المصرى: اسمك إيه؟ وفى العربى: أين كنت؟ بينما فى المصرى كنت فين؟ إلخ. 

ومن مظاهرالاختلافات أنّ شعبنا لايـُـخرج لسانه فى الكلمات البين لسانية، مثل الثاء والذال، فنقول تعلب بالتاء وليس بالثاء..ونقول ديب بالدال وليس بالذال.. وهذه الظاهرة تبيـّـن أنّ أصلها ممتد من اللغة المصرية القديمة، خاصة فى مرحلتها الثالثة (مرحلة اللغة القبطية) كما تميـّـزتْ اللغة المصرية بأنها اختصرتْ الكثير من أدوات اللغة العربية فى (صيغة واحدة) فاسم الموصول فى العربى عدة صيغ: الذى، التى، اللذان، اللتان، اللذيْن، اللتيْن..إلخ بينما فى المصرى صيغة واحدة: "اللى" فنقول الواد اللى، البنت اللى، الناس اللى إلخ.. وفى أسماء الأشياء ثبتها شعبنا بصيغة واحدة: فنقول: كبايه، حبايه، برايه، حدايه، مقابل: كوب، حبة، مبراة، حدأة على التوالى.. وتميـّـزتْ لغتنا بتثبيت العدد مع المعدود: تلت رجال، تلت بنات بخلاف العربى حيث العدد عكس المعدود: ثلاثة رجال، ثلاث فتيات إلخ. 

وقد أدلى (طه حسين) بشهادة حق عندما ذكر (إنّ كثيرًا من الناس ليقولون إنّ اللغة العربية التى يتعلمها الصبى فى المدرسة لغة أجنبية) وكان من رأيه (أنّ اللغة العربية إنْ لم تنل علومها بالإصلاح صائرة- سواء أردنا أو لم نرد- إلى أنْ تُصبح لغة دينية ليس غير) وأما النحو فهو يتمنى لو أعفى المتعلمين منه.. وكان هدف طه حسين تطويراللغة العربية فكتب (إما أنْ نــُـيسرعلوم اللغة العربية لتحيا وإما أنْ نحتفظ بها كما هى لتموت) وكتب أيضًا أنّ اللغة العربية ((إنْ لم تكن أجنبية فهى قريبة من الأجنبية، لايتكلمها الناس فى البيوت..ولايتكلمونها فى الأزهر نفسه)) (مستقبل الثقافة فى مصر- دارالكتاب اللبنانى – بيروت- المجلد التاسع– عام 1973 - الصفحات 31 ، 248 ، 298 ،299 ، 303 ، 311)   

وأعتقد أنّ طه حسين كان على حق، حيث لم يحدث تطوير للغة العربية منذ الإصلاحات الثلاثة الكبرى: الأول على يد اللغوى أبو الأسود الدؤلى والثانى على يد يحيى بن يعمر ونصر بن عاصم، ثم كان الإصلاح الثالث على يد اللغوى الكبيرالخليل بن أحمد الفراهيدى..وفى ضوء ذلك (حظيتْ الحروف العربية النبطية الأصل بثلاثة إصلاحات كبرى فى غضون فترة لاتتجاوز قرنًا من الزمان قبل أنْ تصل إلى مرحلتها الأخيرة التى بقيتْ عليها حتى يومنا هذا، أى قرابة إثنى عشرقرنًا) وأعتقد أنّ كلام طه حسين غاية فى الأهمية، بمراعاة أنه كان أحد المُـدافعين عن اللغة العربية.. ومع ذلك اعترف بأنّ شعبنا لايتكلم العربية بمن فيهم رجال الأزهر.. كما أنّ لغة شعبنا فى الحياة اليومية الموصوفة بالعامية، دافع عنها فى الأربعينيات د.شوقى ضيف..وأعادتْ هيئة الكتاب طباعته عام2016فى كتاب بعنوان (تجديد النحو) أما أ.محمود تيمور(عضو مجمع اللغة العربية) فكان أكثر جرأة وهوينتقد زملاءه أعضاء المجمع لأنهم يسخرون من لغة العامة.. وكتب (عزّعلينا أنْ نقبل تعبيرات أمة فى مجتمع حى..ونؤثر ما بين أيدينا من كلمات عربية، فى حين لانجد فيها ما يقابلها على الإطلاق على لسان العامة.. ونحن على الرغم من ذلك نتعالى على الكلمة العامية.. وإنْ كان البديل العربى لايشفى ولايكفى) ثم ضرب الكثير من الأمثلة ليؤكد ما ذهب إليه (مشكلات اللغة العربية- المطبعة النموذجية- عام 1956- ص222، 223)  

وإذْ أحيى مبادرة وزارة الهجرة على تبنيها لمشروع (اتكلم مصرى) فإننى أتمنى نجاح المشروع.. والأكثر أهمية أنْ لايـُـحاربه أعداء الخصوصة الثقافية.. وأنْ لايخرج من الجحور أعداء التميز الذين لايعرفون أو لا يـُـقـدّرون سحر القوة الناعمة لمصر.  
---------------
بقلم: طلعت رضوان

مقالات اخرى للكاتب

أين الدول العربية من التنافس الأمريكى الروسى؟