المتأمل لدور الصحافة وتاريخ نشأتها لابد أنْ يتساءل: ما شكل المجتمعات الإنسانية بدون صحافة؟ ولابد أنْ يعترف بفضل الأوروبيين، فقد صدرتْ أول صحيفة بريطانية (دايلى كورانت) عام1702..وفى عام 1746أسس فيلدنج جريدة (كوفنت جاردن جورنال) وفى عام 1785 أسس جون والتر جريدة التايمز..وفى ألمانيا صدرتْ أول صحيفة أو نشرة إخبارية عام1740..وأول صحيفة فى أميركا (بوسطن نيوزليتر) عام 1703 عندما أدخل (تومس جرين) المطبعة..وأول صحيفة فى مصرعام 1816 باللغتين العربية والتركية.. ومع حملة نابليون صدرتْ صحيفتان فى مصرباللغة الفرنسية، ثم أنشأ محمد على (جريدة الوقائع المصرية)
وإذا تجاوز الباحث عن البدايات.. وتأمل دور الصحافة فى نشر(المعلومة) فى القرن العشرين.. ونشر الأخبار التى تــُـحاول السلطة تجاهلها أوإخفاء أدق تفاصيلها، ووصل للألفية الثالثة ارتفع سقف حرية الصحافة (وبصفة خاصة فى أوروبا وأميركا) ومن أبرزالأمثلة الحديثة: التحقيق الصحفى الذى نشرته صحيفة (نيويورك تايمزالأمريكية) عن تهرب الرئيس الأمريكى ترامب من أداء الضريبة.
بدأ التحقيق الصحفى برصد الأصول المالية للرئيس وأسرته.. وتبين أنّ ترامب هو (قطب أو ملك) العقارات.. وادّعى أنه تلقى من والديه مبلغ 400 مليون دولار. ثم تبيـّـن أنّ هذا المبلغ انتقل إليه عبر التهرب الضريبى.. وأنّ الصحفى الذى جمع مادة التحقيق، امتلك شجاعة الكتابة حيث ذكر أنّ ما قاله ترامب عن تلقى أموال من والديه (محض كذب) وجاء بالتحقيق أنّ والد ترامب وأسرته أسسوا شركة بهدف أنْ تكون (واجهة) لإخفاء المبالغ التى حصلوا عليها من والديهم. والهدف من هذه الشركة التهرب من أداء الضريبة المستحقة، لأنه كان يتحتم عليهم تسديد الضريبة وفقــًـا للقانون.. وأضاف الصحفى أنه بعد أنْ تولى ترامب الحكم فإنه ساعد والده للحصول على تخفيضات ضريبية (بملايين الدولارات) بالمخالفة للقانون، ليس ذلك (فقط) بل ساعده على تثمين قيمة ممتلكاته العقارية بأقل من قيمتها الحقيقية، بهدف خفض قيمة الضريبة التى يتعيـّـن عليه دفعها كرسوم انتقال التركة.. وذكر الصحفى أنه اعتمد على (التصاريح الضريبية لفريد ترامب (الوالد) وشركاته..وأشار إلى أنه لم يتمكن من الحصول على تصاريح الرئيس الضريبية، لأنه يرفض نشرها)
وإذا كان موضوع التهرب الضريبى غاية فى الأهمية (خاصة عندما يمس شرف رئيس الدولة) فإنّ الأكثر أهمية هو أنّ الصحيفة الأمريكية تعاملتْ مع رئيس الدولة.. وكأنها تتعامل مع أى مواطن يتهرب من أداء الضريبة.. وهى فى نظر القانون وفى نظر المجتمع من الجرائم التى ترقى لمرتبة (خيانة الوطن) كما أنّ حرية الصحافة بلغت درجة الكتابة عن (شعبية الرئيس) التى شهدتْ تدهورًا بما يـُـنبىء ببداية العد التنازلى لاعتزاله أو تنازله عن المنصب كما حدث مع الرئيس نيكسون بسبب فضيحة ووترجيت.. والتى فجـّـرها الصحفيان (كارل برنستين) و(بوب وود) فى صحيفة (واشنطن بوست)
وفى إفتتاحية صحيفة (نيويورك تايمز 6 سبتمبر 2018) فجـّـر كاتب الافتتاحية موضوع التساؤلات حول ماهية التعديل رقم 25 من الدستورالأمريكى الذى يـُـمكن بموجبه عزل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.. والذى قد يواجهه الرئيس ترامب يومًـا.. وفى الشهور القليلة الماضية ظهر أكثر من كتاب لصحفيين أمريكيين ينتقدون سياسة ترامب الداخلية والخارجية، لدرجة أنْ وصفه أحدهم (بالقاتل) بسبب تأييده للأنظمة الدكتاتورية والميليشيات الإرهابية.. وإذا كان عدد قراء الكتب أقل من عدد قراء الصحف، فإنّ أكثرمن صحيفة أمريكية عرضتْ أهم ما فى هذه الكتب، لتشويق القراء وتشجيعهم على قراءة الكتاب.. وهوما فعلته صحيفة (نيويورك تايمز) التى عرضتْ كتاب (الخوف) تأليف (بوب وودوارد) الذى أشارإلى تجاهل كبار معاونى الرئيس ترامب لأوامره.. وكانت النتيجة غضب الرئيس بعد نشر المقال، حيث جاء به أنّ مسئولا رفيع المستوى (رفض ذكراسمه) كشف عن وجود حركة مقاومة ضد ترامب داخل البيت الأبيض بهدف (كبح نزعاته) وتطورتْ لدرجة التفكير فى الإطاحة به.. وكل ما فعله ترامب أنْ كتب أكثرمن تغريدة على تويتر وصف فيها الجريدة بالفاشلة.. وأنّ ماتفعله هو(خيانة) وأنّ الجريدة تنهار.. وقد صرّحتْ سارة ساندرز المتحدثة باسم البيت الأبيض، أنّ الإدارة محبطة بسبب نشر مقال مثير للشفقة ومتهور وينم عن أنانية.
وذكر كاتب الافتتاحية أنه حاول مع آخرين فى مقر الرئاسة التصدى لترامب. ووصف سلوكه بأنه (غيرأخلاقى)) وأسلوبه فى إدارة الوطن بالتهور والتفاهة.. وأنه يتخذ قرارات غير مدروسة.. وأنّ جذور المشكلة تكمن فى إفتقار ترامب للمسئولية الأخلاقية.. وعدم التزامه بأى مبادىء.. وعندما هاجمتْ إدارة البيت الأبيض الصحيفة.. وطلبتْ من رئيس التحرير الكشف عن اسم المسئول داخل البيت الأبيض الذى كتب الافتتاحية، دافعتْ الصحيفة عن موقفها وعن قرارها بحجب اسم كاتب افتتاحيتها.. وكتبتْ على تويتر: إنّ نيويورك تايمز تتخذ اليوم خطوة نادرة بنشر افتتاحية بدون اسم.. ونحن فعلنا ذلك بناءً على طلب الكاتب الذى يـُـعد مسئولا رفيع المستوى داخل إدارة ترامب.. ومعروف لنا جميعـًـا.. وبالتالى فإنّ كشف اسمه سيـُـعرض عمله للخطر(نقلا عن صحيفة الأهرام 7 سبتمبر 2018- ص8)
***
أود التركيز على أنّ تهرب ترامب وأسرته من الضرائب، أوالكـُـتب التى هاجمتْ ترامب، أوما ذكره المسئول داخل مقر الرئاسة، فإنّ كل ذلك كان مجرد مدخل لهدفى الأول من مقالى وهو: سقف الحرية الذى تتمتع به الصحافة الأمريكية (وفى أرشيفى المزيد عن الصحافة الأوروبية واليابانية والهندية.. ودول أمريكا اللاتينية وإسرائيل) وأنّ تلك الحرية هى الرافعة الأساسية لتقدم الوطن.. وأنّ دور الصحافة لايقل عن دور المُـفكرين التنويريين، الذين خلــّـصوا أوروبا من الكهنوتيْن الدينى والسياسى، بينما (سقف) حرية الصحافة المصرية (والعربية) شديد التواضع.. وأزعم- بلا مبالغة- أنّ (سقف الحرية) مايزال فى (مرحلة روضة الأطفال) قياسًـا على (مدارس الصحافة) فى المُـجتمعات المُـتحضرة، مع اعترافى بوجود استثناءات.. ولكن الاستناءات- كما فى القانون- لايجوز القياس عليها أو التوسع فيها.
__________
بقلم: طلعت رضوان