12 - 05 - 2025

جابريل جارثيا ماركيز| السخرية ... سيفُ التمرد

جابريل جارثيا ماركيز| السخرية ... سيفُ التمرد

تأثر الكاتب الكولومبي جابريل جارثيا ماركيز، كغيره، بالبيئة التى نشأ فيها، لأسباب ترجع إلى عمل والده تربى فى كنف جَديه، الجد عسكرى سابق ألهمه العديد من الشخصيات العسكرية وحكايات ممزوجة بالخيال شحذت أفكاره. حكت روايته مائة عام من العزلة جزءً من حياة جده الشخصية، فيما روت رائعته "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" عذاباته وسخريته اللاذعة أيضاً. لم تملك الجدة ما تعطيه للطفل الصغير سوى حكايات توارثتها عن أم وصلتها هذه الحكايات مخلوطة بتوابل الأساطير عبر أجيال متعاقبة من الفقراء والمهمشين والحالمين، فتداخلت مع الواقع، صار معه التمييز بينهما مستحيلا. 

بيئة بدائية منحت الأساطير المناخ المناسب كى تتخَمر وتنمو، فسر بها البسطاء هطول المطر وموجات الحرارة المرتفعة والمنخفضة، نزولاً إلى الأسباب الخفية وراء تقلب البهلوانات في الهواء دون أن يسقطوا مصابين، وكيف يضع الساحر فكيه على الطاولة فيتكلمان، فإذا أعادهما إلى فمه يصمتان. أيضاً، رصد ماركيز انسجام التناقض بين العلم والخرافة، من خلال طبيب شهير تعلم في أوروبا وعندما نزل بلده، كولومبيا، وجدهم يكافحون الكوليرا بضرب قذيفة مدفع كل ربع ساعة في المناطق الموبوءة بدعوى أن رائحة البارود تطهر الجو، فجاهد قدر طاقته مكافحة الجهل قبل المرض، لكن ذلك لم يغير إيمانه الشديد بأن وضع أدوات المائدة متقاطعة بعد الأكل كفيل بجلب الأرواح الشريرة. في هدوء يعلق بلسان فلورينتو آريثا، بطل روايته الحب في زمن الكوليرا، قائلاً (تتوارث الأسر الأساطير والخرافات دون تفكير وتقدسها وتعمل بها ما لم يثبُت عكسها).

فى ذات الرواية يصف جابريل نزول البطريرك القرية ضمن جولته الرعوية السنوية متفقداً أحوالها ومجدداً العلاقة بين أولئك الريفيين البسطاء والكنيسة، ما إن دخل القرية حتى واجهه حشد هائل من سكانها وسكان القرى المجاورة، اكتظت الشوارع الضيقة بأولئك العَجَزة والمعوقين، تشبث البطريرك بسرج بغلته البيضاء ورِكَابها الـمُذهب مخافة أن يقع من الزحام مع إصرارهم فى طلب البركة والتمسح به، لكن المفاجأة أن الفقراء واصحاب العاهات تركوه وراحوا يتمسحون ببغلته، التى ذاع صيتها قبل دخولها القرية وقدرتها على شفاء الأمراض المستعصية، غير مكترثين بالبطريرك.

إلى جانب ذلك، لا يفوت ماركيز دس لمحاته الساخرة بين طيات سطور رواياته كردود فعل عفوية، متأثراً بنشأته فى مناخ سياسى معقد مليء بالانقلابات والاعتقالات والديكتاتورية والقمع وحظر التجوال والحرب الأهلية. فى روايته (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه)، توفى رجل بالقرية فلم يغتم أهله لموته قدر غمهم وحيرتهم فى مدى جواز مرور الجنازة، وهى فى طريقها إلى الكاتدرائية للصلاة عليه، من أمام مخفر الشرطة فى الوقت الذى أعلنت فيه الدولة حالة الطوارئ ومنعت التجمهر. فى سخريته من امتلاء الصحف المحلية بأخبار أوربا وتجاهل ما يدور بالشارع الخلفى للجريدة، يعلق على لسان الكولونيل المتقاعد قائلاً، (منذ فرضت الرقابة والصحف لا تتحدث إلا عن أوروبا .. من الأفضل أن يأتى الأوربيون إلى هنا ونذهب نحن إلى أوروبا. وهكذا سيعرف كل منا ما الذى يجرى في بلده). بحرفية، استطاع ماركيز قهر خوف أبطال رواياته، انطقهم بالسخرية الـمُرة وأطلق ألسنتهم دون حدود، صنع من السخرية سيفاً للتمرد، يقول الكولونيل (هنا في هذه المدينة لم يقتلونا بالرصاص، قتلونا بالقرارات).

_________

بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد