22 - 08 - 2025

حدث في بلاد السعادة ... طرح جديد لعلاقة الحكام بالشعوب يغزله فريق مسرحي مبدع

حدث في بلاد السعادة ... طرح جديد لعلاقة الحكام بالشعوب يغزله فريق مسرحي مبدع

ربما يكون من النادر أن يبدأ مقال نقدي عن مسرحية بالحديث عن الممثلين ولكن قوة الأداء التمثيلي في مسرحية "حدث في بلاد السعادة" يغويني بشدة كي يكون الممثلون هم فاتحة هذا المقال، ودعوني أبدأ بالدكتور علاء قوقة، هذا الهادئ الذي يسير هامساً على الأرض لكنه يحدث ضجة من حوله على خشبة المسرح، ويثير الجلبة بين أفراد الجمهور، فمن الصعب أن تخطئه العين أو تصم عنه الأذن. حضور طاغ يعيد إلى الأذهان زمن عمالقة المسرح، لكنه في الوقت نفسه لا يستدعي إلى الذهن فناناً من العمالقة القدامى، فهو عملاق في ذاته،لا يشبه أحداً، بل لا يشبه نفسه في كل دور جديد يلعبه. في "حدث في بلاد السعادة" يلعب قوقة دور الوزير المخادع الطامع في السلطة، والذكي في دهاء الذي يفهم جيداً كيف يلاعب الجماهير ويكسبهم ليسيطر عليهم ويحقق أهدافه. في بداية المسرحية تجده مسيطراً على الحاكم الأجنبي "العبيط"، ويستطيع بهدوئه وألاعيبه أن يُحيد المستشار، ثم بعد ذلك ينتقل إلى المبارزة مع المواطن الحالم الذي يمسك بزمام الأمور في البلاد بأسلوب أسطوري، أشبه بحكايات السير الشعبية، لينتقل بعد ذلك للعب مع الشعب ليؤلبهم ضد حاكمهم الوطني. ينتقل قوقة من مرحلة لأخرى في الشخصيةآآ  بسلاسة عصية على الإمساك بها، فرغم أنك تغوص معه في شخصيته بهدوء وبساطة، إلا أنك لو فكرت كيف يحملك على كفيه ليأخذك داخل تفاصيل الشخصية فلن تعرف. هذا الممثل الجبار الذي يخطف عينيك نحوه حتى وهو يقف على جانب خشبة المسرح يتابع نقاش وحركة الشعب في صمت، فهو لا يقف مستنداً على حائط فقط، لكنه يملك أن يعطي لصمت جسده تعبيرات حركية خفية تجعلك تدوربعينيك متنقلاً بينه وبين المواطنين وكأن سجالاً يدور بينه وبينهم.

أما فاطمة محمد علي، فهي قصة وحدها، معجونة بماء عفاريت الفن. تشبه النحلة التي لا تكف عن الحركة والعمل، فأنت عندما تسمعها تغني يأخذك صوتها إلى عالم مسحور خارج دائرة المفردات المتعارف عليها، وعندما تشاهدها تمثل تشعر ببهجة تطغى على كافة مشاعرك. تلعب فاطمة دورين ببلاد السعادة، الأولى هو الراوية المطربة مع وائل الفشني فيقدمان ويمهدان دائماً لأحداث المسرحية بأغاني كتبها الشاعر حمدي عيد ببلاغة ملحوظة. وفجأة تجد فاطمة تقفز أمامك على خشبة المسرح لتلعب دور زليخة زوجة بهلول،آآ  المواطن الحالم الثائر، ولا تشعرك بأنها تبذل مجهوداً كبيراً كي تنتقل بين الدورين أوحتى تبذل مجهوداً في تبديل الملابس وتسريحة الشعر، هي كما قلت سابقاً نحلة طنانة لا تكف عن الحركة والعطاء، بل ربما يأخذني الحماس وأمنحها لقب ملكة مملكة النحل الشغيل. 

نأتي إلى مدحت تيخاً، الذي يقدم هذه المرة دوراً لا يشبه ما قدمه من قبل سواء على خشبة المسرح أو في الدراما التلفزيونية، فهو المواطن البسيط البهلول، الذي لا يحلم بأي شئ سوى أن يعيش آمناً مطمئناً مع زوجته، هو وباقي أهل بلده، ليست لديه تطلعات ولا طلبات سياسية، لكنه فقط يحلم بأن يعم السلام والخير بلاده. لكن حلمه البسيط يستدرجه في نسيج درامي أسطوري، ليكون حاكم بلاده في غمضة عين. تيخة الذي لا يعطي بوجهه وجسده سوى انطباعات السعادة والضحك، استطاع أن يوصل للمشاهدين أحاسيس الحيرة والألم والحزن والهزيمة، فتفوق على نفسه، كما أنه أيضاً أبدى التزاماً وانضباطاً مسرحياً هائلين، فقدم دوراً سيذكر له في تاريخه. 

الفنان القدير حسن العدل على بساطة دوره والذي يقتصر على مشهد واحد بالمسرحية، إلا أنه يهز بكلماته وأدائه المحكم وجدان الجمهور، فهو يعرف جيداً خطواته ويقدرها بميزان حساس، فتجده رغم اختفائه السريع وعدم عودته مرة أخرى ضمن أحداث المسرحية، قد أحدث الأثر المطلوب منه، فهو يلعب دور حكيم البلاد الملقى في السجن مع الشاعر والذي يلجأ له بهلولآآ  كي يساعده على حكم البلاد. 

كل الممثلين الذين شاركوا ببلاد السعادة قدموا أداءً عالي الاحتراف، ولذلك يجب الإشارة بقوة إلى المخرج الشاب والمتميز مازن الغرباوي، الذي يتمتع بذكاء فني درامي من الطراز الرفيع، فأن يتمكن مخرج من جمع هذ الحشد المميز والمتنوع بمن فيهم من ممثلين عرب كبار مثل الفنانة الليبية الكبيرة خدوجة صبري ويستطيع باقتدار إدارتهم على خشبة المسرح ليخرج كل واحد فيهم طاقة تمثيلية مميزة ومختلفة عن الآخر، فهذا يدل على مهارة إخراجية مبدعة.

استطاع مازن أن يلعب بفضائه المسرحي بكفاءة عالية، فهو يشغله دائماً بالحركة فلا تجد نفسك محاصراً في جانب دون الآخر من المسرح، كما أن في بعض المشاهد المحورية يقسم الخشبة إلى قسمين، ليقدم مشهدين متوازيين في نفس الوقت، مثل المشهد الذي يحتوي على الحاكم الوطني الحالم بهلول والوزير المخادع عقبور، حيث يصدر بهلول قراراً في صالح الشعب فيقلبه الوزير ليكون ضد الشعب، كما يستخدم أيضاً المؤثرات البصرية الرمزية كاشتعال النيران في خلفية المشهد السابق. 

ولا يقتصر مازن على إدارة الأحداث فوق خشبة المسرح، فهو يصر على توريط المشاهد فيها، حيث تبدأ المسرحية بمجاميع تمثل الغزاة الذين يهاجمون بلاد السعادة ليحتلونها، هذه المجاميع التي تظهر من جانبي مقاعد المشاهدين ليتراصوا أسفل مقدمة خشبة المسرح قبل أن يصعدوا إليها ليغزوا المدينة، وبالتالي استطاع أن يترجم فكرة الغزو الخارجي بطريقة جديدة، حيث يأتي الغزاة من الخارج ليهاجموا المدينة في الداخل (خشبة المسرح).

قدم حازم شبل رؤية بسيطة في شكلها الخارجي لديكور المسرحية، لكنها عميقة في مضمونها لما تتيحه من سهولة في تغيير المشاهد، حيث تكوينين خشبيين على جانبي المسرح يلعب بهما في يسر ليخرج منهما على سبيل المثال شرفة زليخة زوجة بهلول في مقابل شرفة جارتها، أو يتحول جزء جانبي في أسفل التكوين الأيمن ليصبح بيت بهلول وزليخة، أما منتصف الخشبة فهو مسرح للأحداث في السوق والحانة حيث أدوات بسيطة يستخدمها الممثلين لتمثل حوانيتهم ويحركونها بأيديهم، إضافة إلى شاشة العرض في عمق المسرح والتي يظهر عليها الكثير من المؤثرات التي تُعمق من تأثير الأحداث في نفس المشاهد.

أما مصممة الملابس مروة عودة فقد وفقت في اختيار الشكل الذي بدت عليه، فقدمتها في شكل يحاكي حواديت ألف ليلة وليلة وحكايات جحا التي يتشابه معها الإطار العام لأحداث المسرحية، وكذلك جاءت الاستعراضات التي صممتها كريمة بدير موفقة إلى حد كبير في التعبير عن نسيج الأحداث.

تبقىآآ  الحكاية والتي يدور حولها الخلاف الأهم في المسرحية، فالكاتب المسرحي المتميز بلا شك وليد يوسف، يقدم طرحاً ربما يكون جديداً على ساحتناً الإبداعية، فهو لا يركن إلى فكرة إلقاء اللوم على الحاكم كما اعتدنا في الدراما العربية بشكل عام، ولكنه يطرح فكرة المسؤولية المشتركة بين الحاكم والمحكوم، ويؤكد أن الحاكم مهما كان وطنياً ومخلصاً فهو لن يفعل شيئاً دون تعاون شعبه معه بالعمل وتقديم الحقائق والأفكار، لكنه يقع في الكثير من الهنات مثل طرحه الخاص بأن هناك دائماً من يتلاعب بقرارات الحاكم ويحول دون وصول الحقائق له، وهو الطرح الذي أعترض عليه بشده فنظرية (الحاكم كويس لكن اللي حواليه وحشين) يجب أن تنتهي من قاموسنا المعرفي لأنها ليست في صالح أي حاكم بل تدينه، كذلك يظهر وليد الشعب بالكامل في صورة الأفاقين واللصوص والمتسولين والكسالى، فيما عدا شخصية السقا التي يلعبها باقتدار الفنان أسامة فوزي، ولكنه أيضاً لا يستطيع أن يفعل شيئاً خوفاً من الشعب الفاسد الذي يعيش بينهم. أما شخصية الشاعر والذي يمثل طبقة المثقفين في المسرحية، فهو يفضل ادعاء الجنون على مواجهة الواقع وعندما تأتيه الفرصة كي يخرج من سجنه ويواجه مع الحاكم الوطني فهو يفضل البقاء في ظلام السجن والاستمرار في الانهزام. الغريب أن وليد فعل نفس الشئ مع الحكيم وهو ما يمثل العقل الوطني والذي سجنه الغزاة، حيث يفضل أن يمنح بهلول حكمته من داخل السجن ويقرر البقاء فيه بدعوى أن من اعتاد الظلام لا يستطيع مواجة النور! وهو أمر عجيب فعلاً فكيف يكون حكيماً وأحمقاً في نفس الوقت؟ حيث يرفض أن يخرج مع الحاكم الوطني المخلص ليسانده بعقله في تدبير أمور البلاد ويقرر تركه للأعداء الذين يمثلهم الوزير عقبور في أحداث المسرحية؟ هذا عدا أن بهلول الوطني الثائر لم يعترض في الأصل على وجود مستعمر، هو فقط كان يرغب في أن يوصل إليه مطالب الشعب في أن يعيش حياة كريمة؟!

لقد حكم وليد يوسف على جميع الشعب بالسلبية والهزيمة وأظهر الحاكم الوطني وحيداً متروكاً من كافة أطياف شعبه حتى الحكماء منهم، وهو أمر فيه تجنٍ كبير على الشعوب. 

في النهاية لا يمكنني سوى القول أن مسرحية (حدث في بلاد السعادة) تمثل فرجة مسرحية ممتعة، وتجربة لا يجب أن تفوت أي محب للمسرح