لحرس الشرف ملابس تحددها التقاليد ويرسمها التاريخ في كل بلد. يجذبنى زى الحرس الملكى البريطانى، وتحديداً قلنسوته العالية يكسوها وبر أسود ناعم ينزل على جبهته أُحس معها أنهم بالكاد يرون ما حولهم. على العكس يبدو حرس الشرف الألمان برؤوسهم الحليقة والبيريه الأخضر وبزاتهم العسكرية الرمادية أشبه بفرقة استدعوها من ميدان القتال على عجل لأداء مراسم استقبال ضيف عزيز على أن تعود إلى اماكنها القتالية مباشرة فور مغادرة الضيف.
يتشابه زى الحرس الملكى الدنمركى بنظيره البريطانى مع بنادق عتيقة تعبر عن نمط مراسم أكثر منها وسيلة ردع ودفاع. كان المشهد مذهلاً وغير قابل للتوقع، فعندما أخبرنى مرافقى الدنمركى أننا سوف نزور قصر الملكة ظننت الأمر لا يعدو كونه نظره من بعد لقصر يفصل بيننا وبينه مساحات شاسعة وحراسات تليق بملكة ورثت عرشاً يمتد لأكثر من خمسة قرون وتحكم شعباً يتجاوز تعداده الخمسة ملايين بينما تجلس ابنة عمها في الجانب المقابل من جسر أوريسند الرابط بين العاصمة كوبنهاجن وبحيرة مالمو على عرش مملكة السويد.
على محيط دائرة ميدان أمالينبرج تتوزع أربعة قصور لا يزيد ارتفاع كل منها عن طابقين بينما يرتفع الميدان تمثال فريدريك الخامس، أحد ملوك الدنمرك إبان القرن الثامن عشر، الأخضر الـمُشَرَب بالزرقة بفعل عوامل تعرضه للعوامل الجوية. (هذا قصر الملكة، وهذا قصر الملكة الأم، وهذا لولى العهد، وهذا لاستقبال الضيوف)، قال مرافقى وهو يشير في كل مرة إلى القصر الذى يعنيه بكلامه. أعدت التأمل في المبانى التى وصفت بالقصور فرأيتها أقرب إلى مبان فخمة منها إلى قصور يقطنها ملوك وأمراء.
رحنا نتجول في الميدان ونتطلع إلى الجدران التى شهدت نسمات الحياة وأعاصير الحرب العالمية الثانية لأجد اسماء بعض من ماتوا دفاعاً عن المملكة محفوراً على الجدران. من الواضح أن الكتابة تمت بطريقة بدائية وبيد غير خبيرة إلا أن الملك فريدريك التاسع، آنذاك ووالد الملكة الحالية، أمر بتركها كما هى دون تجميل، فليس هناك ما هو أجمل ولا أعظم من بسطاء ماتوا دفاعاً عن تراب الوطن.
لا تحظى القصور بأية نوع من الحماية. فقط أربعة جنود حرس شرف يتوزعون بواقع واحد أمام كل باب، ما إن تشرع في الاقتراب منه حتى يطلب بأدب المحافظة على مسافة فاصلة لا تقل عن خطوة واحدة. (أحياناً نفاجئ بالملكة خارجة من هذا الباب وأحياناً نراها تتسوق بيننا)، قال مرافقى ثم أردف (إننا نحبها جداً).
من الشمال الأوربى إلى آخر شبر في القارة الإفريقية السمراء وعلى إثر حديث تشعب مع سائق التاكسى الأبيض اللون ذو الأصول الهولندية عن كفاح أجيال ضد التفرقة العنصرية، سألته وكان مانديلا وقتها قد تقاعد، (هل تحب مانديلا؟). هز رأسه يميناً ويساراً كأنما يفكر ويوازن كلماته قبل إصدار قراره، ثم قال (قد لا أحبه، لكنني احترمه). بهذه الكلمات البسيطة والتلقائية عبر الرجل عن علاقته بزعيم تولى حكم جنوب إفريقيا لكنه لسبب أو لآخر يختلف معه. نعم، قد لا يتفق مرؤوس مع رئيسه فلا يسير على نهج صاحبنا الدنمركى، عندئذ عليه أن يحترم ولا يكره.
---------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط