فى أحدث تقارير معهد "رويترز" عن حال الصحافة والإعلام والتكنولوجيا 2018، يرصد التقرير الكثير من الاتجاهات حول التطورات فى معظم المجالات، ومن أهم المحاور التى يتناولها التقرير بالبحث قضية "الأخبار الكاذبة" التى احتلت موقع الصدارة فيما يتعلق بالمشهد الإعلامى خلال الأعوام الماضية، وبالتحديد منذ الانتخابات الأمريكية الأخيرة وما أحاط بها من مشاكل تشكيل الرأى العام باستخدام "الأخبار الكاذبة" عبر وسائل التواصل الاجتماعى لتصل بأحد المرشحين إلى موقع الرئاسة، الأمر الذى أثر على مصداقية وسائل الإعلام المحترمة التى اختفى صوتها وسط طوفان الأخبار الكاذبة وعدم تمكن مستهلك الخبر من التفرقة بين مصادر الأخبار ومصادر الأخبار المفبركة.
ويرصد التقرير أن مصطلح "الأخبار المفبركة" Fake News اختاره قاموس كولينز ليكون مصطلح العام 2017، فى الوقت الذى حذر فيه الخبراء من أن المصطلح أصبح مضللا لدرجة كبيرة ولا يساعد على الإطلاق. إلا أن التقرير يرصد أن المصطلح -من وجهة نظر المستخدم- يغطى مجموعة واسعة من الخطايا تبلور مخاوف الجمهور حول التغطية المنحازة والصحافة الرديئة، والاستخدام السياسى، وتضليل إعلانات الإنترنت، بالإضافة إلى القصص المفبركة عمدا للنشر عبر وسائل التواصل الاجتماعى. ويخلص البحث إلى أنه لن يكون هناك حل سريع لهذا المزيج المعقد من المشاكل المختلفة لكنها مرتبطة بعضها البعض فى الوقت نفسه.
وعلى الرغم من أن العديد من هذه المخاوف (الاستخدام السياسى، البروباجندا وغيرها) كانت موجودة منذ عقود طويلة، إلا أنه من الواضح أن العصر الرقمى والشبكات الاجتماعية قد غيرت قواعد اللعبة بشكل جذرى. ويشير كيفين كيلى مؤسس مجلة Wired إلى الوضع بالقول: "الحقيقة لم تعد تمتلكها وتمليها السلطات، ولكن يتم تناقلها بين الأفراد دون حاجة لمركز أساسى" ونتيجة لهذا الوضع قل إيمان واقتناع الجمهور بوسائل الإعلام التقليدية الشهيرة مقارنة بما كان عليه الوضع سابقا، وفى الوقت نفسه أتاحت الإنترنت للمواطنين مجموعة واسعة من وجهات النظر الأخرى. الحقائق، والحقائق البديلة، والحقائق المغايرة تتواجد الآن جنبا إلى جنب على شبكة الإنترنت (على سبيل المثال على مزود الأخبار بصفحتك فى الشبكات الاجتماعية) وبطريقة تربك الجمهور فى معظم الأحيان.
وحتى الآن، فإن المحاولات المبذولة لمواجهة هذه المشاكل (مراجعة الحقائق، التوسع فى الشفافية) افترضت أنه من الممكن إعادة بناء ثقة الجمهور فى وسائل الإعلام. ولكن كما اقترحنا فى تقرير آخر أصدره معهد رويترز بعنوان "الانحياز، الهراء، والأكاذيب" قد يكون من الصعب إقناع الناس بالحقائق التى تتعارض مع قناعاتهم الراسخة بغض النظر عن مدى صدقها أو شفافيتها. والمزيد من الشكوك تجاه الحقائق هو نتيجة حتمية عند التعرض لمجموعة واسعة من وجهات النظر. وهذا الوضع فى حد ذاته ربما لا يكون شيئا سيئا طالما أنه مدعوم بمصادر أفضل وإشارات للجودة وتحسين مستوى تعامل الناس مع الأخبار.
التوقعات المستقبلية
المنصات الاجتماعية توفر أفضل تكنولوجيا.. ولكنها لا تستطيع حل المشكلة
يمثل الضرر الذى أحدثته المعلومات المغلوطة، والبروباجندا، والانتهاكات تحديا ضخما لشركات المنصات الاجتماعية، مع محاولاتهم للتوازن بين الالتزام بتوفير أقصى حدود حرية التعبير مع تحجيم الأضرار التى يسببها مثل ذلك المحتوى. وللمرة الأولى بدأ المهندسون ليس فقط فى إدراك تداعيات ما قاموا بإنشائه، ولكن أيضا إدراك أن التكنولوجيا وحدها لا تستطيع حل المشكلة. ومن المتوقع أن يبدأ نشر عدد من الأدوات والخوارزميات المصممة لتحديد أنواع معينة من الانتهاكات، وإرسال إخطارات بها للمراقبين البشريين. ومن المتوقع أن تبدأ تلك الخوارزميات فى التعلم الذاتى من القرارات البشرية عبر تقنيات الذكاء الصناعى لتصبح فى المستقبل أكثر ذكاءا وأكثر قدرة على التدخل.
ولكن فى الوقت نفسه من المتوقع أن نشاهد المزيد من النماذج التى تثبت كيفية تطور التكنولوجيا فى خلق الأخبار الكاذبة، على سبيل المثال، هناك التجربة التى نفذتها جامعة واشنطون وضع صوت الرئيس الأمريكى السابق أوباما على فيديو آخر يحاكى بدقة عالية حركة الشفاه، فى الوقت نفسه تعمل شركة كندية تدعى "ليربيرد" على برنامج لمحاكاة الصوت. وبينما يتم العمل على هذه التقنيات لأسباب شرعية تماما، إلا أن هذه التكنولوجيا تظهر كيف يمكن أن تسبب تقنيات محاكاة الصوت أو الفيديو من الأضرار إذا وقعت فى الأيدى الخاطئة كاختلاق تصريحات بالفيديو –مثلا- لشخصيات المجتمع الشهيرة، وهو ما ينقل صراع "الأخبار الكاذبة" إلى منطقة مختلفة تماما.
نضوج تقنيات التحقق من المعلومات
هذا العام، سنرى أيضا المزيد من التركيز على مواجهة تحدى الأخبار المضللة عبر أطراف ثالثة غير المنصات الأصلية، ستزداد عمليات تمويل تقنيات وأدوات فحص الحقائق المستقلة من قبل المنصات والحكومات أيضا خلال الفترة المقبلة، وذلك بالإضافة إلى الحلول نصف الآلية لمساعدة جميع الأطراف على مكافحة الأخبار الكاذبة. الشفافية ستزيد أيضا فى الشبكات الاجتماعية ومحركات البحث مع المزيد من معرفة أين ومتى يمكن إحداث أكبر تأثير. ومن المتوقع أيضا مع زيادة الاهتمام بحلول التحقق أن يتم تحدى هذه الحلول من الأطراف المتضررة، كما يُتوقع أيضا ظهور "وسائل التحقق البديلة".
فى ديسمبر الماضى، أصبحت مجلة "ويكلى ستاندرد" هى أولى المطبوعات الأمريكية "المحافظة" التى تنظم لقائمة "التحقق من المعلومات" المعتمدة. وهذه المجلة كانت من مشاهير ترويج "الأخبار المشكوك بها" ولكنها أصبحت أول مطبوعة حزبية تنضم إلى جهود المكافحة. نتوقع المزيد من المنضمين إلى قائمة المسموح لهم بأن يكونوا من "محققى المعلومات" وأيضا أول من سيتم طرده من القائمة المعتمدة لإخلاله بالقواعد المتفق عليها.
الاهتمام بالإسم.. وأهمية العلامات التجارية الموثوقة
فى عالم الإنترنت المجزأ، يتحول التركيز من إدراك (ما) الذى تصدقه إلى (من) الذى تصدقه. القدرة على تحديد "البراند الإعلامى" الموثوق أو الأشخاص مصدر الثقة، سوف تتحول بسرعة إلى قلب نظام المعلومات الصحى ولكنا ما نزال على مسافة بعيدة من هذا الأمر. ويظهر بحث معهد رويترز أن أقل من نصف عدد القراء (47%) يتعرفون بشكل دائم على "اسم" المؤسسة التى نشرت المحتوى عندما يطالعون هذا المحتوى على فيس بوك أو تويتر أو جوجل.
ولكن بحلول نهاية 2018، من المتوقع أن نشهد تطورا لافتا فى هذا المضمار. تقول جوجل أن ستبذل الجهد لتصعيد المحتوى الأكثر جودة، والمادة ذات المصداقية، وهو الأمر الذى يحتاج إلى جهد من جانب منتجى المحتوى لوضع الوسوم tagging والوصف التفصيلى لهذا المحتوى. ويقدم مشروع Trust Project مؤشرات حول المعايير الأخلاقية والخبرات الصحفية والتى سيبدأ دمجها داخل الخوارزميات هذا العام. فى الوقت نفسه ستبدأ شركات المنصات من منح مساحة أكبر لشركات الإعلام لوضع اللوجو الخاص بها لتسهيل عملية الاختيار على المستهلك، بالإضافة إلى تقديم وسائل جديدة لإضافة الوسوم tags لوصف المحتوى مثل "أخبار عاجلة" أو "تحليل" وهو الأمر الذى يساعد شركات المحتوى على إظهار "البراند" بوضوح.
معظم أمثلة "البراند" التى تظهر فى الصورة أعلاه ما تزال فى مرحلة التجارب، تستخدم فى تطبيقات الموبايل فقط أو تصلح فى التطبيق داخل بعض البلدان دون غيرها، ولكن من المتوقع أن نرى المزيد من التقدم فى هذا الاتجاه وبشكل مستمر عبر المنصات المختلفة والمناطق المختلفة بما فى ذلك "مزود أخبار" فيس بوك ذاته.
المزيد من "التثقيف" حول الأخبار فى الطريق....
التدريب حول كيفية تجنب "الأخبار الكاذبة" سيكون جزءا من الجهد خلال الفترة المقبلة، حيث ستزداد حملات الدعم والتمويل لتقديم المبادرات، والحملات، والبرامج للمساعدة فى هذا المجال، أو كما يقول "دان جيلمور" مدير معهد نايت الأمريكى: "نسعر لتطوير أنفسنا لأن نصبح مستخدمين فاعلين للميديا ولا نكون مجرد مستهلكين سلبيين"، مؤسسة BBC أنشأت موقعا جديدا مخصصا للمراهقين حول هذه القضية، كما ستصحب كبار ومشاهير المذيعين مثل "هو إدواردز" و"آمول راجان" إلى المدارس لتقديم محاضرات للطلبة حول التحقق من المعلومات والأخبار.
أما بالنسبة للوضع المصرى، ورغم غياب الدراسات الموثقة، إلا أنه من الواضح غياب الجهود المنظمة لمكافحة الأخبار الكاذبة بالطريقة التى يتحرك بها العالم، على سبيل المثال هناك الجهد الذى يقوم به مركز المعلومات التابع لمركز الوزراء فى إصدار تقارير لتصحيح المعلومات المغلوطة المنتشرة على الشبكات الاجتماعية، ولكنه يسقط فى الفخ نفسه بالانحياز المطلق لوجهة النظر الرسمية
لدرجة ضياع الهدف الرئيسى من التقرير وافتقاده للثقة والتأثير المطلوبين فى هذه الحالة.
وهناك أيضا عدد من المحاولات المستقلة لمواجهة الأخبار الكاذبة، مثل مبادرة "دا بجد؟" والتى يقوم عليها بعض الشباب لتحقيق بعض الأخبار والصور المتداولة، ولكنها تبقى فى النهاية جهدا محدودا للغاية وإن كان يستحق التحية، ولكن على المستوى العام تغيب هذه المبادرات عن غرف الأخبار الرئيسية فى الإعلام المصري.
_______________
ايهاب الزلاقى– نقلا عن النيوزليتر