31 - 05 - 2025

الشاعر والأكاديمي العراقي د.إياد عبد المجيد: لغتنا مهانة.. وترجماتنا الشعرية تعاني الفوضى

الشاعر والأكاديمي العراقي د.إياد عبد المجيد: لغتنا مهانة.. وترجماتنا الشعرية تعاني الفوضى

همه الأكبر .. العراق والغربة ويقول:

 الصحفيون والكُتَّاب والأدباء يُلْحِنون ويَدَّعون أنهم مبدعون! وثَمَّة مَن يكتب لبعض الشعراء!

- ترجماتنا لشعر الغرب يشوبها القصور؛ ويكتنفها الغموض والسطحية وعدم الأمانة

"عيناكِ يا بغداد منذ طفولتي شمسان نائمتان في أهداب.. لا تُنكري وجهي فأنت حبيبتي وورود مائدتي وكأس شرابي.. بغداد عشتُ الحُسن في ألوانه لكن حُسنك لم يكن بحسابي.. ماذا سأكتب عنكِ يا فيروزتي فهواكِ لا يكفيه ألف كِتاب".. هكذا غناها "نزار" سائراً على درب "المتنبي" حين ناجاها بقوله: "أنتِ لقاء الله بالأمم.. أنتِ انبراء الرُّوح مِن السَّقم".. هل كانا يدريان أنه سيأتي حينٌ من الدهر يمشي فيه البعض على خُطى الخائن "العلقمي" حين دعا لتدمير بغداد فتكالب عليها التتار والمغول بل والطاعون؟! بغداد صاحبة أول حروف مكتوبة؛ وأول شريعة؛ وأزهى ترجمة؛ دار السلام والفلسفة والشِّعر؛ مهدُ الحضارات السومارية والبابلية والأشورية واليونانية والرومانية والفارسية والعربية؛ منارة التاريخ الشامخة.

الغَصص يكاد يقتلنا؛ فما بال أهل العراق أنفسهم سيما الأدباء والعلماء الذين يدركون عِظَم قدرها؟ في حوار المشهد مع الأديب والشاعر مُحكِّم جائزة البُردة للشِّعر العالم الجليل الدكتور/ إياد عبد المجيد إبراهيم أستاذ الأدب والنقد ومهارات الاتصال بدولة الإمارات؛ العميد السابق لكلية اللغة العربية وعلوم القرآن بالجامعة الإسلامية ببغداد؛ يبدأ بقوله: "كان العراق منفتحاً على العالم؛ وكان به خيرة الأدباء في الداخل؛ فضلاً عن استقطاب الكثير من مبدعي ومثقفي العرب والعالم؛ ظلت المهرجانات الأدبية والفنية والثقافية المتنوعة تقام في كل المناسبات كمهرجان "المربد" الذي شهد قمم الشعراء أمثال: الجوهري والبياتي ونزار قباني والفيتوري ودرويش.. غير أنه بعد حصار عام 1990 بدأت الحركة الثقافية تضعف تدريجياً، وهجر المثقفون والأكاديميون، ورغم عودة الرُّوح لبدء تنشيط الوضع الثقافي إلا أن أدباء الداخل من الشباب؛ والبقية الباقية من الجيل القديم؛ والأكثرية مازالوا بالمهاجر والمنافي.

*قمتَ بالتدريس بجامعات العراق وليبيا والإمارات؛ وناقشتَ أطروحات بفرنسا؛ فكيف ترى إقبال الطالب العربي على دراسة البلاغة والنقد؛ وكيف يعي قيمتيهما؟

 -البلاغة من أكثر العلوم إمتاعاً وجمالاً؛ فهي تأخذنا إلى ما وراء الكلمات؛ وصولاً لاستقاء المعنى المقصود كاملاً؛ ووصفه وصفاً تاماً، ليكون له في النَّفس وقعاً ممتعاً وخلاباً، والنقد يعتمد على البلاغة بكل علومها، حيث يساعد على تمييز الكلام الحَسن مِن الرديء، ولا ينفك النقد عن البلاغة ارتباطاً ولا يقل عنها أهميةً ولا جمالاً، فمن خلاله يصبح القارئ قادراً على وضع بصمته على النصوص على اختلافها وعدم الاكتفاء بالتلقي، وكان للبلاغة والنقد الحظ الوفيرمن الدراسة على امتداد العصور والأزمان، واليوم إذا ما تهيأت الفرصة لرعايتهما في مؤسساتنا التعليمية -مثلما نوفر للعلوم الأخرى- من مساحة كافية للتدريس؛ وأساتذة مبدعين؛ فسنخلق جيلاً يؤصل للمفاهيم؛ ويفتح النقاش مرة أخرى لعلمٍ ادَّعوا بهتاناً أنه احترق، سنتجه لقراءة الموروث البلاغي والنقديي واستنطاق التراث، والحقيقة نحن نوجِّه طلابنا اليوم خاصة وأنَّ كثيراً من الأدباء الحاليين لا يمتلكون فهماً دقيقاً للغة وإمكاناتها التعبيرية الدقيقة السليمة، لذلك نراهم لا يمتلكون لغة خاصة بهم، سوى اللغة الاعتيادية المتداولة والمتقشفة التجريدية التي تنأى عن البلاغة ومحسناتها المعتادة؛ والتي تنبع شِعريتها من استعمالاتها وتوظيفها على هذا الوفق، وتلك لعمري  مهمة البلاغة والنقد التي نحرص أن يتسلح بها طلاب الدراسات العليا.. وحقيقة قد نهض شباب واعد بدراساتهم البلاغية والنقدية الحديثة، فأعادوا للدرس البلاغي عافيته من خلال تأصيل مفاهيم الشعريات المعاصرة، ومباحث لسانية بنيوية وسيميائية وتداولية في المدونة البلاغية القديمة؛ وإبراز دور التراكم المعرفي في إنضاج المعارف وبلورة المفاهيم والتصورات، وإدراك ما للتداخل المعرفي مِن أهمية في تفعيل مناهج وآليات تحليل الظواهر والإشكاليات المتصلة بالنصوص القديمة.

 

*مشاركاتكم العديدة في ندوات تهتم بترجمةالشعر الغربي يجعلني أسالكم عن تقييمكم لها؛ وماذا أضافت للقصيدة العربية سلباً وإيجاباً.

- مايزال هذا الموضوع شائكاً؛ إذا أخذنا بعين الاعتبار كل ما تُرجم لنا مِن شِعر غربي، فترجمة النصوص الشعرية ليست ترجمة نصية، والقصيدة لو ترجمها مترجِم انفس يخرج لنا نصان مختلفان، إذ أن للكلمة معنى داخل القصيدة قد يختلف عن معناها خارجها؛ لأن النصوص تحمل قيماً جمالية تعبيرية؛ أسلوباً؛ لغةً تصويرية؛ استعارات؛فضلاً عن العلاقة الداخلية بين النص والقارئ كما يقول "إليوت"، وللأسف فإن بعض المترجمين معرفتهم باللغة قد تكون جيدة لكنها قاصرة في المعرفة بثقافة اللغتين وتاريخيهما، فثَمَّة مشاكل يواجهها المترجم اليوم منها اللغوية والأدبية والجمالية والاجتماعية والثقافية.. وهذا ما جعل بعض الإضافات الغربية إلينا ذات تأثير محدود وأحيانا غير دقيق، وفي القصيدة لا يتحقق التعبير عن الجَمال باختيار كلمات ولغة تصويرية كما في الروايات؛ بل يتطلب إنشاء إيقاع؛ قافية؛ وزن؛ تعبيرات وتراكيب محدودة  قد لا تتفق مع المتداول في اللغة اليومية، باختصارٍ شديدٍ فإن ترجمة الشِّعر تحتاج لشئ آخر أكثر مما تحتاجه ترجمة الأنواع الأخرى من الأدب.. فالقيم الجمالية حسب "نيو مارك" تعتمد على التركيب الشعري: خطة القصيدة؛ توازن الجُمل؛ الاستعارات؛ الصوت؛ الإيقاع؛ السجع؛ المحاكاة الصوتية؛ امورٌ لا يمكن للمترجِم تجاهلها.

بناء على ما تقدم؛ فإن مجموع ما تُرجِم مِن الشِّعر الغربي لا يعبر عن طموح القارئ العربي.. نعم اطَّلعنا على أشعار الغرب؛ لكن هناك مساحة شِعرية هائلة ماتزال معلقة.. سيما في لغاتها الأم؛ كالفرنسية والإيطالية وغيرهما، وكثير من الترجمات الحالية قد خضعت لمعايير الانتقائية، فضلاً عما شابَها من ضَعف، كما أنها لم تمثل ماهية وأغراض الشعر العربي.. ويرى بعض الباحثين أن بعض الترجمات تأتي من غير لغتها الأصلية؛ كما فعل "السَّياب" حين أخفق فيها؛ رغم أنه شاعر متخرج في قسم اللغة الإنجليزية، فحين تمتْ ترجمة "رامبو" مِن الفرنسية إلى الإنجليزية كانت الخسائر قليلة؛ كون اللغتان تنتميان إلى عائلة واحدة، ثم لمَّا تُرجم من الإنجليزية إلى العربية  كانت الخسائر أكبر! ولا تكون الأمانة إلا عندما يكون المترجم محيطاً باللغتين: الأصلية للمترجٍم ولغة النص المُترجَم؛ كي تتم مطابقة ترجمة النص الأصلي في مبناه ومعناه، وهذا صعبٌ جداً.. هكذا تصلنا بعض النصوص المترجمة إلى لغتنا.. يسوقها الناشر والمترجم  بدوافع مادية؛ فكَم ستضيف أمثال هذه النصوص للقصيدة إيجاباً؟ لقد خلقت لدينا غموضاً وسطحية، وسببت الترجمة عندنا فوضى في الصور واللغة والأسلوب والقيم الجَمالية!

*أصدرتَ العديد من الكتب النقدية والبلاغية والنحوية؛ وأربعة دواوين شِعرية؛ فهل لك أن تُطلع القارئ المصري على بعض حروفك؟

-قلتُ في العراق وفي الغربة الكثير؛ فقد صارا هُما الهَم، في قصيدةٍ عدتها نافتْ على مائة وخمسين بيتاً أقول فيها: 

بلاد الرافدين  إليك حزني                وقد شرقت بغصته الُّلهاة

تكفننا سوافي الريح قسرا                 فتبكي في الديار الأمهات

سياط الذل تلهب ظهر قومي            وأُعقمت النساء المحصنات

كتمنا كل آهات الثكالى                  ترجعها الدموع الذارفات

يموت الفارس المغوار فينا             بحسرته فقد طال السبات

وترميني مقاليع تناهت                 إلى أفقي وعني مخبرات

أنا المجروح أبكي كبريائي           وفي قلبي الجراح مجددات

أنا المشغوف يا وطني وقلبي            شجي أرقته الشاجيات

وكيف أنام والليل استراحت          بأضلعه الدواهي الداهمات

أنا النزف، أحلامي سراب            وآفاقي نجوم كاسفات

فآه يا زمان الحزن آه                 وتقتلني العيون الشامتات

ولكن كل حزني تصطفيه            لحوني المنتقاة المتقنات

فهل أبقى وحيدا في همومي        وقد ختمت بحزني القافيات؟!

 

*شاركتَ في تحكيم جائزة البردة؛ وأشرفتَ على أطروحات عُلْيا بالعالم العربي وفرنسا؛ ولم يشفع كل هذا للحد مِن قلقك على اللغة العربية وتردي مستوى الاهتمام بها.

- نعم سيدتي؛ فالعربية مُهانة في وطنها، وصار الإقرار بضعفها أمراً واقعاً للأسف، فليس ثمة متخصص أو مهتم بأمورها لا يؤكد هذا، أبناؤنا يكملون دراستهم في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية وينتقلون إلى الجامعة وهم لا يستطيعون كتابة أسطر معدودة يعبرون بها عن أفكارهم وأخيلتهم وتجاربهم الشعورية، بل ويتخرجون في أقسام اللغة العربية والدراسات الإسلامية ولا يجيدون قراءة القرآن الكريم، أساتذة لا يبالون بالأخطاء؛ وصحفيون وكُتَّاب يحتاجون إلى من يراجع لهم ما كتبوه، محلات تجارية وأسماء شوارع ورسائل نصية تأتيك وأنت في بلد عربي - ومراسلات داخل المؤسسات ذاتها- تُكتب باللغة الأجنبية، فما بالكِ حين تستمعين في المحافل الأدبية لشعراء وكُتَّاب يلحنون ويخطؤون ويتجرؤون ليقولوا أنهم شُعراء وثمة مَن يكتب لهم! بل استفحل الأمر وبات الضعف والتردي يهدد كيان الأمة ومستقبلها، وينذر بخطر مسْخ هويتها، واجتثاث أهم مقومات وجودها وهي اللغة، أضحى المتحدث لا يستطيع أن يُفضي بعبارة واحدة من دون أن يطعمها بمصطلحات وألفاظ أجنبية متباهياً من دون إحساس بالذنب، وأصبح العربي في  عداءٍ معها! إنه مسخ للهوية، وغزو فكري، واستهداف للأمة؛ وهويتها؛ ودينها؛ ومقوماتها؛كي لا تنهض.
 ------------

حاورته: حورية عبيدة