09 - 05 - 2025

القناطر والمجهول

القناطر والمجهول

قضيت أكثر من ثلثي عمرى بالخارج. بدأت بعمل بسيط، بإصراري ودأبي تتابعت ترقياتي. زاد مرتبي وارتفع دخلى. عاماً بعد عام، تشعبت جذورى في بلد النفط والغاز واستقر في داخلى أنى لن اترك هذا البلد إلا في حالتين، التقاعد أو الرحيل. منذ سنوات ونمط عملى لا يتغير. مواعيد الدوام ثابتة. مسئوليات العمل محددة. جنبتني الخبرة الاضطراب والتوتر أمام المستجدات والمتغيرات. الأولاد في مدارس أجنبية تجمع أطياف ثقافات متنوعة جَنَبَتهم الاحتكاك المباشر بأبناء البلد الذين لا ينفكوا يعاملوا الوافدين بشيء من التمييز، حتى أنا تنحصر صداقاتي فى زملائي الأجانب أو المصريين. مواعيد الاجازات ثابتة، يعرفها الأهل ويرتبون مناسباتهم السعيدة على توقيتات تواجدنا. 

أقابل أصدقاء العمر في الاجازات، سواء من أطلق العنان لجناحيه فسافر من بلد إلى آخر أو أولئك الذين فضلوا العمل في مصر. صارت لهم أعمالهم الخاصة. تتفاوت في حجمها ونجاحاتها وإخفاقاتها. تنتشر أعمالهم في عموم المحروسة، وقليل منهم من يمتلك فروعاً خارج حدودها.

كأنما صحونا، أنا وزوجتي، فجأة. آن أوان دخول الأولاد الجامعة. عادة يوجد خياران أمام أمثالي، الأول نزول الزوجة والأولاد إلى مصر وبقاء الزوج في الخليج، والثاني إرسال من يأتي عليه الدور من الأولاد إلى مصر للدراسة والتناوب على زيارته. خياران كلاهما مر لأسرة تمثل العاطفة والترابط الأسرى عصب حياتها اليومية.

الليلة طرحت زوجتى فكرة العودة الجماعية، ناقشنا الأمر بهدوء أو استسلام، إن شئت الدقة. عددنا التحديات، البدء من جديد وقد قارب العقد السادس ان ينتصف. العمل في مناخ مختلف يحتاج إلى علاقات متشابكة وشيء من نفوذ وهدايا تقدم في مناسبات مختلفة، وإن لم توجد المناسبة اخترعناها. أيضاً ألمح البعض إلى أمور لم اتعرض لها في حياتى، من مثيل المحسوبية والرشوة. من جهة أخرى، مدخراتنا إما مجمدة في صورة شقة فاخرة وسيارتان حديثتان وشاليه، أو مخصصة لتعليم الأولاد والحفاظ على مستوى المعيشة الجيد. تكاليف بدء عمل جديد متاحة لكن يظل السؤال، هل يتحقق النجاح؟، ومتى؟. هل تضمن العائدات المتوقعة العيش في ذات المستوى. وإذا كنا اليوم نشكو ارتفاع الالتزامات المادية فما بالنا بها عند زواج الأولاد.

أعرف زملاء قرروا الاستقرار بمصر، ثم ما لبثوا أن عادوا للخليج مرة أخرى. كم كانت عودتهم صعبة وبمزايا أقل، لكنها كانت أهون من الاستمرار في ذات المسار. أقف في مفترق طرق وتتنازعنى الأحلام، أحياناً أجدنى منسجماً مع نزول ابنى وحده للدراسة، وأحياناً نزولهم وبقائى، ونادراً ما رأيتنا جميعاً في مصر. حيرة وضيق لا أعرف كيف ولا متى ينتهى هذا الأمر. أحياناً ألعن اليوم الذى سافرت فيه للعمل بالخارج، وأحياناً ألعن التعليم، توترت حياتي بشكل نسيت معه هدوئي وشخصيتي المحبة للسكينة. 

هبط الليل ونام الأولاد وما زلت في حيرتى، غادرت غرفة النوم وجلست في المعيشة، أضأت الأباجورة فسقط النور على كتاب (أصداء السيرة الذاتية) لنجيب محفوظ، كنت أقرأ فيه عصر اليوم ثم نحيته جانباً عندما جاءتني ابنتي تسألني عن شعور بالغربة يلازمها كلما نزلنا اجازة. قلبت الأوراق وملء جفونى قلق وأرق، وقعت عينى على قصة قصيرة جداً بعنوان قطار المفاجآت، جاء فيها (فى عيد الربيع يحلو اللهو ويطيب، وقفنا جماعة من التلاميذ فى بهو المحطة بالبنطلونات القصيرة، وبيد كل واحد سلة من القش الملون مملوءة بما قُسم من طعام، وكان علينا أن نختار بين رحلتين وقطارين، قطار يذهب إلى القناطر الخيرية، وآخر يمضى إلى جهة مجهولة يسمى قطار المفاجآت.. قال أحدنا: القناطر جميلة ومضمونة، فقال آخر: المغامرة مع المجهول أمتع، ولم نتفق على رأى واحد، ذهبت كثرة إلى قطار القناطر، وقلة جرت وراء المجهول).
 -----------------

بقلم: د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]

 

 

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد