01 - 06 - 2025

الفكر الحر والفكر المُـنغلق

الفكر الحر والفكر المُـنغلق

يذهب ظنى أنّ من أخطر الآقات التى تعرّض لها البشر- منذ بدء تكوين مجتمعات إنسانية.. هى آفة (الإيمان بالمطلق) وهذا الإيمان لابد أنْ يتواكب معه- كنتيجة أوكمُـتلازمة- أنْ ينغلق عقل الإنسان المؤمن بالمطلق، حيث يرفض الانفتاح على (آى) آخرمختلف عنه، حتى لوكان من داخل أديان واحدة كبرى، حيث شهد التاريخ الكثير من مشاهد الاختلافات والصراعات بين اليهودية والمسيحية والإسلام، ليس ذلك فقط وإنما انقسم أبناء الديانة الواحدة إلى (مذاهب) وأبناء المذهب الواحد انقسموا إلى (فرق) إلخ.. وليت هذا الانقسام دار فى أجواء من الحوار العقلانى، أوحتى (عاطفى) ولكن بدون عنف وبدون تكفير المختلف.. ولكن ما حدث هو أنّ الانقسام أخذ أشكالا عنيفة وصلت لدرجة الاشتباكات المسلحة.. وقد وصل تاريخ الفرق والمذاهب الإسلامية لدرجة التكفير المُـتبادل بين أصحاب هذه المذاهب والفرق.. ووصلتْ المغالاة لدرجة تكفير الكثير من الرموز الإسلامية، التى لها (قداسة) لدى الغالبية العظمى من المسلمين، سواء من ينتمون للمذهب السنى، أو من ينتمون للمذهب الشيعى..وذلك على النحو الذى شرحه بالتفصيل العلامة الشهرستانى (1068- 1153م) فى كتابه الموسوعى (الملل والنحل) والذى أصدرته مؤسسة الحلبى فى ثلاثة أجزاء- وأعادت الهيئة العامة لقصور الثقافة طباعته عام 2014.  

كان حافزى لكتابة هذه المقدمة (المختصرة) الفيديو البديع الذى نال نسبة عالية من المشاهدة (وصل العدد مائة ألف على الفيسبوك..وثلاثين ألفــًـا على تويتر) فما سبب هذا الانتشار الواسع لذلك الفيديو الذى تم تصويره (بعفوية هواة التصوير) أى بدون تعمد: الحكاية أنّ رجلا (مسلمًـا) فى ماليزيا (يبدو أنه حديث العهد بالمجتمع الماليزى) بحث عن مسجد ليصلى فيه.. فلم يوفق فى بحثه. دخل معبدًا لطائفة السيخ (وهو لايعرف أى شىء عن تلك الطائفة) استقبله معلم الطائفة وسأله عن سبب دخوله المعبد.. قال له أنه يبحث عن مسجد ليصلى فيه. سمح له معلم طائفة السيخ أنْ يصلى صلاة المسلمين داخل المعبد.. وقد جاء بالفيديو صورة الرجل المسلم وهو يصلى صلاته.. وبجواره بعض المواطنين السيخ وهم يؤدون صلاتهم.. وقد حدث ذلك يوم 20/8/2018.. وأشادتْ به صحيفة (ديلى ميل البريطانية) وأشارتْ إليه صحيفة الشروق المصرية- 29/8/2018. 

تلك الواقعة أكــّـدتْ لى ما رسخ فى وجدانى وعقلى منذ مرحلة صباى وشبابى، حيث التلاحم والذوبان فى نسيج شعبنا المصرى، فقد حكتْ لى جدتى أنّ أمى (التى ماتت بعد ولادتى بشهور) كانت تذهب مع الست (أم نعناعة) لزيارة (ستنا العدرا) وأم نعناعة تذهب مع أمى لزيارة السيدة زينب.. ولما تخطيتُ سن العشرين ضغطتُ على جدتى لتحدثنى أكثرعن علاقة أمى بالست أم نعناعة، فقالت إنّ أم نعناعة هى التى أرضعتنى بعد وفاة أمى. 

وكم كانت فرحتى عندما وجدتُ أنّ ما حكته جدتى، تطابق إلى حد كبيرمع ما كتبه المؤرخ الجاد د. رؤوف عباس (1939- 2008) فى كتابه (مشيناها خطى) الصادر عام 2004 عن دارالهلال. الكتاب سيرة ذاتية من نوع نادر. فيذكر أنه (وهوالمسلم) ظلّ يقول لجارة جدته أم جرجس (يا عمتى) حتى بلغ الثامنة من عمره.. والسبب أنّ أم جرجس كانت تنادى جدته لأبيه (يا أمى) وتخاطب أبيه (يا خويا) لذلك اعتقد الطفل رؤوف أنّ أم جرجس شقيقة والده. خاصة أنّ (أبو جرجس) كان يقول للجدة (ياحماتى) وعن (عزبة هرمس) بشبرا فهى ((مصر الصغرى. عاش سكانها معًا وكأنهم أسرة واحدة. يأكلون معًا من طبق واحد. وكانت النسوة المسلمات والقبطيات يتبادلنَ إرضاع الأطفال..والجميع لايفوته واجب عيادة المرضى وتقديم التهانى فى الأفراح والتعازى فى الأحزان)) (ص21، 22)   

وحكى والد زوجتى قبل أنْ يترك المنيا ويستقرفى القاهرة، أنّ أحد القساوسة تعوّد أنْ يمر على بيوت المسلمين فى عيد الفطر.. وفى عيد الأضحى..ويـُـوزّع الأقمشة على فقراء القرية.. وفوق قطعة القماش (ريال) أى عشرين قرشـًـا بسعر بداية القرن العشرين، عندما كان الريال المصرى= دولارًا..وهو ما تأكــّـد فى فيلم المليونيرلإسماعيل ياسين (إنتاج سنة1951) ولعب فيه شخصية مزدوجة جميز (المونولوجست فى ملهى) وعاصم الاسترلينى الذى طلب من جميز أنْ يحل محله فى الفيلا.. وسأله عن أجره فقال جميز (ريال فى الليلة) فقال الاسترلينى بسخرية (يعنى دولار)؟! والمستفاد من هذا المشهد الذى أكــّـده المؤرخون والاقتصاديون الذين تناولوا تاريخ مصر قبل يوليو1952، أنّ الجنيه المصرى كان = خمسة دولارات. 

وأعتقد أنّ حكاية القسيس الذى حكى والد زوجتى قصته، هى واحدة من عشرات الأمثلة المذكورة فى كتب المثقفين الذين عاشوا شبابهم وشيخوختهم فى الفترة السابقة على يوليو 52، عن المسيحيين الذين تبرّعوا لبناء المساجد.. وعن المسلمين الذين تبرّعوا لبناء الكنائس.. ولأنّ شعبنا فى تلك الفترة كان شديد الإيمان بالتعددية.. وبالتالى اختفى التعصب العرقى والدينى والمذهبى من تكوينه النفسى والعقلى.. ولذلك كان من الطبيعى أنْ يرأس مجلس الأمة المسيحى الشهير(ويصا واصف) مرتيْن: الأولى من20مارس 1928- 18يوليو 28، والثانية من 11 يناير 1930- 21 أكتوبر 30.. والأمثلة يصعب سردها فى هذا الحيز..ولكن ثورة شعبنا فى شهربرمهات/مارس 1919يغنى عن أية تفاصيل.. حيث أنّ الشعب الذى ساند زعماء الوفد المصرى فى مباحثاته بجلاء الإنجليز.. فإنّ رصاص الإنجليزلم يـُـقرّق بين المسلم والمسيحى، ولذلك كان من الطبيعى أنْ يـُـغنى سيد درويش والجماهير تـُـردّد وراءه ((اللى تجمعهم أوطانهم..عمرالأديان ما تفرقهم)) 
-------------------
بقلم: طلعت رضوان

مقالات اخرى للكاتب

أين الدول العربية من التنافس الأمريكى الروسى؟