كنت أنوى كتابة هذه الرسالة منذ أيام قبل حدث اعتقال السفير معصوم مرزوق والدكتور يحيى القزاز وآخرين، لكننى آثرت تأجيله حتى تمر أيام العيد، وحتى أمنح بعض الراحة لجهاز عصبى أثر إرهاقه على أداء باقى وظائف الجسم ... ثم جاء ثالث أيام العيد، وكأنه يقتبس مما فعله الجيش الأمريكى فى العراق يوم الأضحى، حاملاً معه بيت المتنبى الذى استقبل به العيد:
عيدٌ، بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ؟! بمَا مَضَى، أمْ بأمْرٍ فيكَ تجْديدُ؟!
عرفت السفير معصوم مرزوق والدكتور يحيى القزاز معرفة مباشرة، وكانت بيننا أحاديث معظمها على البعد، وربما حتى بشكل غير مباشر ... اتفقنا فى أمور، واختلفنا فى غيرها، وهذا من طبائع الأمور؛ بل ربما كان للسفير معصوم مرزوق رأى قاس فى شخصى وفى أفكارى ومبادراتى، مما تقبلته وقتها - ومازلت - دون أن يسقط صاحب الرأى القاسى هذا من قائمة الرجال المحترمين الذين كنت أربأ بمؤسسات الدولة المصرية أن تتعامل معهم بهذه الغلظة والخشونة وكأنهم مُجَرَّمون بخيانة الوطن والعمل على هدم دعائم الدولة !
سنة الحياة كما خلقها البارئ سبحانه وتعالى هى دفع الله الناس بعضهم ببعض حتى لا تفسد الأرض، وهو ما يتجاهله نظام حكم لا يعترف بأن دفع الأفكار لا يكون إلا بالأفكار ... وكأنه نظام يعلن إفلاسه الفكرى - سياسياً واقتصادياً، وحتى دينياً وتاريخياً - ولا يعرف من لغة الدفع إلا مفردات القمع الأمنى والقانونى بعيداً عن الوظيفة السامية لكل من الأمن والقانون فى بنائية أى دولة حديثة تبحث عن أكسير حياة يجعلها "قد الدنيا"، حتى لقد أوهموا المصريين بأنها ستكون دولة تتعجب من سحر الأكسير الذى بأيديهم قبائلُ العفاريت !
لكل منا ولا شك رؤيته للأمور، وقراءته للواقع، واستشرافه للمستقبل؛ ودفع أفكار بعضنا بأفكار بعض - مهما بلغت حدة الاختلاف الفكرى والسياسى، طالما بقى سلمياً - هو السبيل الوحيد لفرز الأفكار، وللوصول إلى أرض عقلانية مشتركة تكون ملاذاً للوطن وللدولة من هول الطوفان القادم الذى يهدد العالم كله لا مصر وحدها؛ أما اللجوء للوسائل القمعية والمعالجات الأمنية والقانونية الخشنة للاختلافات - أو حتى الخلافات - السياسية فإنه لا يشى إلا بضعف الدولة وتآكل قدراتها ... فالبطش كان دوماً من أعراض ضعف الدول فى مراحل أفولها - وإن تلألأت أنوار قصورها - لا من أعراض قوتها ... اقرأوا ما كتبه فلاسفة السياسة والتاريخ عبر العصور، علكم تفلحون !
كنت أنوى كتابة رسالة عن رأيى فى مبادرة السفير معصوم مرزوق الأخيرة، وبيان ما أراه عواراً خطيراً فى بنائيتها مما لا أرى من المناسب الخوض فيه الآن، وفى هذا الظرف الحزين الذى يمر به الرجل وتمر به الدولة المصرية، وإن كنت أرجو أن أجد خلال الأيام القادمة مخرجاً يعصم أفكارى وكلماتى من أن تكون سلاحاً يطعن به المتربصون رجلاً أحترمه رغم ما قد يكون بيننا من خلافات فى الرؤى والتصورات ... أرجو أن أجد السياق المناسب الذى لا يدين صاحب المبادرة، وإنما يساعدنا فقط على تبين معالم الطريق نحو مستقبل تفلت معطياته الفكرية والميدانية من بين أصابعنا ونحن نحسب أننا مازلنا نمسك بخيوطه ونتحكم فى زمامه !
أعان الله السفير معصوم مرزوق والدكتور يحيى القزاز وكل المعتقلين السياسيين وضحايا المعالجات الأمنية والقانونية "الغاشمة" على ما هم فيه من محنة ييسرها الله عليهم بمشيئته، فقد وسعت رحمته كل شئ، وهو على كل شئ قدير!
-----------------
بقلم: د. حازم حسني