09 - 05 - 2025

المنفعة الحدية للكلمات

المنفعة الحدية للكلمات

أعلم يقيناً أن أى فعل مؤثر هو فعل تراكمى بالضرورة، استهدف هذا الفعل تطور شكل الحياة بصفة عامة أو تطوير الحياة الإنسانية على وجه خاص ... وسواء استهدف هذا الفعل التراكمى تغيير أحوال الإنسان سياسياً أو اقتصادياً، معرفياً أو حضارياً، علمياً أو دينياً، أدبياً أو فنياً، فإن الكلمات تكون دوماً هى أداة التأثير بقدرتها على التعبير عن الإرادة الإنسانية وترجمتها إلى رؤى وتصورات وتوجهات؛ والكلمات فوق ذلك هى أدوات التواصل بين أصحاب هذه الإرادات بما يُمَكِّن التفاعل الإنسانى والاجتماعى الذى بغيره لا تقوم المجتمعات ولا تستقر الدول !

الله سبحانه وتعالى نفسه، وهو القادر على كل شئ، إنما يعبر عن قدرته هذه بالكلمة، والكلمات عنده لا تنفد، ولو أن جئ بماء البحر لها مداداً لنفد ماء البحر دون أن تنفد كلماته ولو جئ بمثل ماء البحر هذا مدداً ... لم ينفر الله سبحانه وتعالى من الكلمات، ولا هو تبرأ منها وبرهن على قدرته بمخاصمته أدوات الكلام، ولا هو قال فى أى كتاب مقدس إنه "مش بتاع كلام" ! ... حتى العلم الطبيعى لا يستقيم له معنى بمعزل عن فلسفته، وفلسفة العلوم زادها الأفكار، والأفكار وعاؤها اللغة، واللغة أدواتها الكلمات !

بيد أن الكلمات كعناصر المركبات الكيميائية لها أنواع وجرعات، وتخضع لمجموعة قواعد وأصول، إن نحن أخطأناها أفسدنا كل شئ، وصار الدواء سماً قاتلاً، وصارت الحياة مع المرض أقل وطأة من الحياة مع دواء فاسد ... وللكلمات - بلغة الاقتصاد - منفعة حدية، وهى المنفعة التى تعود على "مستهلك" اللغة مع كل كلمة تضاف لما تراكم قبلها ... وتناقص المنفعة الحدية قانون معروف فى الاقتصاد، وما أعتقده إلا سارياً عند التعامل مع الكلمات؛ فهى فى سياق معين تتناقص منفعتها كلما تراكمت، حتى لتفقد الكلمات أحياناً كل منفعة لها، بل وقد تتحول لمنفعة سالبة تخصم من رصيد ما تراكم ولا تضيف إليه !

أعلم يقيناً أن ما قمت به وقام به غيرى - اتفقوا معى فى الرؤية وفى التوجه أو اختلفوا - من تناول للشأن العام، ومن بيان وجه التشوهات فى السياسات التى تدير أحوال البلاد والعباد، إنما راكم الأفكار عبر السنوات الماضية بما قد يكون رفع مستوى الوعى أو مستوى الثقة فى أن الحياة مستمرة وأن الأمة لم تلفظ بعد أنفاسها الأخيرة كما يتمنى لها المتاجرون بجثتها؛ لكن مراكمة النقد لسياسات صارت عارية تماماً أمام الجميع - حتى أمام مؤسسات الدولة التى تخشى أو هى لا ترغب فى الاعتراف بأن الملك يسير فى شوارع التاريخ عارياً - سوف تكون فى تقديرى مراكمة سلبية تمثل عبئاً على ما تراكم لا إنماءً له ! ... لا يعنى هذا بطبيعة الأحوال أن نلوذ بالصمت خوفاً أو طمعاً، لكنه يعنى فقط ضرورة إعادة تشخيص المرض الذى نبحث له عن دواء حتى نعرف فى أى جدول من جداول الصيدلة نبحث عن هذا الدواء !

منذ بضعة أيام، كتبت فى رسالتى قبل الأخيرة أقول : "سيذهب بندول القدَر فى دورة نكوصه حتى نهايتها، ولا شئ سيمنعه من الوصول إلى هذه النهاية، لا أنا ولا غيرى، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها؛ لكن الاعتقاد بأن رحلة البندول هذه هى دعوة لليأس من المستقبل إنما تبدو لى غفلة عن سنن الأقدار، فرحلة البندول هى رحلة ذهاب وإياب، وكل ما له بداية لابد له من نهاية؛ وحتى إذا وصلنا مع بندول القدر لما نخشاه، وهو الكارثة، فلابد أن نسأل أنفسنا السؤال الأهم وهو : ماذا بعد الكارثة؟" ... صدق ما توقعته، فالبندول مستمر حتى نهاية رحلته التى نراها رحلة نكوص، ويراها غيرنا رحلة تقدم إلى الأمام ... لا أريد أن أنصب من نفسى حكماً على اتجاه رحلة البندول، فالأيام وحدها ستحكم بيننا كما سيحكم الله بيننا فيما نحن فيه مختلفون؛ لكننى أرى أن الأسوأ لم يأت بعد، وأن اعتقالات الأضحى لن تكون نهاية رحلة البندول !

أعرف أن هواة المراهقة الثورية، الذين أرهقونا بأكثر مما أرهقوا أنفسهم، سيخرجون علينا بهتافات صبيانية من نوع "الثورة مستمرة"، وكأن الثورة هدف فى ذاتها، أو من نوع "يسقط يسقط حكم العسكر"، وكأن مشكلة مصر هى فى أنها دولة يحكمها العسكر ! ... الحقيقة هى فى مكان آخر لا يراه المراهقون ! ... فى فمى ماء يمنعنى من البوح بمكمن الخطر الحقيقى، فالكلمات هنا لن تضيف بل ستخصم، ونحن بحاجة لمراكمة ما يفيد ويزيد من تراكم المنفعة لا لما يضر ويُنقِص مما راكمناه ! ... فقط اقرأوا جيداً - وبعناية فائفة - مفردات ما جاء فى الخطاب الأول الذى ألقاه الفريق أحمد شفيق لإعلان نيته الترشح للانتخابات الرئاسية، ثم مفردات خطاب إعلان الفريق سامى عنان نيته الترشح، ثم البيان المنسوب للقيادة العامة للقوات المسلحة الذى صاحب اعتقال الفريق عنان ... ربما تكتشفون من هذه القراءة الثلاثية لماذا كانت لغة الغضب التى صيغ بها هذا الأخير، وأن الأزمة لم تكن فى مجرد التنافس على كرسى الحكم بقدر ما كانت شيئاً أكثر خطراً مما يمكن أن أسميه - مستعيراً لغة أوفيد - "التحولات" ! ... التحولات هنا تتعلق بمفهوم الدولة نفسه، وهو ما توارى عن أعيننا وراء ما تكاثر علينا من سحب الدخان ... دخان الوطنية الزائفة، ودخان الشرعية المبتسرة، ودخان لقمة العيش المراوغة، ولقمة البقلاوة التى صارت إلهاً ننحر له فلذات أكبادنا عله يرضى ... والقائمة تطول !

لا أدعو أحداً للتخلى عن شعاراته، ولا للخروج عن مساراته، ولا للسعى وراء كلماتى إن كانت لا تعبر عن أفكار يقبلها عقله ويستريح لها ضميره؛ فما أراه لا يخص إلا إياى، والماء الذى يملأ فمى لا يُلزِم غيرى بالخروج من سحابات الدخان لاستعادة المعانى الوجودية التى ضاعت منا فى كل هذا الزحام ... لم أعد مهتماً بفضح الملك الذى يسير عارياً، ولا أنا سأهتم بعد اليوم بكيف يراه الناس؛ فقبل أن نحرر الناس من أوهام الملك العارى المؤمن بردائه السحرى، علينا أن نتحرر نحن أولاً من أوهامنا التى جعلتنا نظن أن الحل هو فى إسقاط هذا الملك حتى وإن لم يستر من يأتى بعده إلا سحابة من سحابات الدخان ! ... ما يشغل دائرة اهتمامى الآن هو أن تكون لكلماتى منفعتها الحدية التى تتعاظم، لا أن أردد بلا فائدة تُرجَى بعض ما يطلبه المستمعون ! ... ربما لا أعرف بعد كيف سيكون هذا دون أن ينسكب الماء من فمى، لكننى سأجد الحل إن شاء الله طالما توافرت الإرادة وخلصت النية.

كان الله فى عون مصر، وليوفقنا جميعاً للخروج بها وبنا من هذا المستنقع ومن مياهه الآسنة !

مقالات اخرى للكاتب

أسئلة الطريق