09 - 05 - 2025

ملك وصعاليك

ملك وصعاليك

(لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه)، قانون نيوتن الثالث للحركة. وضعه منذ أكثر من مائتى عام وما زال قيد التطبيق. على ضوئه فُسرت وتُفسر الكثير من الظواهر. استخدمه علماء الميكانيكا لتصميم الـمَركبات والسياسيون لتفسير بعض الظواهر. عند وقوع حدث ما يترقب الجميع مستوى رد الفعل. ما يبدو ساحقاً ماحقاً مثيراً للإعجاب لدى العامة يراه المحللون جهلاً بتقدير الفعل، ومن ثم عدم التحسب لتبعات رد الطرف الآخر.

حتى الآن، لا أتقبل رواية أن عمرو بن كلثوم، سيد تغلب، زار عمرو بن هند، ملك بنى المنذر، فطلبت أم الأخير من أم الأول أن تناولها طبقاً فأبت، فألحت عليها أم عمرو بن هند، فما كان من أم عمرو بن كلثوم إلا أن صاحت (وا ذلاه)، فما أن سمع ابنها صرختها حتى استل سيفاً مُعلقاً وقتل بن هند، ثم أمر رجاله فسلبوا القصر.

فُرضت علينا القصة وبعضاً من معلقته (أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَا :: وَلاَ تُبْقِي خُمُـوْرَ الأَنْدَرِيْنَا)، ولا أدرى أين العزة بالنفس والإباء والشمم في رجل سمع أمه تصرخ فما كان منه إلا أن قتل مُضيفَه من دون تحر للأمر، ويا ليته توقف عند هذا، بل نهب وسرق وسبى، وكأنه ما ذهب لزيارة قدر نيته الغدر، فحشد من الرجال ما يعينه على قصده. هذا إن صحت القصة من أصلها، أو صح أن سبب صيحة أمه رغبة أم عمرو بن هند أن تُذلها، وليست فرية ادعاها ليحلل ما قام به.

في القصة أيضاً إشارة ان العرب لم تأنف من نسب الأولاد إلى امهاتهم، فعمرو بن هند هو حفيد صاحب معلقة (قِـفَـا نَـبْـكِ مِـنْ ذِكْـرَى حَـبِـيبٍ ومَنْزِلِ :: بِسِـقْطِ اللِّـوَى بَيــْنَ الدَّخُـول فَحَـوْمَلِ)، أمرؤ القيس، وأبوه المنذر، ومع هذا عُرف بأمه ذات النسب، أكثر مما عُرف بأبيه وجده، الملكان. وإن كانت أم عمرو ذات مكانة وشأن فعُرف بها، فقد عُرف السليك بأمه، السليكة، وكان شاعراً يضرب به المثل في السرعة. نُسب لأمه لجهلهم بأبيه، وإن ذكر البعض أنه ابن عُمير التميمى.

من جانب آخر، يُنسب السليك إلى الصعاليك من الشعراء، ومنهم عروة بن الورد، وتأبط شراً. وصفوا بذلك لعدم اعترافهم بسلطة القبيلة وحقوقها وواجباتها، عاشوا في الصحارى، وقيل انهم صادقوا الوحش وأنسوا به عن بنى البشر، وكأنهم سمعوا الأُحَيمر السعدي يفتتح قصيدته قائلاً (عَوى الذِئبُ فَاِستَأنَستُ بِالذِئبِ إِذا عَوى :: وَصَوَّتَ إِنسانٌ فَكِدتُ أَطيرُ). عُرف عن عمرو بن الورد أنه كان يأخذ من الغنى ليطعم الفقير، وكان مضرب المثل في الجود. جمع الصعاليك وقام بأمرهم، وعرف عنه زهده فلم يؤثر نفسه بشيء. أما ثابت بن جابر، المعروف بتأبط شراً، فيُحكى أن أمه تزوجت بعد وفاة أبيه فصار بينه وبين زوجها عداوة، فلا يلبث حتى يثور ويخرج من البيت يهيم في الصحراء أياما وأسابيع، ثم يعود لأمه فيتكرر منه ذلك. فلما سُئلت عنه، وقد خرج، قالت (تأبط شراً وخرج)، كناية عن شدة ما به من غضب، فعُرف بتأبط شراً. لم يعرف الشعراء الصعاليك الاستقرار فكانت حياتهم ترحالا استلطفه أمرؤ القيس فصاحبهم، وكان أميراً ثم تولى الـمُلكَ بعد أبيه، ومع هذا خلده شِعره ولم يخلده مُلكه، وخاصة معلقته التى صَرَح فيها بحبه لفاطمة، فقال (أغركِ مني أن حبكِ قاتلي :: وأنك مهما تأمري القلب يفعلُ).

-----------------------

بقلم: د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد