"كان ياما كان فى سالف العصر والأوان ..."، بهذه الكلمات السحرية تخطف الأم عقول وقلوب صغارها. تفتح مغارة حكاياتها، فيخرج المارد من القمقم، ويتزوج الأمير بالأميرة، ويجد الصياد خاتم سليمان فى بطن الحوت، ويردد الفضاء صدى موج البحر وزقزقة العصافير. خيط حكايات لا ينقطع. يُنصت الصغار. تتعلق عيونهم بشفاه الأم. يجرى أمام عيونهم شريط الأحداث حتى يسلبهم النوم يقظتهم، عندها تنسل الأم بهدوء. تـُحكم الغطاء حول صغارها، تُحاذر أن يصدر عنها صوت فيستيقظون. تطفئ نور الغرفة، ثم تغلق الباب مع دعوات قلبية بنوم هانئ.
تربى الكثيرون على حدوتة قبل النوم، خاصة أولئك الذين لم يدركهم التليفزيون فيحرمهم من هدهدة الجدات والأمهات وحكاياتهم. ارتبطت الحواديت بالحنان والأمومة. هن القادرات على اختزانها وإعادة سردها لأطفالهن قبل النوم أو عندما يلحون فى طلب حدوتة. يتربع الأطفال وينصتون. يفرحون عند ذكر الشاطر حسن وست الحسن أو يعتلى علاء الدين بساطه السحرى. يتوترون عندما يواجه السندباد البحر الهائج أو تجد سندريلا نفسها وحيدة فى المنزل وقد أوشك حفل الأمير أن يبدأ، فما إن تظهر الملاك حتى تترقب عيونهم حركة عصاها السحرية. الآن ترفل سندريلا فى فستانها الخرافى. تركب عربة الأحلام. تطير بها خيول شهباء. تخطو خطواتها الأولى فى قاعة الاحتفال. تتحول إليها الأنظار. تراقص الأمير، وقبل فوات الأوان تنفلت مسرعة بالعودة، وما زال الأطفال ينتظرون النهاية السعيدة المختومة بعبارة (وتوتة توتة فرغت الحدوتة).
لم ترتبط الحكايات بالأب، فقط بالأم، حتى عندما أراد روبين ويليامز، فى فيلمه مغامرات بابا الشغالة، أن يحكى لأطفاله حواديت قبل النوم تنكر فى دور شغالة. حياة هانئة وابناء سعداء. هكذا تختزل المرأة قضية الوجود. هذه قضيتها باختصار. لا شيء بعد. ضمان استمرار الحياة على الأرض. أن يأتي الصباح فتنشر الشمس خيمتها الذهبية على الحقول بينما يلهو أطفالها آمنين. عندها تطمئن إلى ديمومة دورة الكون. يكد الرجل ويتعب لكنه قد ينشغل بدأبه وجِده عن السر والهدف والمقصد. تأخذه طاحونة الأيام فيترك لها مهمة بناء العُش، تجمع أعواد القش عوداً فوق عود، تلضمها، تغزل بها بيتاً دافئاً حنوناً يحتضن الكبير والصغير. هكذا المرأة دائماً.
فى رواية ألف ليلة وليلة، ظلت شهرزاد تحكى من هنا وهناك، تخلط فى حكاياتها الواقع بالأحلام، تتنوع رسائلها بين المباشر والرمز، بين المسموح والممنوع. ألف ليلة وهى تحكى وما حكى شهريار ليلة واحدة. ظل أُذنا تُصغى وروحاً تُقلقها الأحداث. ينتظر مساءاته بفارغ الصبر كى يعرف بقية الحكاية وشهرزاد تراوغ، تكشف عن خبيئتها قطعة قطعة، أيقنت أن حياتها مرهونة بقدرتها على التشويق واتصال خيط السرد. إن جذب شهريار أرخت، وإن أرخى جذبت. أبقته مُعلقاً فى خيط فتنتها السرى. صَدْقَ أنه الملك، بينما هى من مَلَك.
"بلغني أيها الملك السعيد ذو الرأى الرشيد ان ...."، بهذه الكلمات حبَست شهرزاد شهريار فى قمقم أمسياتها وألقت المفتاح فى بحر بلا عنوان، ثم راحت تتسلى بعذاباته على جمر الانتظار. تسقيه من بحر حكاياتها كل ليلة ملعقة صغيرة لا تطفئ ظمأه ولا تقطع حبل صبره. من سرسوب حكاياتها روت فصلاً وراء فصل، وحكاية بعد حكاية، فإذا ما فرغت من واحدة شبكته فى خيط أخرى. تنظر فى عينيه وتقرأ حكاياتها، والمسكين لا يعرف من أين تأتى بقصصها التى لا تنتهى. إيه ... كم أنت مسكين يا شهريار.شهريا
---------------------
بقلم : د. محمد مصطفى الخياط