صيف ليس مثل كل صيف، غلالة شفافة من الحزن والقلق والخوف من المستقبل تظهر على الوجوه الشابة قبل الشائخة، ربما المستقبل الممتد امام الشباب وسنوات طويلة تنتظرهم من الحياة والمسؤلية المصاحبة لها هى ما تؤرق أيامهم الحاضرة، أما كبار السن، الذين ينتظرون حسن الختام وأن يحميهم ربنا من بهدلة آخر العمر، فهم أيضا مصابون بحالة هلع على مستقبل الأولاد والأحفاد، يخشون عليهم من زمنهم الصعب وغير الآمن ومن افتقاد أمل غير منتظر فى السنوات القريبة، فما نراه نتاج سياسات اقتصادية تفتقر الى النضج والعقل الذى يفرضها الالمام بفقه الاولويات، ومراعاة بعد اجتماعى قامت من أجله الثورات وتوابعها، ومع ذلك تم تجاهله والانقلاب عليه، بدءا من عصر السادات التى تم اغتياله من جماعات رباها على يديه لأغراض سياسية، إلى المخلوع مبارك الذى جرف ثروات مصر المادية حتى يومنا هذا، مع تجاهل متعمد لمعاناة الناس فى معيشتهم اليومية، أو إنكاره تماما مع غض الطرف عن فساد لا تتم معقابته إلا بشكل انتقائي، مع ترك الأغلبية الصامتة تكيف حياتها بطرقها الخاصة حتى لو اختار بعضها الانتحار، يأسا من نظام أعاد اليهم مضروبا فى عشرة، كل ما أدى إلى ثورتهم فى 2011!
فى الوقت الذى نرى فيه الطبقة المميزة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا مازالت ترفل فى عزها.. تملأ الحياة صخبا وإنفاقا وسفرا وسهرا، كأن الأسعار تاتى عند قدميها وتستكين، أو أن الزيادات التى حصلت عليها دون الآخرين عوضتها وطمأنتها مع استغلال حصاد النفوذ والتقرب زلفى ونفاقا لأصحاب المعالى والسيادة، مع مكاسب وهمية دانت لهم بدون مجهود يذكر، للدفاع عن سياسات حكومة لا ترقى لمسؤولية اللحظة الخطرة، متجاهلين ومغمضي الأعين عن أعراض اجتماعية تنبيء بخطر مجتمعى يتعامى المسؤولون عن إدراك خطورته، أو يتعمدون التهوين منه، حتى نستيقظ جميعا، حاشا لله، على ثورة جياع نرى كلنا مقدماتها إلا المسؤولين عنها!
صيف حقيقة ليس مثل كل صيف، الفروق بانت واضحة لكل ذي نظر وحصافة، لم يعد الحديث عن الشجن وافتقاد مصر التى كانت، والعلاقات التى تبخرت، واجتماع الاسرة الواحدة على مائدة واحدة الذي صار من أحلام يقظة عقود باهتة، أو التباكى على عصور مرت علينا كالحلم، أو آمال تغيير صبرنا عليه حتى تأتي في ميعادها، لكن، ها.. أخذها الغراب وطار، كما تقول أمثالنا الشعبية كناية عن اختفاء الفرصة والأمل.
صار حديث الناس جميعا على اختلاف مستوياتهم وأقصد بهم الطبقة الوسطى والطبقات الفقيرة التي هبطت إلى مادون الفقر، يدور حول موضوع واحد لايتغير إلا فى التفاصيل المؤلمة وهو الأحوال المعيشية المتردية والمستحيلة في أحيان كثيرة حتى وجدنا فى مصر التى كانت مشهورة أن لا أحد يبات فيها جوعانا وجدنا من ينتحر ويقتل اسرته بالكامل لعجزه عن الإنفاق عليها، أو ينتحر وهو فى بداية شبابه يأسا من عدل اجتماعى، بعدما أصبح التفوق لا يؤتى أكله، وعدنا للسقوط فى كشف الهيئة التى منعت متفوقا من نوال حقه الوظيفى لأن أهله دون المستوى، فينتحر ونجد من يبرر ظلمه!!
حقيقة نحن فى لحظة خطرة، فهل المطلوب أن نضحى بجيل حالي، من أجل جيل لم يولد بعد كما كان يقال في تبرير سياسات الشيوعية؟ أم أننا فعلا فى شبه دولة، فقدت أسسها المتعارف عليها، حتى أصبحنا نعيش فى نظام مضطرب وفوضى غير خلاقة وعجز مؤسسى عن مواجهة ظروف استثنائية تحتاج إلى إجراءات استثنائية لمساعدة الشعب على المرور من عنق الزجاجة، تدعمه وتكفله وتحميه الدولة بسياسات تعينه لا أن تتركه للضباع ولمن يستغلونه ويضحون به وهم فى منتجعاتهم، يحتمون بها عن رؤية ما يؤذيهم من فقر وحاجة تعكر عليهم رغد المعيشة!
الأحاديث الصيفية فقدت بهجتها وانحصرت فى كيفية التحايل على الأسعار حتى لاننكشف وينفضح سترنا، فى الوقت الذى نجد فيه أسعار المنتجعات الساحلية بإعلاناتها المبهرة كأنها آتية من كوكب تانى، تزغلل أعيننا المذبهلة، فهل دول ناس والبقية ناس تانية ؟
والله لا نحسد أحدا ولا نحقد على أحد، لو كانت ثروتهم سليمة وشريفة وعن عمل ومجهود يدفعون ضرائبهم ويساهمون فى التنمية ويخلقون فرص عمل تحمى الشباب من جرائم البطالة، وكما قال الشاب السوهاجي الذي ضبط بتهمة التهريب في بورسعيد: إنتم مش حاسيين بينا واللا إيه ؟
ولكن مانراه بعيد كل البعد عن العدالة الاجتماعية، بل إن فرص الشباب الوحيدة الآن فى العمل هو التسويق العقاري، كأن الدولة كلها تحولت إلى مستثمر عقارى، فلا تقيم مشاريع إلا الطوب والأسمنت، أين المصانع المغلقة والمتعثرة، أين القلاع الصناعية التى تجاهلها مبارك عن عمد حتى يبيعها بأبخس الأتمان والتى ذهبت إلى جيوب المحاسيب فى بلاد الفرنجة.. وأين وأين؟
صيف فعلا ليس ككل صيف، السهرات فى الساحل تعيش فى كوكب تانى، لا يمت للمشاكل السابقة التى تطحن عظام أغلبية الشعب، إنما رفاهية وتهتك أخلاقى لم أره من قبل، يقلدون أسوأ مافى الغرب، حتى وصلنا الى قبولهم العلاقات الشاذة باعتبارها حرية شخصية لا تخص إلا أطرافها، مع شيوع علاقات الليلة الواحدة أو السهرة الواحدة من جانب الفتيات كشيء ممتع يكسر جمود ارتفاع سن الزواج، فكما قيل لي: هل تتصورين أن أبلغ منصف ثلاثيناتى بدون تجارب تلبى نداء الجسد؟ اما العذرية فلها ألف حل ولم تعد مشكلة لكثير من الشباب، يتقبلونها كتطور طبيعى للحاجة الساقعة!
وفى وسط هذا المستنقع، وجدتهما على الشاطىء الهادىء بجانب منزلى، يمسك يديها فى حنية وحب، يعدان بعضهما بالإخلاص، حتى لو صارعتهما الدنيا المادية، نظرات عشق حقيقى ونقاء العلاقة الواحدة، مودة وأمل أن ينتصر الحب الحقيقي على كل انحطاط المرحلة!
فهل نأمل صيفا قادما لا نتحسر فيه على صيفنا المأزوم هذا؟ أستر ياللى بتستر!
--------------
بقلم: وفاء الشيشيني