26 - 08 - 2025

مقــام المبتدأ ... الخطوة الأولى

مقــام المبتدأ ... الخطوة الأولى

كان أول عهدى بمولانا عندما سلمنى أبى (رحمه الله) إليه كى يحفظنى القرآن، ويعلمنى القراءة والكتابة. رحب بى وسأل طلابه أن يُفسحوا لى مكاناً بينهم. انتظمت فى كُتابه سنوات عديدة متصلة قبل التحاقى بالمدرسة. ثم فى الأجازات الصيفية. توطدت العلاقة بيننا وأزهرت مع الأيام يرويها احترامى وتقديرى له، وتواضعه وعلمه وحنوه علىّ. فكنتُ، إذا مررت أمام كُتابه إستأذنت فى الدخول، أُقرأه السلام، وأُقبل يده المعروقة، فيقدمنى إلى تلاميذه. تعرفوا علىّ طالباً فى المرحلة الإعدادية. ثم باسمى مسبوقا بلقب أستاذ فى المرحلة الثانوية وما بعدها. ومن كثرة ترددى لم تعد هناك حاجة أن يعرفنى إلي تلاميذه. عَرفت منه أنه نزل بلدتنا غريباً لقضاء شأن ما. ثم ما لبث أن استطاب ريحها واستطابت ريحه، فصار لا يفارقها ولا تفارقه. يقضى وقته بين تربية وتهذيب الصغار صباحاً، وتأديب ومحاورة مريديه مساءً. فكانت هذه الحوارات.

 

أ- غريبان

قال لنا مولانا... كنت – يا أحباب- فى زيارة لأحد مشايخى ببلدة بعيدة ... ولما كنت أجهل عنوانه سألت رجلاً تصادف وجوده فى الطريق ...

يا سيدى كيف أصل لمولانا قطب الدين الحموى؟ .....

(أجابنى مبتسماً) أنت فى الطريق الذى تريد ...؟ .... 

"أعذرنى يا سيدى ... فأنا غريب!!" 

(فأجاب شارداً) "كلنا غرباء..  فطوبى للغرباء" 

...............

 وانطلقنا كل فى اتجاه .

*******

ب- البحـــر

قال لنا مولانا، عندما شرعت يا أحباب فى الكتابة تساءلت بينى وبين نفسى، تُرى أى موضوع ذلك الذى يستحق الكتابة قبل غيره؟. تلبستنى حيرة حتى كدتُ أختنق، وعندما آيست أن أقع على موضوع رحت أدون عناوين كتب الأقدمين حتى غلبنى النوم، فرأيت كأنى طفل يلهو على الشاطئ، ثم رأيتنى أبنى بيتاً من رمل، نظرت إليه فوجدته كبيراً وعظيماً، إلا أن لسان الموج حطمه وسحبه إلى فم البحر الهائل، فصرت أبكى وأنتحب. 

من خلف حبات دمع تترقرق رأيت جدى واقفاً شامخاً، نظر إلى فى حنو، ثم قال "لا تبك، أنظر إلى البحر واكتب عن العشق، وإياك أن تبك ثانية !!"

*******

ت- حوار

سألت مولانــا

مم تخشى؟

"ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق"

ففيم الرجــاء؟

"قل يا عبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا"

فما يبكيك؟

"ولو تَقَوَّلَ علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من أحد عنه حاجزين"

وفيم العجب؟

"ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله"

********

ث- الخوف

نظر إلى مولانا فى عتاب ثم سألنى، لم نعد نراك فى صلاة الفجر؟

كلب يقف على رأس الشارع يخيفنى !!

نظر إلى فى شفقة وقال، تقهر الشيطان وتخاف من كلب!!

ثم تركنى ومضى

****

ج- فيض

قال لنا مولانا ... كنت أكتب فصلاً من فصول كتابى "العشق والعاشق" ... عندما أهلت علىَّ فى ظلمة الليل سحابة من نور ... خرج منها ملاك وسألنى فى تحد...

ألم تنته من كتابك بعد ؟

بدأت فصله الأول منذ أكثر من ثلاثين عاماً ولم أنته منه بعد ....!!

ومتى تنتهى ...؟

عندما أبدأ ....

فمتى تبدأ ...

عند قيام الساعة...!!

..................

فنظر إلى فى تحد وغضب ... ثم تركنى وانصرف .

***

ح- الغرق 

خطر لى فى أحد الأيام أن أعبر البحر ... فذكرت ذلك لمولانا فبادرنى متسائلا ...

هل أعددت نفسك جيداً؟ ...

يا شيخى .. السباحة مهنتى !!! ....

إمض على بركة الله .... 

ودعته وطبعت قبلة على يده المعروقة وسألته الدعاء ... فربت علىّ فى شفقة وردد "قلبى معك"!!" .. ومضيت فى طريقى .. أنظر للبحر مرة وألوي عنقى مودعاً مولانا مرة أخرى ... حتى لامست صدرى برودة ماء البحر .... ثم أخذت أسبح صوب الشاطئ الآخر ... وعندما أنهكنى التعب ووجدت نفسى وحيداً وأيقنت النهاية .. صرخت "أدركونى .. أدركونى .. إنى أغرق ..." فإذا بيد معروقة تنتشلنى وتقيمنى ... وعندما انتصبت واقفاً رأيت وجه مولانا ويدى المبللة ما زالت فى يده ... ثم نظر للبحر وقال لى ..."أتخشى الغرق وأنت ما زلت على الشاطئ ...؟؟".. فنظرت خلفى فإذا أنا على الشاطئ والماء لم يصل كعبى بعد !!

------------
قصة قصيرة بقلم: د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]