09 - 05 - 2025

لا أحد ينام في الأسكندرية

لا أحد ينام في الأسكندرية

لكل كاتب قلمه الخاص. يستقى مرادفاته من ينبوع تشكله الثقافة والتعليم والمعتقدات، الحقيقى منها والأسطورى، وكذلك البيئة المحيطة به. من هنا تأتى أهمية معايشة الأحداث عند الرغبة في الكتابة عنها. نشأ نجيب محفوظ في حى الجمالية بالقاهرة فكتب ثلاثيته الأشهر، بين القصرين، قصر الشوق، السكرية. تشبعت رواياته بأجواء الحارة، والفتوات، والحرافيش، وابن البلد، وصبايا الحارة. مع استئثار القاهرة بكتاباته دون غيرها من المدن، استطاع بأدواته أن يصيغ حكاياته، ويطلق رسائله بمعانيها الظاهرة والباطنة. بحرفيته وبراعته، تحرك في جغرافيا رواياته وأزمنتها بحرية. لا تتجاوز جغرافيا رواية زقاق المدق أكثر من عدة أمتار، ومع ذلك جسد من خلالها تداعيات الحرب العالمية الثانية بين جبهتين عالميتين، الحلفاء والمحور، على حياة بسطاء يعيشون على الهامش. تهرب حميدة، فتاة الحارة، من المنزل وتتعلم الرقص والغناء. يسافر خطيبها، عباس الحلو، للعمل في معسكر الإنجليز بحثاً عن المال. تتصاعد الأحداث، وتصاب حميدة بطلقة رصاص من أحد جنود الإنجليز، وفى محاولة إنقاذها يحملها عباس لإسعافها، إلا أنها تلفظ أنفاسها على مدخل الحارة.

بعيداً عن ضجيج القاهرة وجفائها، تزخر روايات إبراهيم عبد المجيد بأجواء البحر، المراكب، شاطئ المتوسط ورائحة اليود الطازج. قبل الكتابة، يغمس قلمه في بحرها فتتمدد حروفه المبللة على حواف السطور. ضمت مؤلفات عبد المجيد العديد من الروايات، قناديل البحر، غواية الاسكندرية، وسكندرياته الثلاث: لا أحد ينام في الإسكندرية، طيور العنبر، والإسكندرية في غيمة. على نهج محفوظ، وقع عبد المجيد في فخ المدينة الواحدة.

زمنياً، تعد رواية لا أحد ينام في الأسكندرية، الخط الموازى لزقاق المدق، دارت أحداث كلا الروايتين فى فترة الأربعينينات، وتحديداً خلال الحرب العالمية الثانية. كَثَفَ محفوظ الأحداث العالمية وحافظ على تفاصيلها ثم رصها بعناية في بقعة صغيرة بحجم فنجان قهوة، بينما امتدت مساحات عبد المجيد من الإسكندرية  إلى العلمين مُضَفِرَاً العديد من العلاقات الإنسانية. صداقة الشيخ مجد الدين القادم من الدلتا بدميان المنحوت من صوان صعيد مصر. عملهما معاً في مكتب السكة الحديد بسيدى جابر. رحلات اكتشاف الذات. حكايات ركاب قطار الإسكندرية / مطروح. جلسات سمر جنود الحلفاء، في صحراء العلمين، والمرغمين على خوض حرب ليسوا سبباً فيها. سودانيون، مصريون، وهنود دفع بهم المستعمر الإنجليزي للحرب. صارت الغارات على الإسكندرية طقساً يومياً ينتهى بضحايا ومصابون جدد. من قلب المأساة تتقارب العلاقات الإنسانية. عبر إطار الصداقة، يستشعر دميان حاجته للالتزام الدينى. تشغله الرهبنة، لكن القدر أسرع، فعلى إثر تدمير مكتب السكة الحديد بمطروح يستقل الصديقان القطار هرباً إلى الإسكندرية، وفى الطريق تصيبه قذيفة أطلقتها إحدى الطائرات الألمانية. يعود مجد الدين وحيداً، يفكر في العودة إلى قريته بعد ما فقد صديقه، وبعد مناقشات عديدة مع زوجته يقرران الاستقرار في الإسكندرية. في الصباح، يعود إلى عمله بمحطة السكة الحديد بسيدى جابر. قطارات شتى تنطلق صوب وجهتها. يمسح بظهر كفه دمعة سبقته حين يرى القطار المتجه إلى مطروح ومنها إلى العلمين، متذكراً صديقه دميان.

هُزم ثعلب الصحراء، روميل، وانتصر مونتجمرى، وعاد الجميع إلى بلدانهم تاركين خلفهم تذكارات الحرب. مقابر وألغام ومدينة تحتضر. فى الجوار، دُشنت العلمين الجديدة. درة جديدة تضاف إلى عقد لآلئ البحر المتوسط. بينما يطل من على الشاطئ وجهى مجد الدين ودميان، يتبادلان النظرات، يبتسمان لميلاد فجر جديد.
 --------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد