26 - 08 - 2025

لماذا أسرت قصة "أطفال الكهف" انتباه العالم؟

لماذا أسرت قصة

على مدار أكثر من أسبوعين، لم يكن للعالم الغارق فى الأحداث والصراعات حديث سوى قصة فريق كرة القدم من المراهقين الذين اختفوا فى أعماق كهف بتايلاند، وقف الجمهور على أطراف أصابعه فى انتظار الأخبار المتلاحقة عن محاولات انقاذ 12 طفلا ومدربهم، ولم تهدأ الأعصاب حتى انتهت القصة نهاية سعيدة بخروج الجميع سالمين بعد حالة تعاون عالمى غير مسبوق فى مهمة الإنقاذ.

ولكن بعد أن تخلص الجمهور من توتر الحدث الضاغط، ربما يكون الوقت مناسبا أمام مجتمع الإعلام لطرح بعض الأسئلة الهامة حول طبيعة هذه القصة بالتحديد، وحول التأثير المذهل للقصص الصحفية الناجحة بشكل عام، وربما أسئلة أخرى حول طبيعة القصة الناجحة وعلاقتها بالثقافة والتراث وغيرها، وكيفية الاستفادة من هذه التجربة من أجل تغطية أفضل للقصص المقبلة.

هذه الأفكار الهامة حول دور الصحافة، وطبيعة القصة، كانت محور مقال مفصل كتبه الصحفى المخضرم روى بيتر كلارك لموقع مؤسسة "بوينتر" الإعلامية الشهيرة، ويقول كلارك إن جودة الحكم على قيمة الأخبار أهم مهارة يمتلكها الصحفى، وهى الحدس الذى يمنعنا –مثلا- من كتابة قصة لكل طفل يواجه خطرا مميتا، وباختصار شديد يجب علينا –كصحفيين- أن ندرك بدقة كيف ننتقى وكيف نختار.

توقف للحظة، واسأل نفسك كم طفلا حول العالم يواجه الخطر فى هذه اللحظة بالذات، سواء كان الخطر متعلقة بالصحة أو بالحياة نفسها؟ هناك عدد كبير من الأطفال فى خطر: ضحايا العنف فى شيكاجو أو ضحايا الحرب الأهلية المشتعلة فى سوريا، أو ربما يكونوا قد انتزعوا من آباءهم على الحدود أثناء التسلل لإحدى البلدان، أو يعانون من أعراض التلوث والتسمم بالرصاص، أو حتى ربما يكون بعضهم يعيش فى جزر ومناطق منعزلة تتعرض لظروف جوية مخيفة أو كارثية.

إذن، لماذا حدث اهتمام هائل بقصة 12 صبى ومدربهم مختفين داخل كهف فى أقصى العالم؟ لماذا اهتمت كل وسيلة إعلامية مهما كان حجمها ومكانها بتغطية هذه القصة على مدار الساعة؟ هذه هى الأسئلة التى سنحاول الإجابة عنها باستخدام ثلاثة أساليب من طرق الحكم على الأخبار: الأولى هى قائمة لتصنيف الأخبار وضعها أستاذ صحافة شهير، والثانية محاولة لمطابقة هذه القصة مع النماذج البدائية المألوفة فى الثقافة الشعبية، والثالثة فى محاولة لتفسير أدبى لمثل هذه النوعية من القصص ومدى أهميتها لبقاء الجنس البشرى.

ربما يكون "ميلفين منشر" هو أشهر أستاذ صحافة بجامعة كولومبيا، وهو مُعلم دؤوب مشهور بمقولاته المأثورة حول الكتابة الصحفية، بالإضافة إلى ذلك، فهو مؤلف أهم مرجع جامعى للصحافة فى القرن العشرين والذى يحمل عنوان "الكتابة والتقارير الإخبارية"، وفى الطبعة العاشرة من هذا المرجع وضع قائمة من سبعة عناصر لجودة الحكم على الأخبار. وفيما يلى هذه العناصر مع تطبيقها على قصة أطفال الكهف:

التوقيت الزمنى: جاءت القصة على شكل موجات: أخبار عن فقدان الأطفال، عمليات البحث، اكتشاف الأطفال أحياء، إعداد خطط الإنقاذ، وصول أول طفل إلى الخارج بسلام بعد إنقاذه...

التأثير: هناك مخاطر الحياة والموت على هؤلاء الأطفال، الأثر على ذويهم، حالة تأثر عاطفى على الشعب التايلندى وفى العالم، ومع ذلك فإن عدد الصبية المهددين بالموت فى هذه القصة أقل بكثير من عدد العالقين فى أزمة المهاجرين إلى الولايات المتحدة، أو الهاربين من جحيم الحرب فى سوريا.

البروز: بالنسبة للجمهور الأمريكى (وربما العالمى) لم يكن هناك شخص أو مؤسسة –فى تلك الفترة من التغطية- يقترب من الحصول على هذا المستوى من الاهتمام.

القُرب: الأخبار جاءت من مكان بعيد. وبالتالى لا ينطبق عليها هذا المعيار.

الصراع: لا تحتوى هذه القصة على أشكال الصراع التقليدية فى الأخبار: الحروب المشتعلة، المناظرات السياسية الساخنة، الشرطة والمجرمون، ولكن مع ذلك فهناك صراع داخلى يتضمن قتال البشر ضد قوى الوقت والطبيعة.

غير المألوف: ربما يكون هذا المعيار أفضل ما يتناسب مع قصة أطفال الكهف من أى معيار آخر

الرواج: ربما تدور أحداث قصة ما على مدى زمنى طويل، ولكنها فجأة تكتسب زخما فريدا، مثل جلسات الاستماع الخاصة بفضيحة ووترجيت، أو محاكمة أو. جى. سيمبسون. وقصة أطفال الكهف وهى تتكشف بتفاصيلها المختلفة حققت الاهتمام الكبير فى السباق ضد الزمن وضد الطبيعة.

بتطبيق مبادئ "منشر" على القصة، يمكن التوصل بسهولة إلى ثلاثة أقسام مرتبطة بالقيمة الإخبارية العالية التى حققتها هذه القصة: غير المألوف، الصراع، الرواج، وهكذا فإن مبادئ "منشر" العامة تساعد فى التفسير، ولكنها لا تشرح بشكل كامل فكرة الجاذبية الهائلة التى أحاطت بالقصة.

وإذا نظرنا بعيدا عن الصحافة بمفهومها التقليدى، يمكن القول إن قصة 12 صبيا محاصرين داخل كهف تكتسب أهميتها من التراث الأدبى، فهى تقدم نوعا من أنواع الطاقة السردية البدائية، تلك السرديات التى تجعلنا خائفين ومتعلقين بالأمل فى الوقت نفسه، كما يتضح فى النقاط التالية:

1. أبطال القصة صبية وليسوا رجالا ناضجين. الجمهور يرغب فى عودتهم إلى أمهاتهم وآبائهم وأشقائهم وشقيقاتهم بسلام.

2. رقم 12 ارتبط فى المخيلة الجمعية (المسيحية بشكل أكثر تحديدا) بمعان كثيرة، مثل الحواريين الاثنى عشر، الأيام الاثنى عشر للكريسماس، فى القصة يمكن إدراك أن الاثنا عشر طفلا هم نموذج مصغر لمعاناة ملايين الأطفال حول العالم، عالم مصغر حيث يتم تكثيف واحتواء كل شئ وبالتالى يكتسب زخمه.

3. يمكن ملاحظة أن هذه القصةآ  تستحضر الكثير من مخاوف البشر البدائية: رهاب الاحتجاز، الظلام، الغرق، الاختناق، نزع الأطفال من أهاليهم، المجاعة والمرض.

4. يقول الخبراء أن أفضل القصص تحتوى على محرك، وهى هنا الأسئلة التى لا يحصل القارىء أو المشاهد على أجوبتها إلا من خلال القصة ذاتها: مذنب أم برىء؟، ميت أم حى؟، ونحن لدينا العديد من المحركات داخل هذه القصة: هل سيتم إنقاذ الأطفال؟ كيف سيحدث ذلك؟ ما هى الأوضاع الصحية والنفسية التى سيكونون عليها عندما يتم إنقاذهم؟ هل سيتم ذلك قبل قدوم العاصفة الشرسة؟

5. ولأن هذه الأسئلة لا يتم الإجابة عنها فى وقت واحد، هناك مسار زمنى بطئ يفرض الانتظار- فإن هذا الأمر يخلق التشويق "السسبنس". لدينا لحظات ذروة متعددة للقصة على طول الطريق: موت أحد المنقذين، عودة العواصف، التفكير فى إخراج أقوى الصبية أولا، نقص الهواء الحاد داخل الكهف.

6. النزول إلى العالم السفلى. القصة تعيد بشكل أو بآخر تمثيل "جحيم" دانتى فى عمله الشهير "الكوميديا الإلهية"، والتى تبدأ بضياعه وسط الغابة ليلتقى بمرشد يقوده عميقا إلى دوائر الجحيم، وهى رحلة ضرورية سوف تنتهى بالصعود عبر "المطهر" إلى الجنة. وهذه القصة تأتى محركاتها من الثقافة الكلاسيكية والنماذج المسيحية.

7. إعادة الميلاد. يلعب النزول إلى أعماق العالم السفلى دورا محوريا فى القصص الكلاسيكية، فقط إذا كان هناك عودة مرة أخرى للسطح، عبر النفق المظلم إلى النور، وهو ما ينطبق على قصة أطفال الكهف بجدارة.

وإذا كان "منشر" قد قدم بعض التصنيفات لتحديد أهمية الأخبار، والتى قمنا بدعمها ببعض أنماط السرد المتجذرة فى الثقافة، فإن الطريقتين مجرد مقدمة لنظريات الثقافة التى برع فى تفصيلها العالم النيوزيلندى "بريان بويد"، والذى يحمل كتابه الأشهر عنوان "فى أصل القصص: التطور، الإدراك، والخيال".

يرى "بويد" أن القصص لا تثرى فقط التجربة الإنسانية، ولكنها تقدم نوعا من "الواقع الافتراضى"، فعندما يموت روميو وجولييت بشكل مفجع يبكى الجمهور وذلك بالرغم من معرفة الجميع أن موتهما مجرد تمثيل. ومن منظور "تطورى" فإن القدرة الهائلة على سرد القصص والتعلم منها تزيد من إمكانية بقائنا كجنس بشرى.آ  

ولكن كيف يحدث هذا السحر. يقودنا بويد عبر مسارين مختلفين. فى أحد المسارين، فإن القصص تعلمنا أن نحيا سويا. لا يمكن للبشر البقاء منفردين. هناك أخطار بالخارج ونحن نحتاج للعمل الجماعى –للتعاون- لحماية أنفسنا وأطفالنا. وفى المسار الآخر، فإن القصص تحدد نوع الخطر، من القتلة والطغاة إلى الأعاصير والأوبئة، الطرق المختلفة التى يهدد بها العنف، والفوضى، والكوارث الطبيعية، والجشع البشرى النظام الآمن المسالم.

إن قصة الصبية الاثنى عشر المحاصرين فى الكهف لا تمتلك شريرا تقليديا. المدرب اعتذر عن خطئه وتمت مسامحته. ولكن العديد من الأخطار الأخرى تكشفت، مثل: قلة الخبرة، الحماقة، السذاجة، عدم الاستعداد، التقصير فى تقدير قوة الطبيعة الغاضبة. ومن هذه القصة، سوف يتعلم البعض أن يكونوا أكثر حذرا عند دخول أى كهف، ولكن على الجانب الآخر، فربما يتعلم الشباب أشياء أخرى من هذه القصة وما أحاط بها، مثلا رغبة أحدهم فى تعلم الغوص كمحترف، أو التفكير فى السفر إلى بلاد أخرى والاستعداد للمغامرة بسلامته الشخصية من أجل مساعدة الآخرين، يمكن للكثيرين أن يتعلموا أساليب التعاون والمشاركة رغم كل الاختلافات.

هذه هى القيمة العظيمة لتلك القصة الرائعة، والتى تستحق أن تبقى فى الذاكرة لسنوات طويلة مقبلة.
------------
إيهاب الزلاقي - حصري للنيوزليتر