أعترف بأنّ القضاء على ظاهرة التنظيمات الإسلامية التى تــُـمارس العنف المُـسلـّـح ضد الأبرياء، من الأمور التى فشلتْ فيها معظم أنظمة الحكم فى العالم، ولكن بدرجات مختلفة، بمعنى (درجة الجدية) التى يمكن تلخيصها فى سؤال: هل يمكن أنْ ينتصر أى نظام حكم يعتمد على المرجعية الدينية، وهى ذات المرجعية التى يعتمد عليها الإرهابيون؟ وكل منهما يختار ما يؤيد وجهة نظره، وتكون النتيجة الدخول فى متاهة (حرب النصوص) كما فى التجربة المصرية.
ودليلى على ما أقول أنه عقب كل عمل إرهابى من التنظيمات الإسلامية، تــُـسارع المؤسسة الدينية الرسمية (الأزهر ومجالسه وهيئاته العديدة) بإصدار ذات البيانات التى تعوّدتْ عليها طوال السنوات الماضية، وكأنها اسطوانة (واحدة) لاتملك غيرها من نوعية: أنّ هؤلاء الإرهابيين لايعرفون (صحيح الإسلام) وأنهم لا يـُـمثلون الإسلام، وأنهم عملاء..إلخ
بينما الذين قتلوا وخرّبوا يـُـصدرون البيانات التى يستشهدون فيها بالقرآن والأحاديث النبوية. وهذه البيانات فيها أصدق تعبير للرد على المصطلح التضليلى (مُـتأسلمين) وهذا المصطلح الذى نحته كاتب ماركسى راحل، ردّده معظم المتعلمين المصريين، دون أدنى تفكير فى خطورته، حيث أنه ينفى عن الإسلاميين المجرمين (المُـنفذين) لجرائم الإرهاب مسئوليتهم وكأنهم دخلاء على الإسلام.
العقبة الثانية فى التجربة المصرية، الاعتماد على جهاز الشرطة بالدرجة الأولى (رغم أهمية هذا الدورالذى كان من نتيجته مئات الشهداء من أولادنا الجنود والضباط) وهو ذات الدور الذى قام به أولادنا فى القوات المسلحة. ولكن أين دور باقى أجهزة الدولة؟ هل لوزارات الثقافة والإعلام والتعليم أى دور محسوس فى القضاء على الإرهابيين، أوحتى تجفيف منابع الإرهاب؟
ومن بين تجارب بعض الأنظمة فى التصدى لظاهرة الإرهاب، تجربة الصين حيث ظهرتْ جماعة إسلامية (متطرفة) فى إقليم شينجيانج) الواقع شمال غربىْ الصين (ذى الأغلبية المسلمة) والذى يتمتع بالحكم الذاتى منذ عام 1956. ومنذ عام 2005 طالب الإسلاميون بانفصال الإقليم عن الوطن الأم (الصين) وعندما تأكد المسئولون من أنّ هذه الجماعة مدعومة من دول وتنظيمات إسلامية (عالمية) بهدف زعزعة الاستقرارالسياسى والاجتماعى والاقتصادى للمجتمع الصينى، عند هذا الحد وضعتْ الحكومة الصينية (خطة) تضمن بها (زعزعة) بنيان الأساس الذى تستند عليه الجماعة الإسلامية. وهذه الخطة (بكل بساطة) تجريب (محاولة احتواء) شباب هذه الجماعة وذلك من خلال:
أولا: مخاطبة عقولهم وليس مخاطبة معتقداتهم: فحيث أنّ الإقليم يعانى من البطالة وانخفاض المستوى المعيشى، أنشأتْ الحكومة الكثيرمن المشروعات الصناعية والزراعية، التى تتطلب آلاف العمال والفنيين. وكانت النتيجة أنه فى خلال عشر سنوات، تقلــّـص عدد أفراد التنظيم الإسلامى، وكان الفضل فى ذلك للتعليم والإعلام، حيث كان التركيزعلى رفع الشأن من (قيمة العمل) وأنّ العمل المُـنتج الذى يوفر السعادة للإنسان، بتوفير متطبات الحياة، هو(الجهاد) الحقيقى (والمقدس) وليس الجهاد بالقتل والتخريب.
ثانيـًـا: لاحظتْ الحكومة الصينية أنّ أعضاء الجماعة الإسلامية، يتسللون داخل المدن الحيوية (خاصة مدينة أورومتشى) عاصمة الإقليم، والمدن والقرى المحيطة بها، فقامتْ قوات الأمن الصينية بنشر الآلاف من رجالها لمنع ظاهرة التسلل، وبالفعل نجحتْ خطة الحكومة، وبالتالى توقفتْ العمليات الإرهابية الإجرامية، وتحقق الاستقرار داخل الإقليم.
هذه تجربة (واحدة) من بين تجارب الأنظمة التى اكتوتْ بنار الإرهاب المسلح بالنصوص الدينية، فهل فكر النظام المصرى فى ابتكار وسائل مختلفة (وغيرتقليدية) فى محاولة لاحتواء شباب الجماعات الإسلامية الإجرامية؟ لماذا لايـُـجرّب النظام (مخاطبة عقولهم) بدلا من مخاطبة معتقداتهم؟ ولماذا لا يـُـجرّب (فكرة إنشاء معسكرات عمل) تشتمل على كافة التخصصات من عمال وفنيين وبأجور مجزية، مع التركيز الإعلامى على رفع (قيمة العمل) كما فعل الإعلام الصينى؟
وهل فكرالنظام فى التوقف عن مغازلة الإسلاميين الأصوليين، وترديد مقولاتهم مثل الولاء الأول يكون للدين ويأتى (الوطن) فى المرتبة الثانية؟ وهل فكر فى إعادة النظر فى مناهج التعليم التى تحض على كراهية المختلف دينيـًـا ومذهبيًـا؟ (مناهج المعاهد الأزهرية- نموذجـًـا) وهل فكر فى إعادة النظر فى برامج الإعلام، التى دأبتْ على (تغيب عقل المواطن) باستضافة أعضاء الكهنوت الدينى (الرسمى والشعبوى) وعرض كل ما هو تافه وسطحى (بل ومنحط) ولماذا لا يفعل النظام المصرى كما تفعل دولة الهند، حيث تــُـنتج الهيئات الحكومية الأفلام والمسلسلات، ذات المستوى الإنسانى (والدرامى) للرد على الأعمال الهابطة فنيـًـا وإنسانيـًـا؟
لقد أخبرنى أكثر من صديق من المبدعين، أنّ الأفلام والمسلسلات (المصرية) يتحكم فيها من يمتلك المال أوالنفوذ، لانتاج الأعمال التى دمّـرتْ عقول الشباب والسخرية من التاريخ الوطنى، مثل الاستهزاء بثورة عرابى وثورة 1919 بحجة (تقديم الكوميديا) وأنا شاهدتُ بعضها. وهل هى حكمة أم حماقة اصرارالفضائيات (حتى الحكومية) على إعادة عرض الأعمال البذيئة فى أيام الإجازات مثل مسرحية (مدرسة المشاغبين) التى يقول فيها الممثل (أبويا اتحرق) ومسرحية (العيال كبرت) المليئة بالسخرية من الأم والأب..إلى آخر ما تــُـنتجه (شركات الهلس) بينما المُـبدع الحقيقى والجاد لا يجد أى ترحيب من شركات الانتاج الهابط والبذيء. فلماذا لا يحتضن النظام المبدعين الموهوبين ولديهم مشروع درامى وإنسانى، لتقديم الأعمال الفنية الجادة التى تــُـحيى الذاكرة بتراث المبدعين المحترمين أمثال الراحل الجليل أسامة أنور عكاشة؟
ولماذا يرفض النظام تدريس (مادة الأخلاق) لتكون هى البديل لحصة الدين؟ وهذا الاقتراح يتضمن تدريس آيات من القرآن والأناجيل التى تحض على حب الأسرة وحب البشر بلا تفرقة دينية أوعرقية. مع نماذج من كتابات بوذا وكونفوشيوس وحكماء مصرالقديمة. وفى حصة مادة الأخلاق، سيجلس التلميذ القبطى المسلم بجوار التلميذ القبطى المسيحى. وأعتقد أنه لو تم الأخذ باقتراحى، فسيكون لدينا - بعد عشرين سنة من بدء تنفيذه - جيل جديد وقد تخلــّـص من ذاتية الولاء إلى (موضوع) الولاء، فتختفى مقولة (أنا مسلم) و(أنا مسيحى) لتكون المقولة الجديدة (أنا مصرى) بمراعاة أنّ الدين انتماء (ذاتى) بينما (الموضوع) هوالوطن. وكان خالد محمد خالد على وعى بهذه الحقيقة فكتب ((وُجد الوطن فى التاريخ قبل الدين. وكل ولاء للدين لايسبقه ولاء للوطن، فهو ولاء زائف)) (روز اليوسف- 30/10/1951)
***
-------------
بقلم: طلعت رضوان