09 - 05 - 2025

وسلامٌ على ريم

وسلامٌ على ريم

وجه عربى جميل، لا شرقى ولا غربى. نحت من جمال الشام الأصيل، من رياحين القدس، من زيتون الناصرة، من برتقال يافا وتفاحها، من ياسمين أريحا ونوارها، من لوز عكا وعبيرها، من بللور مياه طبرية، من بساتين حيفا وكرومها، من نخيل الرملة ورطبها، من ضياء المجدلية وبهائها، من صفاء مريم الطهور، من حنايا بيت لحم، من سماحة المسيح، من نسيج الشال الفلسطينى المتداخل سواداً فى بياض وبياضاً فى سواد، من مزامير داوود يأتى صوتها نقياً، شجياً، قوياً، رائقاً، عذباً، رطباً. إنها ريم بَنْا، المغنية والملحنة الفلسطينية التى غادرتنا فى مارس الماضى. 

خيطٌ من نور تغزل به ريم قصائدها على جبهة السحاب، وشماً أثرياً على أكف صبايا الجنوب، وحوريات عسقلان، وجميلات بيروت، ونخلات دمشق الباسقات، وخدود القاهريات والسكندريات. يطوف صوتها بفضاءاتنا العربية الحزينة المشحونة شجناً وحزناً وأنيناً حتى النخاع، المنقوعة فى بحار التقسيم والاختلاف، يعلو صوت ريم، فنضع انتماءاتنا الحزبية، وشظايانا السياسية، واختلافاتنا العقائدية جانباً. نسند على الحائط كل بنادق الاتهام والاختلاف، ومدافع التنديد والشجب، وقنابل التفتت. يجمعنا صوتها وتغشانا السكينة والهدوء، تَعْلق كلماتها فى السقوف قناديلاً وثريات، تغنى للحلاج (عجبتُ منك و منـّـي / يا مُنـْيـَةَ المُتـَمَنّـِي، أدنيتـَني منك حتـّـى / ظننتُ أنـّك أنـّــي، وغبتُ في الوجد حتـّى / أفنيتنـَي بك عنـّــي)، فإذا بالكلمات طازجة وريانة كأنما صيغت لزماننا، يترنم بها المحبون حباً وهياما، ويعرج بها الصوفيون إلى مقام الشهود.

ولدت ريم وأقامت وتوفيت فى الناصرة، وما بين التاريخين نيف وخمسين عام. درست الموسيقى والغناء وصدر لها عدة ألبومات موسيقية يغلب عليها الطابع الشرقى والوطنى الرصين. مزجت التراث الفلسطينى ببراعة مع الموسيقى العصرية فغنت (يا ليل ما أطولك). بُعداً عن مضايقات جيش الاحتلال الإسرائيلى، أقامت حفلاتها الغنائية فى غزة، والضفة الغربية، وبعض العواصم العربية والأوربية. غنت لشعراء فلسطين، محمود درويش، صاحب سَجِل أنا عربى ورقم هويتى خمسون ألف، وغنت لسميح القاسم مؤلف على مَلأ اللهِ أعلنُ روحي وضوئي، وغنت لوالدتها الشاعرة زهيرة صباغ صاحبة يا زهرة الكرمل إنه روحى. من شعر بدر شاكر السياب، شاعر العراق الأشهر وصاحب (عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ / أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر)، غنت له ريم (لا تزيديه لوعة).

غاصت ريم فى أعماق محيطات اللغة العربية، وبحثت عن فرائدها، اقتداءً بسلطان العاشقين، مولانا عمر بن الفارض، أحد أشهر شعراء الصوفية، فغنت له (زدني بفرطِ الحبِّ فيكَ تحيُّراً / وارحمْ حشىً بلظى هواكَ تسعَّرا، وإذا سألتكَ أنْ أراكَ حقيقة / فاسمَحْ، ولا تجعلْ جوابي: لن تَرَى، يا قلبُ! أنتَ وعدتَني في / حُبّهمْ صبراً فحاذرْ أنْ تضيقَ وتضجرا، إنّ الغَرامَ هوَ الحَياة، فَمُتْ بِهِ / صَبّاً، فحقّكَ أن تَموتَ، وتُعذَرَا، قُل لِلّذِينَ تقدّمُوا قَبْلي، ومَن / بَعْدي، ومَن أضحى لأشجاني يَرَى، عني خذوا، وبيَ اقْتدوا، وليَ / اسْمعوا، وتحدَّثوا بصبابتي بينَ الورى). 

قاومت ريم المرض قدر طاقتها، وعندما هزمها راحت تسبح بأفكارها كغزالة برية، تبث روح المقاومة والعناد فى أولادها، تهمس فى آذانهم (لا تحزنوا .. سوف انتظركم كعادتى كل مساء فى شرفتنا الجميلة .. أهامس فنجان المريمية فيما أنتم حولى تضحكون وتتشاكسون). إيه ... سلام إلى أولئك الذين يملئون ثقوب حياتنا بأنفاسهم الجميلة، سلام إليهم بقوا أم رحلوا، وسلام على ريم.

---------

د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد