أعتقد أنّ تهريب الآثار المصرية، النموذج الصارخ لغياب الحس القومى، بينما لو توافر الحس القومى فإنّ فكرة سرقة تراث الجدود، ليس لها وجود عند الكثير من الشعوب.. مثل اليونان والمكسيك والصين والهند..إلخ..
ولكن فى مصر فإنّ المُـنحرفين من جامعى الأموال، يعتبرون سرقة التمثال مثل سرقة ماسورة الصرف الصحى.. ولا يكاد يمر يوم أوأسبوع إلا وتنشر الصحف (بعض) نماذج السرقات.. ومن بينها خبر بيع الآثارالمصرية فى باريس.. وأنه منذ سنوت طويلة خرجتْ كميات كبيرة من القطع الأثرية من مصر إلى الخارج.. وبدأتْ تظهر فى العديد من معارض ومتاحف العالم (أهرام15يوليو2018) والخبرطويل وبه الكثير من التفاصيل المهمة عن سرقة آثار مصر.
تمتلك مصر أكثر من 75% من آثار العالم.. وهذه الثروة التى تركها جدودنا.. تــُـعتبرأحد أهم عوامل جذب السياحة.. ورغم ذلك تتدنى أرقام السياح الذين يزورون مصر مقارنة بدول أخرى مثل تركيا وإسبانيا إلخ.. والآثار المصرية كانتْ تـُحتــّم وجود علماء فى التنقيب عن الآثار.. ولكن للأسف لازال هذا التخصص بعيدًا عن المنهج العلمى من ناحية..مع نـُـدرة العلماء المصريين فى هذا المجال.
لقد كان للعلماء الأوروبيين الفضل فى اكتشاف الآثار المصرية (وكان للعالم أوجست مارييت دورًا مهمًا فى إنشاء المتحف المصرى عام 1858 فى بولاق وكان مديرًا للآثارالمصرية.. وقام بترميم المعابد وحصر كل الآثار والتحف التى يمكن أنْ تتعرض للنهب ونقلها إلى القاهرة) وإذا كان الأمر مفهومًا فى حِقبْ الاستعمار، فكان يجب بعد وصول حكـّام وطنيين (أى ليسوا أجانب مُحتلين) أنْ ينال علم التنقيب عن الآثار ما يستحقه من رعاية، التى كانتْ ستـُحقق لمصرنا ثلاثة أهداف: الأول توفير المناخ العلمى بحيث يأخذ هذا العلم صفة الاستمرار، وبالتالى عدم الاعتماد على علماء التنقيب الأجانب. الثانى توفير المبالغ التى يحصل عليها علماء التنقيب الأجانب.. وعدم حصولهم على نسبة من الآثار المُكتشفة وفقـًا للقانون المعمول به فى هذا الشأن. الثالث وفقـًا لقانون التراكم الكمى الذى يؤدى إلى تغير كيفى (فى ظل منظومة وطنية جادة) فإنّ علماء التنقيب المصريين سيكتسبون الخبرة التى ترفع من شأنهم عالميًا.. وبذا يكون الطلب عليهم من كافة الدول التى تبحث عن آثارها، أى سيكون هؤلاء المصريون خبراء عالميين فى علم التنقيب وهوأمر سيرفع من شأن مصر، ناهيك عن العائد المادى الذى سيعود نتيجة التعاقدات العالمية.
وسرقة الآثار المصرية تفضحها الصحافة العالمية.. وأنّ التهريب يتم بمعرفة بعض كبارالمسئولين المصريين.. ومن أشهرالأمثلة على ذلك ماورد فى شهادة (مارك بيرى) المتورط فى قضية تهريب الآثار الكبرى من مصرإلى لندن.. حيث قال فى التحقيق معه أنّ ((ضابطــًـا فى البوليس المصرى برتبة لواء.. كان يتابع عملية تهريبه للآثارالمصرية من مطارالقاهرة)) (أهرام7فبراير1997) والجدير بالملاحظة أنّ الكشف عن هذه العملية تمّ بمحض المصادفة، حيث أنّ مواطنــًـا بريطانيـًـا شاهد فى أحد المعارض بعض الآثارالمصرية.. وبخبرته عرف أنها (أصلية) وتذكر أنه رآها فى المتحف المصرى.. فبادربإبلاغ الشرطة الإنجليزية التى تولتْ التحقيق.
وإذا كان كثيرون يـُـردّدون مقولة: إنّ الفساد موجودٌ فى معظم دول العالم..فإنّ أنواعه تختلف من بلد لآخر..وهذا الاختلاف يحكمه عاملان: الأول وجود آلية الديمقراطية أوغيابها.. فالدول الديمقراطية لاتعترف بقداسة الشحصيات العامة.. والدليل أنّ الشرطة الإسرائيلية استدعتْ رئيس الوزراء نتانياهو فى عام 2018 لأنه تلقى رشوة من البعض.. وهذه ليست المرة الأولى حيث سبق التحقيق معه أكثرمن مرة (أهرام18، 19قبراير97) وكذلك زوجته لأنها تناولت الطعام فى أحد المطاعم.. ولم تدفع الحساب.. وفى سابقة أخرى خضعتْ للتحقيق داخل مكتب مكافحة الفساد للإشتباه بإنفاقها أموالا عامة، لدفع مصاريف منزلية..وهوالخبر الذى أكــّـدته الإذاعة الإسرائيلية.
العامل الثانى: هوالحس القومى.. وهومسئولية الشعوب والحكام.. فالشعب الذى يـُـدرك القيمة الحضارية لتاريخه وتراثه، يضع عرفــًـا لحدود الفساد.. فلواء الشرطة (المصرى) الذى شارك فى تهريب الأثار المصرية، تربى تحت سنابك ثقافة سائدة روّجتْ لمقولة أنّ الحضارة المصرية (وثنية) وبالتالى يجب تدمير آثارها..وإذا كان التدمير واجبـًـا دينيـًـا.. فلا بأس من سرقتها..وسرقة الوثنيات حلال وفقــًـا للفقه الإسلامى لأنها من ((بدع الكفار))
وتحت سنابك هذه الثقافة فإنّ صحفيـًـا أهراميـًـا (كبيرًا) صاحب مربع يومى (أوقفص وفق تعبيرالناقد محمد مندور) اقترح ((تحطيم الأحجار التى تسقط من الهرم الأكبرإلى قطع صغيرة، توضع فى سلسلة مفاتيح وبيع الواحدة بعشرة دولارات للسياح (أهرام8يونيو1991) فلو أنّ هذا الصحفى يـُـحرّكه حس بقوميته المصرية، لطالب بإعادة الأحجارالمتساقطة.. وليس اقتراح الهدم من أجل حفنة دولارات.. ومع غياب الحس القومى فإنّ هذه الدعوة المُـدمرة لم يتصد لها إلاّ بعض المصريين فى بريد الأهرام.. وتجاهلها المثقفون باستثناء الرحل الجليل بيومى قنديل الذى كتب ((إنّ الأستاذ الفاضل قارن بين هذه الفكرة التى طرحها تحت عنوان: أفكار وبيع إسرائيل لهواء القدس فى علب صغيرة خالية لكنها "مباركة" فإسرائيل لم تفكرلحظة فى بيع قطعة واحدة من آثارها أوتراثها، سواء سقطتْ تحت وطأة الزمن أوالجور أوالاهمال، بل تبيع ثروة متجددة بإستمرار.. لكن الأستاذ الفاضل يدعو إلى بيع حجر أوإثنين من الأحجار المتساقطة، أى بيع ثروة غيرمتجددة.. وحتى لو كان العزم مبيتــًـا على مساعدة الزمن.. كى يتدخل بإسقاط آخر فآخر كلما سال اللعاب للأخضرالساحق.. وهذا أمرمرجـّـح فى ضوء عبادة المال وشعار"كل شىء للبيع" والسؤال الوحيد هو بكم؟ وفى هذه الحالة نتمكن من هدم الهرم الأكبرالذى يعتبرالأعجوبة الأولى من عجائب الدنيا.. ووقف نابليون أمامه وقال: إنّ أمة تستطيع أن تبنى لنفسها قلبــًـا من حجر على هذا النحو لجديرة أنْ تعيش إلى الأبد" واختتم قنديل مقاله قائلا ((إننى لا أدرى ما إذا كنتُ أتقدم بالشكر لأولئك الأجانب الذين سيتبركون بمثل تلك الميدالية الحجرية، لأنها جزء من الهرم الأكبر، أم أعتب على الذين يمكن أن تطرأ على أذهانهم مثل هذه الأفكارالهدامة)) (صحيفة الأخبار12يونيو91)
أعتقد أنّ القضاء على ظاهرة سرقة الآثارالمصرية، لن يتم إلاّ بعد تعميق وترسيخ الاعتزاز بمجمل الحضارة المصرية..وهذا الدور هو مهمة التعليم والإعلام ومجمل الثقافة السائدة.
***