09 - 05 - 2025

كنت هناك

كنت هناك

فى مثل هذه الأيام من العام الفائت، كنت نازلا من عملى فى "الأهرام" الى ميدان سليمان باشا، كان يوما حارا، مرت قبل مغربه نسمة شجعتنى على المشى، "خرمت " من خلف القنصلية الإيطالية الى شارع "ضهر الجمال" ومنه الى شارع "أبو طالب"، سنوات طويلة كنت التقى أصدقاء رائعين فى مقاهى هذا الشارع الذى يصب فى شارع الجلاء، وعلى رأسهم صديقنا الكبير الأستاذ ممدوح أباظة عمدتنا فى بولاق مصر المعروفة ببولاق أبوالعلا، (اختفت هذه الشوارع مؤخرا بسبب تطوير مثلث ماسبيرو)،  رحب بى قهوجى من الحرس القديم، شجعنى ترحابة وذكرياتى مع الشيشة المضبوطة فجلست، لم تكن غير طاولة واحدة يجلس اليها أربعة رجال غرباء على المكان، فى غاية الأناقة، أعمارهم حول الخمسين، "يشيشون" ويحملون حقائب جلدية "سينييه"، خمنت أنهم يعملون فى البنوك أو البورصة أو الخارجية أو شيء من هذا القبيل، جلست فوق الرصيف المواجه لهم، وأذنى مع اذاعة الأغانى التى كانت تبث أغنية ما أعتقد اننى أسمعها للمرة الأولى، وكان "البهوات" صامتين، الصمت الذى أعقب حوارا لم أكن موجودا وهو يدور، فجأة، وقف أحدهم، وقال بصوت عال "كنت هناك"، وأخذ يردد هذه الجملة بعصبية، وأضاف "حرام عليكم، الظلم حرام، الراجل ما عملش حاجة غلط، انتو ما فيش فى قلبكم رحمة"، وانحنى ليأخذ حقيبته وهو يقول "حسبى الله ونعم الوكيل"، التقت عينانا وهو منصرف، ووجه الكلام لى وهو يشير الى الثلاثة " دى ناس وسخة وربنا هينتقم منهم"، أداء الرجل وصدقه وحدته والدموع المؤجلة فى صوته تركوا بداخلى أثرا مشى معى طويلا، كلما مررت من هناك، أو ضاقت بى الدنيا، أو تأملت مصائر بعض من التقيتهم فى الطريق الطويل الذى قطعته أو عملت معهم، ترن فى أذنى " كنت هناك".

مع بداية شتاء 2017 بدأت كتابة نصوص قصيرة عن مشاهد ولحظات كنت شاهدا عليها، فى الصحافة والثقافة والفن والسياسة، كنت اكتب باستمتاع عن تحولات بعض الأصدقاء وخستهم، عن الطمع، عن الذين عوضوا فقر موهبتهم بالمؤامرات وكتابة التقارير وقطع عيش الأنقياء وحصارهم، معظم هؤلاء هم الذين يقودون الرأى العام حاليا (وفى كل العهود)، بالطبع تذكرت نبلاء كثيرين صادفتهم فى الطريق، اكتشفت الزحام الذى غمر حياتى رغم الوحدة، كل هذه الأسماء والوجوه والحكايات والأماكن والعلاقات؟ .. شئ لا يصدق!. 

انتهيت من هذه الحالة فى شهر ابريل الماضى، فى الأسبوع الماضى  عدت اليها لكى أعدها ككتاب يحمل اسم " كنت هناك" .. أصابنى الهلع، هل وصل بى الأمر الى هذا الحد؟ .. كيف استمتع بتجريس الناس؟، المشهد الذى ألهمنى الكتاب أسمى وأرقى، وجدت الكتاب عملا انتقاميا رخيصا، خفت على نفسى وأنا أتصفحه، هل وصلت الى هذه الدرجة؟  حذفت الكتاب من الكمبيوتر ومن "الفلاشة"، كنت مستمتعا وأنا أفعل هذا، كأننى أزيح جبلا عن صدرى .. لأننى أيضا "كنت هناك".

------------

بقلم: إبراهيم داوود

مقالات اخرى للكاتب

وتواطأ كل من مروا على دمك