في16 ديسمبر 2015، اختطف 28 شخصا من أسرة آل ثاني الحاكمة بقطر، بينما كانوا يقومون برحلة صيد جنوبي العراق، وسلم الخاطفون قائمة بأسماء المخطوفين إلى الشيخ "محمد بن عبدالرحمن آل ثاني" الذي كان سيعين وزيرا للخارجية في قطر، وتيقن الشيخ محمد بأن القائمة تضم اثنين من أقاربه المقرّبين، فكتب إلى السفير القطري ببغداد، زايد الخيارين، ما يلي: "جاسم ابن عمي، وخالد زوج عمتي. حفظك الله عندما تتحصل على أي خبر أرجو اخباري فورا".
وقضى الرجلان الأشهر الـ 16 التالية وهما منغمسان في قضية الرهائن القطريين.
وتكملة تفاصيل الرواية ستكون من الوثائق التي حصلت عليها الـ"بي بي سي" من جهة وصفتها بـ"حكومة مناوئة لقطر".
ولنتعرف مبدئيا على أبطال هذه الرواية
الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، خبير اقتصادي سابق، وهو من أقارب الشيخ تميم بن حمد أمير قطر، ولم يكن معروفا على نطاق واسع قبل تعيينه وزيرا للخارجية عندما كان عمره لا يتجاوز 35 عاما، وكان السفير القطري ببغداد، زايد الخيارين، والذي كان في الخمسينيات من عمره عندما وقعت عملية الخطف، يحمل رتبة عقيد في المخابرات القطرية، وكان الخيارين أول سفير لقطر في العراق منذ 27 عاما، وهو منصب لم ينظر إليه على أنه ذا أهمية كبيرة، ولكن حادثة الخطف منحته فرصة لتحسين موقعه.
المخطوفون
كان المخطوفون قد سافروا إلى العراق لممارسة هوايتهم في الصيد بالصقور، وعلى الرغم من انه قد طلب منهم التخلي عن فكرة الذهاب إلى العراق، إلا أنهم لأن الصحراء العراقية تعج بطيور الحبارى التي تهوى اقتناصها الصقور، وفي صبيحة إحدى أيام ديسمبر، اقتحمت مخيمهم الصحراوي مجموعة من الشاحنات المزودة بمدافع رشاشة.
وقال أحد الرهائن، لاحقا بعد عملية الإفراج، لصحيفة نيويورك تايمز، "ظننا أن تنظيم الدولة الإسلامية هو الذي هاجم مخيمنا"، ولكن هذا الاعتقاد تبدد عندما استخدم أحد الخاطفين لفظا شيعيا مهينا للسنة ضد المخطوفين.
ونعود لتكملة الرواية، مرت أسابيع عديدة لم تسمع فيها الحكومة القطرية أي خبر عن مصير رعاياها المخطوفين، ولكن في مارس 2016، بدأ الموقف يتغير، عندما علم مسؤولون قطريون بأن الخاطفين ينتمون إلى كتائب حزب الله العراقي وهو تنظيم مسلح تدعمه إيران.
وكانت كتائب حزب الله تسعى إلى المال، وهذا ما كشفته رسالة نصية بعث بها السفير الخيارين إلى الشيخ محمد بن عبدالرحمن، كتب فيها "قلت لهم أعيدوا الينا 14 من رجالنا، وسوف نعطيكم نصف المبلغ". ولم يتضح حجم المبلغ في المراسلات في هذه المرحلة.
بعد خمسة أيام، قالت الكتائب إنها مستعدة لإطلاق سراح ثلاثة من الرهائن، فكتب الخيارين "إنهم يسعون للحصول على تعبير عن حسن النية من جانبنا أيضا، هذه علامة جيدة تشير إلى أنهم مستعجلون ويريدون انهاء الموضوع بسرعة".
بعد يومين، توجه الخيارين الى "المنطقة الخضراء" في العاصمة العراقية التي تضم مقرات الحكومة العراقية وسفارات الدول الأجنبية، كان الجو حارا ببغداد في مارس، وكان أنصار الزعيم الشيعي مقتدى الصدر يتظاهرون عند بوابات المنطقة الخضراء احتجاجا على الفساد الحكومي، وكان موظفو العديد من السفارات قد فروا، حسبما قال السفير، مما أكسب مفاوضات إطلاق سراح الرهائن قدرا كبيرا من التوتر.
انتظر الخيارين وقتا طويلا بعد ذلك، فلم تأت أي اشارة تدل على إطلاق سراح الرهائن، فكتب للشيخ محمد:"هذه هي المرة الثالثة التي آتي فيها إلى بغداد في هذه القضية، ولم أشعر بخيبة أمل كما أشعر الآن، ولم أشعر بالاجهاد الذي أشعر به هذه المرة، لا أريد أن أغادر بغداد دون الرهائن".
ووبينما هو يكتب هذا للشيخ محمد، حضر الخاطفون ولم يكن معهم أي من الرهائن، كان معهم فقط ذاكرة إلكترونية تحتوي على تسجيل مصور لرهينة واحدة.
فلما علم الشيخ محمد بذلك، سأل الخيارين في رسالة: "هل لدينا أي ضمانات بأن الآخرين موجودون معه؟"، ثم أمره "أمح الشريط من هاتفك، وتأكد بأنه لن يسرب إلى أي شخص"، فوافقه الخيارين قائلا "لا نريد لأسرههم أن يروا التسجيل ويتأثرون به عاطفيا".
على الجهة الأخرى، كان الخاطفون قد فصلوا الرهائن عن بعضهم البعض، حيث وضعوا أفراد الأسرة القطرية الحاكمة في سرداب مظلم، غير ذي شبابيك، أما أصدقائهم غير المنتمين للأسرة الحاكمة وغير القطريين فقد أخذوا إلى مكان آخر وعوملوا معاملة أفضل، وتقول الـ"بي بي سي" أن "مسؤولا قطريا اخبرها بإن أفراد الأسرة الحاكمة نقلوا من مكان إلى آخر، أحيانا كل يومين أو ثلاثة أيام، ولكن الخاطفين كانوا يبقونهم دائما في سراديب، ولم يكن للرهائن إلا نسخة واحدة من القرآن، ولم يكن الرهائن يعلمون أي شيء عن العالم الخارجي طيلة الأشهر الـ 16 التي قضوها في الأسر".
وتوضح الـ"بي بي سي" اذا كان المال هو الحل لهذه المعضلة، فالقطريون يملكون ثروات طائلة، موضحة أن الرسائل النصية والصوتية تشير إلى أن الخاطفين زادوا مطالبهم وعدلوها أكثر من مرة، فطالبوا أن تتخلى قطر عن التحالف الذي تقوده السعودية لقتال الحوثيين في اليمن، وأن تسعى قطر لاطلاق سراح العسكريين الإيرانيين الذين كان يحتجزهم المعارضون في سوريا، هذا الى جانب المطالب المالية، وبالإضافة إلى اموال الفدية كان زعماء كتائب حزب الله يطالبون بمبالغ لأنفسهم أيضا، ويقال إنه بعد انفضاض واحدة من جلسات التفاوض، انفرد مفاوض الكتائب، وهو رجل يدعى أبو محمد، بالخيارين سفير قطر بالعراق وطلب منه مبلغ 10 ملايين دولار لنفسه، وتناول الخيارين هذه الواقعة في مراسلاته للشيخ محمد، قائلا "سألني أبو محمد، ما هو نصيبي؟ بصراحة أريد 10، قلت له 10؟، لن أعطيك 10 الا اذا اطلقت سراح رجالنا 100%، وزدت لتشجيعه، أن اشتري له شقة في لبنان".
استعان الخيارين بوسيطين عراقيين كلاهما من السنة، للتفاوض مع الخاطفين والتقى الوسيطان وزير الخارجية القطري، الشيخ محمد، وطالباه مقدما بهدايا هي عبارة عن 150 الف دولار و5 ساعات رولكس اثنتان من أثمن الأنواع وثلاث ذات نوعية عادية ولم يتضح ما إذا كانت هذه الهدايا هي للوسيطين أم كان الغرض منها تطييب خواطر الخاطفين أثناء فترة التفاوض.
في الـسادس عشر من أبريل 2016، ظهر اسم "قاسم سليماني"، قائد فيلق القدس الإيراني وظهير كتائب حزب الله، في الاتصالات بين الخيارين والشيخ محمد، وبحلول هذا الوقت، كانت مطالب الخاطفين قد وصلت إلى مليار دولار وبالمزيد، فكتب الخيارين قائلا:"التقى سليماني بالخاطفين، وضغط عليهم لقبول مبلغ المليار دولار، ولكن الخاطفين لم يردوا عليه نظرا لحالتهم المادية، سيعود سليماني للتفاوض معهم"، ثم كتب ثانية قائلا إن الجنرال سليماني "منزعج جدا" من سلوك الخاطفين وقال:"يريدون أن يتعبوننا ويجبرونا على القبول بمطالبهم فورا، علينا أن نتحلى بالهدوء وألا نتسرع"، مستدركا "لكن عليكم أن تكونوا مستعدين لدفع مبلغ ضخم"، فرد الشيخ محمد وزير الخارجية القطري "الله يعيننا!".
تجمدت الأحداث لعدة شهور نوفمبر 2016، عندما طالب سليماني قطر بالمساعدة في تنفيذ الاتفاق المعروف "باتفاق البلدات الأربع" في سوريا.
فما هو اتفاق البلدات الأربع
كانت بلدتا مضايا والزبداني، السنيتان، الواقعتان قرب الحدود مع لبنان، تخضعان لحصار القوات الحكومية السورية مدعومة بقوات من حزب الله اللبناني وإيران، بينما كانت بلدتا كفريا والفوعة، الشيعيتان، في ريف إدلب شمالي سوريا، تحت حصار قوات المعارضة السورية، التي كانت تدعمها قطر، وكانت جبهة النصرة من بين القوى التي كانت تشارك في حصار البلدتين،وبموجب الأتفاق خرج الآلاف من البلدات الأربعة بينهم عدد كبير من المقاتلين.
ووفقاً للخيارين، أخبر سليماني كتائب حزب الله إنه "إذا تم إنقاذ الشيعة بحسب اتفاق البلدات الأربع، فسيكون من المخزي المطالبة برشاوي شخصية"، وقال الخيارين للشيخ محمد:"كتائب حزب الله اللبناني وكتائب حزب الله في العراق، كلهم يريدون المال وهذه هي فرصتهم، إنهم يستغلون هذا الوضع من أجل المنفعة، وخاصة أنهم جميعاً يعلمون أنها النهاية تقريباً، كلهم لصوص".
وفي رسالة أخيرة، ذُكرالخيارين مبلغا آخر لفدية قدرها مليار دولار في يناير2017 ، إلى جانب 150 مليون دولار.
وتقول الـ"بي بي سي" تعتقد "الحكومة التي أعطتنا هذه المادة - التي هي مناوئة لقطر - أن المحادثات بين الشيخ محمد والخيارين كانت حول مليار دولار على شكل فدية بالإضافة إلى 150 مليون دولار على شكل مدفوعات جانبية ، أو عمولات"، لكن النصوص غامضة، وقد تكون صفقة البلدات الأربع كانت مطلوبة لتحرير الرهائن، بالإضافة إلى 150 مليون دولار من المدفوعات الشخصية للخاطفين.
وأوضحت الـبي بي سي، أن المسؤولون القطريون يقبلون بأن النصوص والرسائل الصوتية حقيقية، رغم أنهم حرروا تلك الرسائل بشكل انتقائي للغاية لجعلها غير مفهومة، وسُربت تلك النصوص إلى صحيفة واشنطن بوست، في أبريل 2018. وانتظرت مصادرنا حتى نفى المسؤولون في الدوحة ذلك، ثم سعوا لإحراج قطر من خلال إصدار التسجيلات الصوتية الأصلية، كما نوهت البي بي سي، أن "قطر التي تقع تحت الحصار الاقتصادي، من قبل بعض جيرانها، السعودية والإمارات والبحرين ومصر، ونجم عن هذا النزاع الإقليمي حملة مكثفة ومكلفة من القرصنة والتسريب وحملات علاقات عامة في كل من واشنطن ولندن".
وانتهت أزمة خطف الأمراء القطريين في أبريل2017 حين وصلت طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية القطرية إلى العاصمة العراقية بغداد حاملة مئات ملايين الدولارات إلى الوسطاء وعادت بالرهائن حسبما أكد مسؤولون قطريون.
وأوضحت البي بي سي، أن قطر تخوض نزاعا قانونيا مع جيرانها حول خطوط الملاحة الجوية، وسيكون لاستخدام طيران قطر في نقل الفدية التي تم دفعها لمنظمات إرهابية، تداعيات على هذا النزاع القضائي بين الطرفين وقد يكون هذا أحد الأسباب التي عجلت في تسريب هذه التفاصيل الينا.
وتقول الجهة المناوئة لحكومة قطر إن المبلغ الذي تم دفعه تجاوز مليار دولار، إضافة إلى 150 مليون دولار، على شكل رشاوى، وكانت حصة الأسد من من نصيب كتائب حزب الله العراقي.
وأقر المسؤولون القطريون بأن مبالغ كبيرة تم إرسالها إلى الحكومة العراقية، وليس لجهات إرهابية، وكانت بهدف انفاقها على "التنمية الاقتصادية" ولتعزيز "التعاون الأمني".
ويقول المسؤول القطري: "كان الهدف تحميل الحكومة العراقية كامل المسؤولية عن سلامة الرهائن".
وقالت البي بي سي، أن القطريين اعتقدوا أنهم توصلوا إلى صفقة مع وزير الداخلية العراقي الذي كان ينتظرهم في قاعة الاستقبال عند وصول الطائرة المحملة بالمال المعبأ في اكياس سوداء كبيرة إلى مطار بغداد، ولكن فجأة اجتاح رجال مسلحون بملابس عسكرية لا تحمل أي شارات للمكان، ويقول المسؤول القطري: "حتى الآن لا نعرف من كانوا، تم إبعاد وزير الداخلية عن المكان" ويعتقد القطريون أن "رئيس الوزراء حيدر العبادي هو الشخص الوحيد الذي يمكنه أن يقوم بهذا عمل"، وحاول رئيس وزراء قطر الاتصال بالعبادي عبر الهاتف مرارا لكن دون جدوى.
وعقد العبادي فيما بعد مؤتمرأً صحفيا أعلن خلاله عن مصادرة المال، ورغم مصادرة الأموال إلا أن الصفقة سارت قدما، وتم إطلاق سراح الرهائن وتم ربط التنفيذ بصفقة البلدات الاربع.
وتشير الرسائل النصية المتبادلة إلى أن ضابط المخابرات القطري جاسم بن فهد آل ثاني، أحد أفراد الأسرة الحاكمة، كان موجودأً على الأرض عند البدء بعملية تبادل السكان بين البلدات الأربع.
وجاء في إحدى الرسائل النصية التي كتبها الضابط القطري: "46 باصا حمل المهّجرين من البلدتين السنيتين، أخذنا 5 آلاف شخص خلال يومين والأن نريد أن نأخذ ثلاثة آلاف آخرين، لا نريد أي تفجيرات"، وبعدها بأيام قليلة تم نقل المهّجرين من الشيعة من بلدتي كفريا والفوعة، وقال الشيخ محمد في رسالة نصية :" 3 آلاف شخص من الشيعة هم الآن في المكان المحدد للتبادل، عندما أشاهد جماعتنا، يقصد المخطوفين، سوف أسمح للحافلات بالتحرك"، فأجاب الخيارين بأن الطرف الآخر يشعر بالقلق وقال "إنهم يعيشون حالة رعب لقد هددوا بأنه إذا أشرقت الشمس دون أن يسمح لأبناء كفريا والفوعة بالتحرك، سيقومون بإعادة جماعتنا إلى مضايا والزبداني" .
في 21 ابريل 2017 تم اطلاق سراح الرهائن القطريين وكانوا جميعا بصحة جيدة حسب قول خير الدين الذي أضاف إنهم "خسروا نصف أوزانهم"،ثم رتب رحلة عودة الرهائن إلى الدوحة.
وبعد ستة عشر شهراّ من الوقوع في الأسر أظهرت اللقطات التلفزيونية الرهائن وهو يسيرون على مهبط الطائرات في مطار الدوحة.
ويقول المصدر المسؤول من الطرف المناوىء لقطر إن الرسائل النصية والصوتية تؤكد أن الجانب القطري قد "أرسل الأموال إلى الإرهابيين".
بعد أن تم نقل الأموال إلى العراق باشرت السعودية والإمارات والبحرين ومصر بفرض حصار اقتصادي على قطر وهو مستمر حتى الآن كون "قطر لها تاريخ طويل في تمويل الارهاب".
تشير المصادر المناوئة لقطر إلى رسالة صوتية واحدة من السفير الخيارين، وفيها يصف الحديث إلى كتائب حزب الله: "يجب أن تثقوا بقطر، وأنتم تعرفون ما فعلته قطر، وما فعله صاحب السمو الأمير الراحل، لقد قام بالعديد من الأشياء، ودفع 50 مليونًا، انشأ البنية التحتية للجنوب وكان أول من زارها".
وتؤكد مصادرنا بأن هذا يظهر دفعة تاريخية، في ظل الأمير الأب الذي دفع مبلغ 50 مليون دولار إلى كتائب حزب الله.
ويقول المسؤولون القطريون إن هذا يظهر الدعم المقدّم للشيعة بشكل عام.
و الحصار المفروض على قطر سيعتمد على من يفوز بالمرافعة حول "تمويل الإرهاب"، تتوقف نتيجة هذه المعركة جزئيا على إقناع الآخرين كيف انتهى اختطاف الأمراء في الصحراء العراقية.
ويقول المسؤولون القطريون إن الأموال التي سافروا بها إلى بغداد لا تزال موجودة في قبو في البنك المركزي العراقي " كوديعة"، بينما يقول معارضو قطر إن الحكومة العراقية دخلت طرفا في الصفقة ووزعت الأموال.
في كل الأحوال، لا يزال الغموض يكتنف ما إذا كانت قطر قد دفعت أكبر فدية عبر التاريخ.
-----------
نقلا عن BBC