09 - 05 - 2025

الدّولةُ عند "كارل بوبر"

الدّولةُ عند

إنَّه الفيلسوفُ النمساوي (PopperKarl  19021994م) الذي قوَّضَ أركانَ النّزعاتِ الشموليةِ، والتي تجَّذرتْ، وتهيأتْ بينْ الأروقةِ الأرسطية والأفلاطونية، ثمَّ مرورًا "بهيجل"، و"ماركس"، وما يمثلانهِ منْ تصوراتٍ قبليةٍ مغلقةٍ ، فهاجم التاريخانيةَ، وأغارَ على فلسفاتِ حتميةِ التاريخِ، وفرضيّاتِ المصيرِ الإنساني، إذ رأى أنَّ هذا الجبرَ التاريخي، قائمٌ على منهجٍ غيرَ موضوعي، ولا مرتكزٌ على أُرومَةٍ علميةٍ؛ فأوضحَ عقمَ المذهبِ التاريخي الذي يحاول إيجادَ تفسير أو تكوين نبوءةٍ آ لدينَاميّاتِ آ التحول داخل المجتمعات، ومن ثمَّ الزعم بأنَّ حركةَ التاريخ يمكن توقعها، وموضعتها، والتحكم فيها .

ومن هنا فإنَّه لا يري أنَّ القوانينَ الاجتماعية معياريةٌ ومفروضةٌ على الإنسانِ، فإلى جانبِ المعياريةِ فى القوانين الاجتماعية، هناك أيضًا قوانين طبيعية، والتي لا ترتكز على التجريدِ أو المنطقِ، وهذا ما يغفله أنْصَارُ المذهبِ التاريخي ، وإنَّ "بوبر" يحاول جاهدًا ؛ براديكالية لغويةٍ ، تقويضَ ثورتهم ضدَّ الحضارةِ ، وتهديم محاولاتهم نحو عقلنةِ المجتمعِ، والحضارةِ الإنسانيةِ، وهـو فى ذلك يُؤرَّخُ لمفهومِ الدولةِ كإجراءٍ حمائي أو أمني، يفرض سلطانه على الجماعةِ، وعلى الفردِ بذاتهِ، فبَحثَ فى الدولةِ، وطبيعتها، ومعناها، غيرَ مكترثٍ لسؤالِ "كيف نشأت". فما يعنيه هو؛ ما الذى على الفردِ أن يطلبَه منَ الدولةِ ؟ والإجابةُ هنا فى زعمهِ، أنَّنَا كذواتٍ فرْدَانية تقهرُها أحيانًا سَطوةُ الجماعةِ الغاشمةِ، نحتاج منَ الدولةِ الحماية.

ولذا فإنَّ المجتمعَ فى فلسفةِ "كارل بوبر" يتشَظَّى حالَ تأسيسيهِ، بعيدًا عنْ كلَّياتِ البناءِ والمعالجاتِ الشموليةِ؛ ناهضًا فوق تأويلاتٍ هندسيةٍ، أو ما يُسمّى عنده بالهندسةِ اليوتوبية! فآلياتُ تفكيكِ، وإعادةِ بناءِ مؤسَّسَاتِ الدولةِ، ومن ثمَّ تجاوز الأنساقِ القديمةِ فى زمنٍ لاحقٍ؛ إنَّما يكون ذلك منْ خلالِ مؤسسةٍ واحدةٍ، فلا يسمح "بوبر" بتبديل أو بتصحيحآ  مسارَ المؤسسات داخلَ المجتمعِ دفعةً واحدةً، بل يختار مؤسسةً فى كل فترةٍ من فتراتِ التطورِ، أثناء تأسيس الدولةِ.. وهذا منهجٌ متدرجٌ، يُسوَّغ حدوثَ التجاربِ، والتعديلاتِ المستمرةِ، وربما هذا يدفع بالسياسيين إلى البحثِ عنْ أخطائهم بدلاً من طمْسِها ومحوها، والمجتمعُ فى هكذا تصورٍ، يُخيَّل إلىَّ أنَّه آلي، يتقمّص دورَ الآلةِ بأجزائِها، والتي يمكن صيانتها؛ كلُ جزءٍ على حدةٍ، ممَّا يُسهم فى النّزوحِ بعيدًا عنْ المركزيةِ فى التأويلِ والمعالجةِ لموارد الدولةِ وإمكانياتها الحمَائيّةِ والسياسيةِ . 

إنَّه المجتمعُ المفتوح، بعيدًا عنْ غَوغَائي السّلْطةِ، وجماهير الفلسفاتِ الشموليةِ، ذلك المجتمع الذي يمنح للفرديةِ روحها المهزومة أمام جماعاتِ الحضارةِ الماديةِ؛ والإنسانُ داخلَ هذا المجتمع، إنَّما يكون بمحاولاته النقدية ، محافظا، ومطوَّرًا لموروثاتهِ، والتي تصمدَ أمام النقد العقلاني، فتبرزَ إنسانيتُها؛ وفى المقابلِ نجد أنَّ المجتمعَ المغلق، كما يراه "بوبر" إنما يُقام على حتميّاتِ التاريخ والقانون، وهذا منشؤه هو الخلطُ والتخليطُ بين الطبيعةِ وبينَ القوانين المعيارية، وحزمةِ الأوامرِ والنواهي، أو الوصايا التي يُذيعها نظامٌ قبلي، لا يريد للوائح السّلْطويةِ أن تسقط؛ فتفسيرُ هذا النظام للطبيعة وللعالم، وبالتالي تفسير الدولة؛ يكون تفسيرا سحريا غير موضوعي، يقف على حافة الوَهمِ، وحدودِ الاخْتبَالِ، ومنْ هنا فإنَّ أخلاقَ المجتمع المغلق هي أخلاقٌ استبداديةٌ، فى المقامِ الأولِ.

فالمجتمعُ المغلقُ، يكون خارجًا عنِ النّظرِ النّقدي، ومؤسسَاتُه ذاتَ طابعٍ سحري، تُؤمن بالمصيرِ وحتميتهِ، دونَ اعتبارٍ للمسؤوليةٍ الشخصيةٍ فى تكوين الدولِ؛ فهو مجتمعٌ طبقي، يُباشر جهوده منْ منطلقِ النّسَبِ، والدّمِ والسّلعِ المشتركةِ، والذي أدَّى دوره إلى ظهورِ الكولونية فيما بعد، وتطويع، وإخْنَاعِ المجتمعاتِ الأخرى، ليسقطَ العالمُ أجمع فى فوَّهَةِ الحروبِ، ويبزع نجمُ الراديكاليين، ويصير التَعدَّد داخل الدول أسطورةً، وأحد التابوهات، بعيدًا عن الدولةِ والمجتمعِ المفتوح، اللذينِ يُحاربانِ الشمولية والأصوليةِ، ويمنحانِ الفردَ قيمته.

مقالات اخرى للكاتب

سهير عبدالحميد في حوار للمشهد: فررت من الصحافة للكتابة.. وهذه أسبابي