08 - 05 - 2025

ميشيل وباقى وآخرون

ميشيل وباقى وآخرون

 (أبداً. تخرجت من كلية التجارة جامعة القاهرة. أهوى الموسيقى والغناء، واتلقى دروساً على يد الموسيقار ميشيل المصرى)، أجابنى زميلى فى الوحدة العسكرية رداً على سؤالى بأننى كثيراً ما اسمعه يدندن فى أوقات الاستراحة، ونحن ننتظر دورنا فى طابور الطعام، وفى مساءاتنا متحلقين حول راكية النار فى الصحراء نُعد الشاى المغلى لنحتسيه مع سمرنا وضحكاتنا فى ضوء القمر، فنمتلك الدنيا فى أيدينا. كان ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاماً أثناء الخدمة العسكرية وأيضاً أول مرة اسمع فيها اسم ميشيل المصرى الذى رحل عن دنيانا فى 30 يونيو الماضى.

فى البداية ظننت أنه مجرد مدرس موسيقى يقدم دروسه للهواة. بدأ ميشيل حياته عازف كمان. شارك فى العزف خلف أم كلثوم وفيروز ووزع العديد من ألحان محمد عبد الوهاب، وبليغ حمدى، والكثير من أغنيات عبد الحليم حافظ، ووردة، إلى جانب الموسيقى التصويرية لنحو ستين فيلم ومسلسل منها، ليالى الحلمية، المسلسل التاريخى لا إله إلا الله، من الذى لا يحب فاطمة، عائلة الحاج متولى، الحب فى ظروف صعبة، الجبلاوى، وغيرها.

لُقب بالمصرى اثناء دراسته فى إيطاليا، فالتصق به اللقب. أسس الأوركسترا الإذاعى بالكويت، وأقام بلبنان وتزوج إحدى صديقات فيروز وعمل مع فرقة الرحابنه، ثم عاد لمصر واكمل مشواره معتمداً على تنوع مهاراته. فى موسيقاه نكهة شوارع المحروسة، حواريها، زقاقاتها، مناطقها الشعبية والراقية، موسيقى ندية بمياه النيل، معجونة بآلام وأفراح ابناء البلد، انتصاراتهم وانكساراتهم، وأحلامهم فى غد يخبئ الخير لصباياها وشبابها.

قبل وفاة ميشيل بأسبوع، رحل اللواء باقى زكى يوسف، أحد ابطال القوات المسلحة خلال حرب اكتوبر وصاحب فكرة إزالة خط بارليف بمضخات المياه. (قال لى، وجدت نفسى أرفع يدى وقلت لدى فكرة. فسمح له القائد، فقال له الساتر فيه رمال وربنا وضع لنا الحل تحت أرجلنا وهى المياه التى ستكون أقوى وأسرع من المفرقعات والصواريخ. وصمت الجميع وبدأ يشرح الفكرة بأدق التفاصيل: تُحمل مضخات على أكتاف الجنود ويوجهونها إلى الساتر، وشرح كيف حطمت المياه الرمال أمام السد العالي. عُرضت الفكرة على القيادات حتى وصلت للرئيس عبد الناصر الذى تقابل معه وسمع له وأمر بوضع كل الإمكانات لنجاح الفكرة)، فقرة من مقال صديقه القمص أنجيلوس جرجس بجريدة الأهرام.

غادرنا ميشيل وباقى وآخرون فى صمت، فمن يحكى لأجيال من المحبطين روعة البسطاء العظماء. متى نوثق حياة هؤلاء الرجال ولا نكتفى بمقال يقرؤه بضعة أفراد. نحتاج أفلام ومسلسلات، تثبت قدرة المحروسة على انجاب أفذاذ يستطيعون بإصرارهم وصدقهم تسخير الامكانات البسيطة فى تحقيق نجاحات عظيمة.

افلام وروايات تكتب تاريخ الوطن وتنسينا اسفافاً ينتشر كالجراثيم فى عيوننا وآذاننا. سِيَر أبطال من قبيل سيد زكريا، أسد سيناء، حارب وحده فرقة مظليين إسرائيليين وقضى على 22 منهم قبل استشهاده. العقيد محمد زرد، استولى مع جنوده على سبع نقاط حصينة بعد 50 دقيقة من العبور وضحى بنفسه لفتح النقطة الثامنة فاستشهد على بابها المفتوح. العميد يسرى عمارة آسر العقيد عساف ياجورى. إبراهيم الرفاعى قائد المجموعة 39 قتال وأسطورة الصاعقة. المقدم عبدالجابر أحمد، قائد الكتيبة 35 والشهيرة بـ"أكلة الدبابات"، دمرت كتيبته 140 دبابة، وأشهر جنودها، محمد عبد العاطى، وإبراهيم عبد العال، والسادات محمد فراج، وغيرهم من بسطاء أدوا ما عليهم ثم تواروا خلف ستائر الصمت. ميشيل وباقى وآخرون ينتظرون من يحكى عنهم للأطفال قبل نومهم، حتى إذا ما أشرقت الشمس وفتحوا عيونهم أينعت سنابلهم فى بساتين المحروسة.

----------

بقلم: د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]

 

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد