08 - 05 - 2025

ليس كل الاتحاد قوة ... فبعض الاتحاد كان ضعفاً لا قوة

ليس كل الاتحاد قوة ... فبعض الاتحاد كان ضعفاً لا قوة

لا يرى المراهقون فى دعوة الإخوان لتوحيد صفوف المعارضة إلا دعوة بريئة تدعونا لضم القوة إلى القوة حتى تتعاظم فى مواجهة خطر مشترك، لولا أنها قراءة طفولية تعتمد على ما كنا نقرؤه على أغلفة الكراسات والكتب المدرسية من الحكم والأمثال، كالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يشعر به إلا المرضى، واغسل يديك قبل الأكل وبعده، والقرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود! ... الاتحاد ليس دائماً قوة لطرفى العلاقة، بل قد يكون ضعفاً لكليهما؛ واسوأ أنواع الاتحاد هو ذلك الذى يكون قوة لأحد الطرفين على حساب إضعاف الطرف الآخر كما يحدث فى بعض نماذج الحياة التى تعلمناها أيضاً فى نفس المدارس التى علمتنا دوماً أن الاتحاد قوة دون أى نظرة نقدية لهذه الحكمة المثالية المنفصلة أحياناً عن واقع الحياة عموماً لا عن واقع الحياة الإنسانية فحسب!

دعونا نستدعى ذاكرتنا التاريخية، حتى وإن كانت قد أصابتها التشوهات، ونستفيد من تجربتنا التاريخية، حتى وإن كانت بلا ظلال تُذكر على مسيرتنا حتى الآن نحو المستقبل ... فى أيام الملكية، رأى على باشا ماهر أن يتحالف القصر مع جماعة الإخوان ليستفيد من نشاطها الميدانى فى مناوأة حزب الوفد، وقد استفادت الجماعة بهذه الحاضنة الملكية إلى حد بعيد، فتضخمت بشكل أقلق الملك فاروق بعد أن أحس بالندية التى تتعامل بها الجماعة مع القصر وقد قويت شوكتها وصارت تنافس الوفد والقصر كليهما، حتى صارت الجماعة مع نهايات الحكم الملكى تنهش فى أحشاء النظام الملكى كله، مادياً ومعنوياً، حتى سقط!

سأتجاوز هنا عن تحالف الجماعة بعد ذلك مع تنظيم الضباط الأحرار حتى صارت هى التنظيم السياسى الوحيد الباقى بعد إلغاء كل الأحزاب السياسية المنافسة التى كانت قائمة فى مصر بعد الثورة عدا الجماعة التى وثقت وقتها فى قدرتها على فرض وصايتها على الجيش المتحالف معها، وتوظيفه فى إعادة هندسة الدولة المصرية على نموذج الإخوان المسلمين، ومحو أى أثر للديمقراطية فى مصر، لولا أن كان للجيش رأى آخر وتصورات أخرى!

فى عهد السادات، تحالف حزب الوفد الجديد برئاسة فؤاد باشا سراج الدين مع جماعة الإخوان، ظناً من الباشا فى قدرة الحليف الإخوانى على منح الوفد قوة يلاعب بها نظام السادات وباقى الفاعلين السياسيين على الساحة المصرية ... رحبت جماعة الإخوان بالطبع بهذه الحاضنة الحزبية التى منحتها زخماً سياسياً كانت تحتاج إليه، فكان أن ازدادت الجماعة قوة على حساب الوفد الذى فقد قاعدته الليبرالية التى لم ينجح الحزب فى استعادتها إلى اليوم! ... ثم تحالف الإخوان مع حزب العمل الاشتراكى برئاسة القيادى اليسارى إبراهيم شكرى، فكان أن فقد الحزب قاعدته اليسارية التى استفاد منها تنظيم الإخوان بتوغله فى الأوساط العمالية! ... ولن أتحدث هنا عن تحالف السادات نفسه مع جماعة الإخوان لمواجهة التيارات الناصرية، فقصة هذا التحالف معروفة للجميع، ونهايته أيضاً هى أشهر من أن نقوم بالتذكير بها!

ثم جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير لينضم إليها الإخوان بعد نحو ثلاثة أيام من اندلاعها، وبعد أن بدت واضحة علامات انتصار شباب الطبقة الوسطى بما قدموه من تضحيات ومن دماء؛ غير أننى لا أستطيع أن أنكر دور شباب الإخوان بعد ذلك فى التصدى لمواجهات كثيرة مع قوى النظام، كما لا أنكر أن الكثيرين - وربما كنت منهم - قد حداهم الأمل فى أن تكون أجواء الميدان والعيش المشترك فيه قد أزالت الشكوك المتبادلة بين جماعة الإخوان وغيرها من أطياف المجتمع المصرى، إلا أننا رأينا بعد ذلك كيف استفاد الإخوان من هذا التكاتف الميدانى، ففرضوا وصايتهم على الثورة، حتى ظهروا بمظهر القوة الوحيدة القادرة على التحكم فى الشارع المصرى، مما جعلهم يفاوضون المجلس العسكرى للحصول على نصيب الأسد من المكاسب السياسية، وتحويل دفة مشروع الثورة بالكامل لصالح مشروع الإخوان السياسى!

هذه بعض تجارب التاريخ التى تكشف لمن له عينان للرؤية استراتيجية الإخوان الدائمة، فهى تسعى دائماً للتحالف مع غيرها من قوى المجتمع حتى تشحن بها قوتها الذاتية، فتتضخم على حساب باقى القوى المجتمعية ... هذا هو تحديداً ما تسعى إليه الجماعة الآن، أعنى أن لا أحد يمكنه أن يعزو إصرار الجماعة على مطالبة غيرها من تيارات المعارضة بالاعتذار عن مواقفها السياسية والتاريخية، والاعتراف بالشرعية التى تؤمن بها الجماعة، والانضواء تحت لوائها، إلا بأنه تكرار لنفس الاستراتيجية، وهى الإيهام بقوة الجماعة، وبأنها القادر الوحيد على إحداث التغيير فى المجتمع؛ ثم بعد اصطياد القوى الأخرى فى هذه المصيدة، تشحن الجماعة قوتها من جديد على حساب كل من سقطوا فى فخ التحالف معها، ولو كانوا من الجماعات الإسلامية الأخرى!

لو كان لدى الجماعة نية حقيقية للعمل من أجل إنقاذ الدولة المصرية - لا إنقاذ الجماعة - لأنهت وفوراً هذا الهذيان الذى ينادى بشرعية ممتدة للدكتور مرسى بعد ست سنوات من انتخابه، ولرفعت مع غيرها من قوى المعارضة لواء شرعية الدولة المصرية التى ينتهكها كل يوم عبد الفتاح السيسى ... لكننى أؤكد أن ليس للجماعة نية العمل من أجل إنقاذ الدولة، وإنما هى تريد فقط استدراج الجميع لشراكها تحت دعوى التحالف من أجل الشرعية التى تريدها أن تكون مسمار جحا الذى يضمن لها قيادة جبهة المعارضة أياً كانت قوتها الفعلية على الأرض ... وإذا لم تفطن تيارات المعارضة غير الإخوانية لهذا الشرك فإنها ستكرر نفس أخطاء الماضى، وسنبقى ولأمد غير منظور نشحن بطارية الجماعة بغفلتنا وعدم ثقتنا بقدرة مؤسسات الدولة وجموع الشعب المصرى على إحداث التغيير المأمول بانعتاق مصر والمصريين من هذه الثنائية التى أبقتنا - ولعقود طويلة - أسرى وراء قضبان المحبسين!

الاتحاد الصحى بين تيارات المعارضة له شروط يتحول بغير تحققها إلى كارثة، وأولها وجود برنامج مشترك، ومبادئ مشتركة، وتعاريف مشتركة لكل المصطلحات والمفاهيم، والأهم من كل ذلك ضمانات "إجرائية" بعدم تكرار ألاعيب الماضى، وكلها أمور لن يقبل بها الإخوان تحت أى ظرف من الظروف، مكتفين بما هم عليه من مراوغات ولعب بالمصطلحات، وعلى رأسها مصطلح "الشرعية" الذى ترفع الجماعة لواءه لتخدع بظاهره المراهقين المتعجلين للالتحاق بركب القوى، أو من يبدو عليه أنه كذلك؛ وهو ما يجب أن يحذر منه الجميع!

قديماً قال أرنولد توينبى أن الفرق بين تاريخ الإنسان وتاريخ الفئران هو أن الفأر يمكن اصطياده اليوم بنفس المصيدة التى أوقعت بها أجداده منذ آلاف السنين! ... وقد علمنا التاريخ الإنسانى أن ليس كل الاتحاد بالضرورة قوة، بل قد يجلب الاتحاد إذا لم تكتمل شروطه ضعفاً لبعض أطرافه لا قوة فيه!

مقالات اخرى للكاتب

أسئلة الطريق