مازال الدكتور حمزة زوبع يحادثنا من داخل دائرة المراوغات الإخوانية بتبنيه حديث "المظلومية" الذى عُرِفت به الجماعة، ولا أعنى به فقط حديث الدماء التى سالت، والأعمار التى أهدرت داخل السجون والمعتقلات، وإنما أيضاً حديث الشعور بالكراهية، فكل من يخالف الإخوان عنده إنما يخالفهم لأنه يكرههم ! ...
حديث الحب والكراهية هذا هو حديث مظلومية لا يمت بصلة لحديث المواقف السياسية الذى هو حديث الاتفاق والاختلاف، أو حديث القبول والرفض ... لم أنكر يوماً موقفى السياسى الرافض لمشروع جماعة الإخوان السياسى، بيد أن هذا الرفض لا صلة له بأى حال من الأحوال بمشاعر حب أو كراهية تجاه المنتمين للتنظيم أو المتعاطفين والمتحالفين معه.
أستطيع ومعى كثيرون أن نتجرد من مواقفنا السياسية لندافع عن حق خصومنا السياسيين فى محاكمات عادلة إن كانت توجد ضدهم صحائف اتهام قانونية متماسكة وغير مسيسة، كما نرفض ظلم أى إنسان - إخوانياً كان أو غير إخوانى - واعتقاله بغير محاكمة، كما نرفض اتهام أى إنسان على هويته الإخوانية بأنه إرهابى، إلى آخر هذه المواقف المبدئية التى لا يمكن أن تكون وليدة مشاعر حب أو كراهية، وإنما هى وليدة مواقف مبدئية تحكم القبول أو الرفض لما يستقيم أو لا يستقيم مع تكويننا الفكرى والأخلاقى ...
... لى زملاء فى الجامعة أختلف معهم لدرجة بعيدة فى مواقفهم السياسية، وهم موزعون على كافة الأطياف الفكرية، بعضها يتماهى مع فكر الإخوان، وبعضها الآخر أبعد ما يكون عن اللون الإخوانى؛ ورغم اختلافنا هذا فى المواقف الفكرية والسياسية فإننا نحتفظ لبعضنا البعض بعلاقات إنسانية وعلمية تليق بأبناء شعب متحضر مثل الشعب المصرى ... لكنه - على ما يبدو - بحث الإخوان الدائم عن "المظلومية" الذى يدفع الدكتور زوبع وغيره من جماعة الإخوان ومشايعيها للحديث المستمر عن كونهم ضحايا الكراهية!
هالنى أيضاً أن يأخذ الدكتور زوبع حديثى عن علاقة الجيش بسؤال الشرعية على هذا النحو الذى أراه يتكرر فى تعليقات الإخوان ومشايعيهم من أننى أقول بأن الجيش هو صاحب الكلمة الأخيرة فى حسم سؤال الشرعية، وهو ما لم يرد على لسانى ولا هو خطه قلمى فى أى يوم من الأيام ! ... ما أقوله فقط هو أن شرعية الرئيس لا تكتمل إلا باكتمال قدرته على ممارسة وظيفته كقائد أعلى للقوات المسلحة، وهو ما يعنى ضرورة أن يحظى الرئيس بثقة الجيش حتى ولو كان قد حصل على مئة بالمئة من أصوات الناخبين، فما بالنا بالذى لم يحصل إلا على واحد وخمسين بالمئة ... ومن ثم - بمنطق الهندسة العكسية - فإن الرئيس إذا فقد هذه الثقة، أو هو عجز عن إدارة علاقته بالجيش إدارةً حصيفة، فإنه يفقد قدرته على ممارسة دوره كقائد أعلى للقوات المسلحة، ومن ثم يفقد ركناً مهماً من أركان شرعيته كرأس للدولة ... أعتقد أن المنطق فى هذا الحديث أوضح من أن أزيده إيضاحاً، وليس من الأمانة التقول علىّ بما لم أقل، أللهم إلا إذا كان الأمر سهواً وهو ما أشك فيه ! ... أخشى ما أخشاه أن يكون ذلك استمراراً لمنطق الإخوان الذى لم ينجح الدكتور زوبع فى الإفلات من قبضته، وهو العمل على إفقاد الخصوم السياسيين الاعتبار حتى لا تجد الحقيقة ولا تجد نزاهة واتساق المواقف لهما ملاذاً إلا تحت راية الإخوان !
ينقلنى هذا لملاحظة هامة على حديث الدكتور زوبع مساء الخميس الماضي تتعلق بتكراره لضرورة اعتراف كل من شارك فى الثلاثين من يونيو بخطئهم، والاعتذار لجماعة الدكتور مرسى عن هذا الخطأ ولو اعتذاراً مؤجلاً ! ... هكذا يكرر الدكتور زوبع ومن هم فى معسكره المطالبات بإجلاس كل من خالف موقفه السياسى موقف الإخوان على كرسى الاعتراف : "يبوس القدم، ويبدى الندم على غلطته فى حق الصنم"، وأعنى بالصنم ما يصرون على أنه "الشرعية" التى لا تعريف لها عندهم إلا ما كان منها وليد الصندوق عند لحظة قاموا بتجميدها فى الزمن ولا يريدون الاعتراف بأنها قد تآكلت بفعل عوامل التعرية السياسية على مدى أكثر من ست سنوات مضت!
يزعجنى أيضاً حديث الدكتور زوبع وغيره من مشايعى الإخوان، من داخل وخارج التيار الإسلامى، عن ضرورة توحيد كل ألوان الطيف المعارض لحكم عبد الفتاح السيسى تحت اللواء الذى يرفعه معسكر الدكتور زوبع وصحبه! ... حجة هؤلاء هى ضرورة نسيان ماضى أخطاء الإخوان، والتوحد حول هدف وحيد هو إسقاط حكم السيسى؛ وكأن الماضى ليس جزءاً من الحاضر، أو كأنه لا يطل برأسه ليعود من جديد بوعود جديدة تبدأ معها رحلتنا مع قصة النهضة من جديد ! ... إسقاط السيسى ليس هدفاً فى ذاته، وإنما الهدف هو انعتاق مصر من نير الاستبداد والتخلف؛ ولو كان السيسى قد سار بمصر فى طريق غير الطريق، ولو كان الإخوان من قبله قد ساروا بمصر فى مسارات غير تلك التى أخذوها فيها، ما كنا قد وصلنا لما وصلنا إليه، وما كانت هناك حاجة بالأمس لإسقاط حكم الإخوان، ولا كانت هناك حاجة للحديث اليوم عن مصر ما بعد السيسى!
نخطئ خطأُ تاريخياً جسيماً إن نحن اعتقدنا أن القضية هى أن يرحل السيسى، تماماً كما أخطأنا من قبل حين اعتقدنا أن القضية هى أن يرحل مبارك، أو أن القضية هى أن يرحل مرسى ومعه مكتب الإرشاد ... القضية الحقيقية كانت وستبقى قضية المابعد، وهى قضية لا يمكن أن نقف فيها مع تنظيم الإخوان على رصيف واحد وتحت لواء واحد! ... الأمر - مرة أخرى - لا علاقة له بمشاعر حب أو كراهية، وإنما باختلاف مواقعنا الفكرية، وبنظرة كل منا لمصر التى نتوهم أحياناً أننا نتفق على معرفتها؛ يتعلق الأمر أيضاً باختلافات جوهرية بيننا حول مفهوم الدولة التى نظن أنها لا تحتاج منا إلا صندوق اقتراع نعتقده كفيلاً وحده بأن يعيدها إلينا، دونما مجهود نبذله أولاً لتعريف هذه الدولة والتعرف على ملامحها، فساعتها سوف تنطلق فى وجوهنا كل شياطين التفاصيل، وتنفجر فينا كل شرور ما ورثناه من تشوهات العهود الماضية ! ... ما بيننا وبين الإخوان - أعنى التنظيم لا البشر - هو بالأحرى خلاف وجودى يتعلق بتعريف الأمة، وتعريف الدولة، وتعريف المستقبل؛ ولا أعتقد أن ثمة أملاً فى أن نلتقى معاً حول ما نختلف بشأنه، اللهم إلا إذا تركنا المراوغات تعمينا عن حقيقة هذه الأزمة الوجودية، فتغرقنا بأوهامنا ونحن نبحر لاهين فى يحار التاريخ !
قد يستجيب البعض لدعوة الدكتور زوبع بالاعتذار عن الثلاثين من يونيو، ولو كان اعتذاراً مؤجلاً على حد قوله؛ وقد يستجيب منهم من يستجيب للانضواء تحت لواء الإخوان، أو تحت لواء مشروعهم الذى يتدثر بعباءات تسر الناظرين؛ لكننى أثق فى أن كثيرين - وأنا منهم - لن يقدموا أى اعتذار، لا الآن ولا مستقبلاً، لا آجلاً ولا عاجلاً، وأن هؤلاء - وأنا منهم - لن يصطفوا أبداً تحت أى ظرف من الظروف على رصيف واحد مع مشروع الإخوان ... لنا رصيفنا ولهم رصيفهم، وهو ما يعنى أننا لا نصادر حق أحد فى أن يستمر فى مسعاه لإقامة الدولة التى يحلم بها إن استطاع إلى ذلك سبيلاً ... نعلم أن الطريق صعب ووعر، علينا أكثر مما هو على الإخوان، لكن منذ متى كانت الطرق السهلة هى التى تؤدى إلى الخلاص؟!
فليمض الإخوان إذن فى طريقهم لإقامة دولتهم، بل أدعوهم بحرارة وبمنتهى الصدق لبذل كل جهد ممكن للعودة إلى حكم مصر "إن استطاعوا"، دون أن يجاملونا ودون أن نجاملهم؛ فلا نريد فى مقبل الأيام أن يبرر أحد الطرفين فشله بأنه كان يفسح الطريق لمنافسه! فلكل منا رؤيته، ولكل منا رهاناته، ولكل منا قدراته، تواضعت هذه القدرات أو عظمت؛ وإذا كان الدكتور زوبع، وهو لسان حال فريق من الإخوان، يرى أن لا خلاص لمصر بغير الإخوان، فإننا لا نسلم بوجهة نظره هذه ولا نحن نقر بها، وإنما نقر فقط بأن لا خلاص لمصر من أزمتها إلا بقراءة خريطة أهلها الثقافية قراءة "جامعة" نصل بعدها للمشترك العام الذى يتقاسمه كل المصريين ...
... الصحيح عندى وعند كثيرين غيرى هو أن لا خلاص لمصر بغير مشاركة كل أطياف الشعب المصرى، بعسكرييه ومدنييه، بمسلميه ومسيحييه، بإسلامييه وعلمانييه، بليبرالييه ويسارييه، بشيوخه وشبابه، برجاله ونسائه، تحت لواء الدولة المصرية ذات العمق التاريخى لا تحت أى لواء آخر ... أما الإخوان فهم مجرد فصيل إسلامى واحد، كبر حجم هذا الفصيل أو صغر ... نطالب لهم بالعدل، أما الجماعة - التى هى التنظيم - فلها أن ترى العالم بعيونها كما يحلو لها أن تراه، وأن تستغرق فى أوهام التمكين وأستاذية العالم ما شاءت لها قدراتها أن تستغرق فى هذه الأوهام !
أخيراً، أدعو الله صادقاً أن يوفق الإخوان فى مسعاهم إن كانوا على الحق وكنا على الباطل، أو أن يحبط مسعاهم إن كانوا هم على الباطل وكنا نحن على الحق، أو أن يبطل مسعانا وإياهم إن كنا جميعاً على الباطل وليأتى من بعدنا بمن عساه يكون على الحق ! ... من يدرى؟ فربما كان حل المعضلة المصرية هو أن يُذهِبنا الله جميعاً ويأتى بخلق جديد يصلحها بإصلاح ما أفسدناه نحن من أمرها، فهى لم تعد تحتمل أمراضنا المزمنة، ولا هى عادت تحتمل منا مراوغة سنن التاريخ!